الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثانيًا: صفات المعاني
سبقت الإشارة إلى بيان مذهب الأشاعرة فيما أثبتوه من الصفات التي أطلقوا عليها صفات المعاني، حيث اعتقدوا فيها إثبات معنى قائم بالذات على خلاف غيرها من الصفات.
وفى تحقيق قيامها بالبارى تعالى على جهة يصح إثبات اتصافه بها، يقول الباقلانى: "فإن قال قائل: ولم قلتم إن للقديم تعالى حياة وعلمًا وقدرة وسمعًا وبصرًا وكلامًا وإرادة؟
قيل له: من قبل أن الحى العالم القادر منا إنما كان حيًا عالمًا قادرًا متكلمًا مريدًا؛ من أجل أن له حياة وعلمًا وقدرة وكلامًا وسمعًا وبصرًا وإرادة، وأن هذه فائدة وصفه بأنه حى عالم قادر مريد.
يدل على ذلك أن الحى منا لا يجوز أن يكون حيًا عالمًا قادرًا مريدًا، مع عدم الحياة والعلم والقدرة، ولا توجد به هذه الصفات إلا وجب بوجودها به أن يكون حيًا عالمًا قادرًا، فوجب أنها علة في كونه كذلك، كما وجب أن تكون علة كون الفاعل فاعلًا، والمريد مريدًا: وجود فعله وإرادته، التي يجب كونه فاعلًا مريدًا لوجودها، وغير فاعل مريد بعدمها، فوجب أن يكون الباري سبحانه ذا حياة وعلم وقدرة وإرادة وكلام وسمع وبصر، وأنه لو لم يكن له شيء من هذه الصفات، لم يكن حيًا ولا عالمًا ولا قادرًا ولا مريدًا ولا متكلمًا ولا سميعًا ولا بصيرًا يتعالى عن ذلك" (1).
وفى بيان ذلك، يقول الشهرستانى مقررًا ما قام عليه مذهب الأشعري: "قال أبو الحسن: الباري تعالى عالم بعلم، قادر بقدرة، حى بحياة، مريد بإرادة، متكلم بكلام، سميع يسمع، بصير يبصر، وهذه الصفات أزلية قائمة بذاته تعالى، لا يقال: هي هو، ولا هي غيره، ولا هو، ولا غيره.
(1) التمهيد: 227.
وعلمه واحد يتعلق بجميع المعلومات: المستحيل، والجائز، والواجب، والموجود، والمعدوم، وقدرته واحدة تتعلق بجميع ما يصلح وجوده من الجائزات، وإرادته واحدة تتعلق بجميع ما يقبل الاختصاص.
وكلامه واحد هو أمر، ونهى، وخبر، واستخبار، ووعد، ووعيد، وهذه الوجوه ترجع إلى اعتبارات في كلامه لا إلى عدد في نفس الكلام، والعبارات والألفاظ المنزلة على لسان الملائكة إلى الأنبياء عليهم السلام: دلالات على الكلام الأزلى والدلالة مخلوقة محدثة، والمدلول قديم أزلى.
والكلام عند الأشعري: معنى قائم بالنفس سوى العبارة، والعبارة دلالة عليه من الإنسان فالمتكلم عنده من قام به الكلام، وإرادته واحدة قديمة أزلية متعلقة بجميع المرادات من أفعاله الخاصة وأفعال عباده من حيث إنها مخلوقة له لا من حيث إنها مكتسبة لهم، وأن السمع والبصر للبارى تعالى صفتان أزليتان هما إدراكان وراء العلم يتعلقان بالمدركات الخاصة بكل واحد بشرط الوجود" (1)
رأى الشيخ الصاوي:
يبدأ الصاوي أولًا ببيان ما تسمى به هذه الصفات، يقول: "صفات المعانى تسمى: الصفات الذاتية؛ لأنها لا تنفك عن الذات.
والصفات الوجودية؛ لأنها متحققة باعتبار نفسها".
وفى بيان المراد بها، يرى أن معناها "في اللغة: ما قابل الذات فشمل النفسية والسلبية".
أما في الاصطلاح، فهى:"كل صفة قائمة بموصوف، زائدة على الذات، موجبة له حكمًا".
ويسير على نفس المنوال الذي سار عليه في الصفات السلبية، حيث يفصل القول في كل صفة على حدة، مبتدئًا ببيان المراد منها، متممًا بالاستدلال لها، منتهيًا بذكر
(1) الملل والنحل: 96 - 101. بتصرف يسير.
تعلقاتها، ويعتمد في الاستدلال لصفة القدرة، والإرادة، والعلم، والحياة على العقل؛ بحجة أن العالم لا بد لوجوده منها، وإلا لما وجد العالم، أما الكلام والسمع والبصر، فإنه يرى أن دليلها سمعى، إذ لا يتوقف على إثباتها وجود العالم، ومع ذلك فإنه يذكر طريق من أثبتها بالعقل بناءً على قضية التقابل بين العدم والملكة؛ فلو لم يتصف بها لاتصف بضدها، والنقص عليه محال، إلا أنه يشكك في صحة هذا الطريق لأنه مبنى عنده على قياس القديم على الحادث، فـ "كل كمال في حق الحادث لا يلزم أن يكون كمالًا في حق الله؛ ألا ترى الزوجة والولد فإنها كمال في حق الحادث لا القديم". (1)
ويبدأ الحديث أولًا عن صفة: القدرة، فيقول:"معناها في اللغة ما قابل الذات فشمل النفسية والسلبية".
اصطلاحًا: "صفة أزلية قائمة بذاته، زائدة عليها، يتأتى بها إيجاد كل ممكن وإعدامه وفق الإرادة".
ثم يستدل لها بالعقل، فيقول:"الله صانع قديم، له مصنوع حادث، وكل ما كان كذلك لا بد له من قدرة يوجد بها الأشياء ويعدمها، فينتج الله لا بد له من قدرة".
فتعلق الإرادة عنده مقصور على الممكن؛ إذ الواجب والمستحيل مما لا تعلق للقدرة بهما "لأنها إن تعلقت بالواجب فإما أن تعدمه وهو محال، وأما أن توجده وهو تحصيل الحاصل، وإن تعلقت بالمستحيل إما أن تتعلق بإعدامه وهو تحصيل الحاصل، أو بإيجاده وهو محال، فتخلف قدرة الله عن تعلقها بالواجب والمستحيل ليس بعجز".
* * *
ثانيًا: الإرادة وهى "لغة: القصد، اصطلاحًا: صفة أزلية زائدة قائمة بذاته تعالى شأنها التخصيص للممكن ببعض ما يجوز عليه".
(1) حاشية جوهرة التوحيد: 25. وانظر: حاشية الخريدة البهية: 79.
ثم يبين أقسام الممكن بهذه الأبيات:
الممكنات المتقابلات
…
وجودنا والعدم والصفات
أزمنة أمكنة جهات
…
كذا المقادير روى الثقاة.
وفى الاستدلال لها، يقول:"الله صانع للعالم بالاختيار، وكل ما كان كذلك يجب له الإرادة، فينتج الله تجب له الإرادة".
* * *
ثالثًا: العلم، يقول في بيانها:"هي صفة أولية قائمة بذاته تعالى، تتعلق بالواجبات والجائزات والمستحيلات تعلق إحاطة وانكشاف".
والدليل: "أن تقول الله صانع للعالم صنعًا متقنًا بالإرادة والاختيار وكل ما كان كذلك يجب له العلم، فينتج الله يجب له العلم".
* * *
رابعًا: الحياة، "وهى صفة أزلية قائمة بذاته تقتضى صحة العلم والقدرة والإرادة والكلام والسمع والبصر" وهذه هي الصفة الوحيدة التي لا يرى لها متعلقًا؛ إذ لا يقتضى الاتصاف بها "أمرًا زائدًا على قيامها بمحلها".
دليلها: "أن تقول: الله تعالى متصف بالقدرة والإرادة والعلم، وكل من كان كذلك تجب له الحياة، فينتج الله تجب له الحياة"(1).
* * *
خامسًا: الكلام، وهذه هي الصفة الخامسة من صفات المعانى، وهى" صفة أزلية قائمة بذاته ليست بحرف ولا صوت، منافية للسكوت والآفة، تتعلق بالواجبات والجائزات والمستحيلات تعلق دلالة".
ويستند في نفى الصوت والحرف إلى أن هذا يقتضى إنشاءه تعالى للكلام في
(1) حاشية الجوهرة: 25. وحاشية الخريدة: 85.
ذلك الوقت؛ مما يؤدى إلى تجويز السكوت عليه قبل إنشائه له، وقيام الحوادث به ومعلوم أن هذا عنده من المحال، كما أنه حتى يقرر ما عليه مذهب الأشاعرة من أن الكلام معنى واحدًا؛ يقول في وصف سماع موسى عليه السلام لكلامه تعالى: أي "أزال الحجاب عنه حتى سمع كلامه بجميع أجزائه من جميع جهاته لا أن الله أنشأ له الكلام؛ لأن الله سبحانه وتعالى دائمًا متكلم يستحيل عليه السكوت والآفة". (1)
ولإزالة ما يحصل بالنفس من استبعاد لمثل هذا السماع الذي يحصل بلا صوت ولا حرف على حد قوله، فإنه يرجع الأمر لقدرة الله تعالى فـ "كما يكون لنا في الآخرة عند رؤية ذاته جل شأنه بلا كيف ولا انحصار" جاز سماعه عليه السلام له بهذه الكيفية. (2)
ثم لما تعارف الناس على أن هذا القرآن هو كلام الله تعالى مع أنه بحرف كما هو معلوم بين أن هذا من حيث المجاز لا الحقيقة الشرعية، يقول:"واعلم أن كلام الله يطلق بالاشتراك على الحسي وعلى النفسي، الذي هو الصفة القديمة، فهو حقيقة عرفية في كل، فالحسي ما كان بحرف وصوت مدلوله بعض مدلول الكلام النفسي القديم القائم بذاته تعالى، والنفسى ما ليس بحرف ولا يوصف بتقديم ولا تأخير ولا تقسيم ولا بداية ولا نهاية". (3)
ودليله في ذلك بيت الأخطل المشهور عند الأشاعرة:
إن الكلام لفى الفؤاد وإنما
…
جعل اللسان على الفؤاد دليلًا (4)." (5)
وهو مع هذا ينسب لفظه ومعناه إلى الله تعالى، فالمعنى هو كلامه النفسى القديم، ولفظه هو الذي أوجده فتلقه عنه جبريل ومن ثم محمد صلى الله عليه وسلم: "والحاصل
(1) حاشية الجلالين: (2/ 89).
(2)
المرجع السابق: (3/ 203).
(3)
حاشية جوهرة التوحيد: 25.
(4)
البيت لا يوجد في ديوان الأخطل المطبوع: انظر: ديوان الأخطل، شرح راجى الأسمر، دار الكتاب العربي.
(5)
حاشية الخريدة البهية: 85.
أنه ينسب لله من حيث إيجاده ولجبريل من حيث تلقيه عن الله، ولمحمد من حيث تلقيه عن جبريل" (1).
* * *
سادسًا: السمع والبصر، وكل واحدة منهما "صفة أزلية قائمة بذاته تعالى تتعلق بجميع الموجودات تعلق إحاطة وانكشاف"، "فيسمع الأصوات ولو خفية جدًا كدبيب النملة السوداء في الليل المظلم، ويبصر الأشياء ولو دقيقة، ولكن سمع الله ليس بصماخ وآذان، وبصره ليس بحدقة وأجفان، ليس كمثله شيء".
ثم يجمل الاستدلال على هذه الثلاث، بالنقل والإجماع واللغة، يقول:"ودليل هذه الصفات الثلاثة نقلى من الكتاب والسنة والإجماع والتواتر، قال تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164]، {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}، وأجمع أهل الأديان والعقلاء على أنه سميع بصير متكلم، ، والمشتق يدل على المشتق منه خلافًا للمعتزلة النافين للمعانى، حيث قالوا: سميع بلا سمع بل بذاته". (2)
والصاوى يثبت ما أثبته شيخه الدردير من وجود صفات حادثة لله تعالى عبر عنها بالتعلق التنجيزى الحادث لصفات المعاني، يقول:"اعلم أن صفات الله كلها عظيمة قديمة إلا صفات الأفعال؛ فإنها وإن كانت عظيمة إلا أنها ليست قديمة". (3)
ولكنه مع ذلك لا يثبتها على جهة الحقيقة تخلصًا من إلزامه بتجويز قيام الحوادث في ذات الرب تعالى، بل يرجعها إلى أمور اعتبارية لا تخرجها عن العدم، يقول: "ولا يلزم قيام الحوادث بذاته إلا إذا كانت تلك الصفات الحادثة المتصف بها وجودية كالبياض والسواد ونحوهما، وأما إذا كانت الصفات الحادثة المتصف بها اعتبارية لا
(1) حاشية الجلالين: (4/ 232).
(2)
حاشية جوهرة التوحيد: 26. وحاشية الخريدة البهية: 79. وانظر: في صفة الكلام حاشية الجلالين: (3/ 158 - 20/ 342 - 243).
(3)
المرجع السابق، وانظر: حاشية الجلالين: (1/ 18).
وجود لها في الخارج ولا ثبوت، فلا يلزم قيام الحوادث بذاته لأن الأمر العدمى الاعتبارى لا يقوم بشيء". (1)
* * *
المناقشة:
مما يلحظ أن في تقسيم الصاوي للصفات الذاتية من حيث الدليل إلى عقلية وسمعية، وأن العقلية هي ما يتوقف العالم على وجودها، والسمعية هي التي لا توقف لوجود العالم عليها، تقديم لمنزلة الدليل العقلى على السمعى، وقد سبقت الإشارة إلى أن السبب في ذلك يرجع إلى اعتقاد المتكلمين في أنه لا يمكن إثبات وجود الله تعالى متصفًا بالصفات التي يمكن بها وجود العالم إلا بالعقل، فنفى غالبهم إمكان معرفته سبحانه بغير ذلك، ولما كان الدليل السمعى لا يخرج عن الدلالة الخبرية المحضة - عندهم - استحال أن يستدل به على جهة الاستقلال في مثل هذه المهمات.
وقد تقدم الرد عليهم، ويمكن إجماله هنا للأهمية بأن معرفة الله تعالى متصفًا بصفات الكمال مما قد فطرت النفوس عليه، فدليلها معلوم ببداهة الفطرة، ولا اقتصار على دلالة العقل هنا، ثم إن دليل السمع الصادق دليل يشتمل على البراهين العقلية التي تجزم بصدق دلالتها على كل ما أمر الشرع بالإيمان به استنادًا إلى تمام الدين وكماله، قال تعالى:{وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان: 33].
كما أن ما احتج به الصاوي على عدم صحة الاستدلال بالقياس لباقى صفات المعانى غير صحيح؛ حبث اعتمد في تضعيفه لهذا المسلك بأنه يجعل من الحادث مقياسًا للكمال الذي يجب أن يتصف به القديم، والحال الذي يقطع به المشاهد أنه ليس كل ما كان كمال في حق الحادث صح أن يتصف به الرب تعالى.
(1) حاشية الخريدة البهية: 89.
ولبيان وجه الصواب هنا لا بد أولًا من معرفة القياس الذي يصح استعماله في حق المولى تعالى، وذلك أنه قد دلت آيات القرآن الكريم على أن الذي يصح في حقه تعالى هو قياس الأولى، قال تعالى:{وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} [النحل: 60]، وعليه فإن كل كمال في حق المخلوق لا نقص فيه بوجه من الوجوه هو كمال في حق الخالق تعالى، وبهذا تنتفى الشبهة التي ذكرها؛ إذ الولد في حق المخلوق يستلزم من أنواع النقص ما يجزم بامتناع اتصاف المولى به سبحانه وتعالى. (1)
كما أن في منعه للقياس بشتى صوره، مناقضة للأصل الذي بنى عليه ما أثبته من الصفات بالعقل؛ فإنه حين استدل على وجوب اتصافه تعالى بالعلم والإرادة والقدرة والحياة استند في ذلك على القياس، وأخص منه قياس الغائب على الشاهد.
والذي نخلص إليه هنا أن صفات الله تعالى مع كون الأصل الذي يدلنا عليها هو الكتاب والسنة، إلا أنه يمكن الاستدلال لها بالعقل بناء على أنها من الكمال الذي يجب في حق الله تعالى؛ فلو لم يتصف بها لاتصف بضدها والنقص عليه محال.
ولكفاية الطرق الشرعية في الدلالة على مسائلها؛ فإن هذا الأصل يرجع إلى قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} ، أي "الكمال المطلق المتضمن للأمور الوجودية والمعانى الثبوتية، التي كلما كانت أكثر في الموصوف وأكمل، كان أعلى من غيره"(2)
هذا من حيث الاستدلال، أما على جهة التفصيل، فإن إثباته للصفات بالطريقة التي ذكرها، مع تفسيره للتعلق بأنه أمر اعتبارى يرجع إلى العدم، لا حقيقة له في الذهن فرارًا من إثبات حوادث يتصف بها المولى على جهة الحقيقة، فإن مناقشته في هذه تتأتى من جهتين:
(1) انظر: مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام: (6/ 87).
(2)
الصواعق المرسلة لابن القيم: (3/ 1031)، وانظر: شرح العقيدة الأصفهانية لشيخ الإسلام: 151.
الأولى: إذا كان الأمر بهذه الصورة فما معنى إثبات أفعال اختيارية حادثة لله تعالى؟ فمن غير المستساغ عقلًا ولا لغةً إثبات أمر لا حقيقة له، يرجع مفهومه إلى العدم؛ "لأن العقل الصحيح حكم حكمًا لا يتطرقه شك بأنه لا واسطة بين النقيضين البتة، فالعقلاء كافة مطبقون على أن النقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان ولا واسطة بينهما البتة، فكل ما هو غير موجود فإنه معدوم قطعًا، وكل ما هو غير معدوم فإنه موجود قطعًا". (1)
أما من الجهة الثانية فإن هذا المفهوم لحقيقة التعلق كما صرح به الصاوي يؤدى إلى إثبات صفات ذاتية قديمة، تعلقها بما تتعدى إليه على جهة الحدوث والتجدد لا حقيقة له، "لأن حدوث النسب بدون حدوث ما يوجبها ممتنع، فلا تكون نسبة وإضافة إلا تابعة لصفة ثبوتية: كالأبوة والبنوة والفوقية والتحتية والتيامن والتياسر؛ فإنها لا بد أن تستلزم أمورًا ثبوتية". (2)
* * *
- وبالتالى فإن حقيقة ما يؤول إليه إثباته لصفة الإرادة على هذا الوجه الذي ذكره أمر محدث مخالف للأدلة الشرعية والعقلية، ومن ذلك قول الله تعالى:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82]، فإن كلمة إذا "ظرف لما يستقبل من الزمان. فقوله:(إذا أراد) ونحو ذلك يقتضى حصول إرادة مستقبلة ومشيئة مستقبلة" (3)
فإن اعتقاد قدم الباري تعالى وحدوث كل هذه الموجودات على جهة الاختيار والإرادة؛ ملزم باعتقاد اتصافه تعالى بإرادة حادثة، ينتج عنها فعل حادث مخصص لحدوث هذه المخلوقات وقت خروجها من العدم إلى الوجود، وهذا لا ينافى اتصافه تعالى بإرادة قديمة "فإن إرادته للمستقبلات هي مسبوقة بإرادته للماضى"(4)
(1) أضواء البيان للشيخ الشنقيطى: (2/ 277).
(2)
جامع الرسائل لشيخ الإسلام: (2/ 18).
(3)
المرجع السابق: (2/ 14).
(4)
انظر: جامع الرسائل: (2/ 39).
واعتقاد خلاف يلزمه أحد أمرين: اما حدوث المخلوقات بلا سبب يخصص أحد الأوقات وهذا مما لا يقبله العقل، وإما أن يمتنع القول بحدوث الموجودات ويحكم لها بالقدم مماثلة لقول الفلاسفة الملحدين، ولما علم أن هذا ليس هو اعتقاد المتكلمين من الأشاعرة حيث كانوا من أشد الناس عداء لهم، لزم عليهم اعتقاد الأول، وقد سبقت الإشارة إلى هذا القول من الأشاعرة كان سببًا لهجوم عنيف شنه عليهم المخالفون في حدوث العالم، وهذا ما كان من ابن رشد الذي تحدث على لسان الفلاسفة حيث ألزم المتكلمين بلوازم مذهبهم الباطل، وبين أن هذا الاعتقاد لا يسلم لهم القضية الكبرى التي لا ينازع فيها أحد، وهى اعتقاد أن كل حادث له محدث.
- أما عن صفة الكلام فقد أثبت الصاوي لله تعالى كلامًا قائمًا بالنفس، ليس بحرف ولا صوت، لا تعلق له بالإرادة، على معنى واحد لا يوصف بتقديم ولا تأخير ولا بداية ولا نهاية.
وكل هذا مخالف لما عليه سلف الأمة، ويقطع ببطلانه ما ثبت باللغة والعقل والشرع.
أما اللغة فمن المسلم أن الأبكم الذي لا يستطيع الكلام، مع ما يجول في نفسه من معانٍ قد يعبر عنها بالإشارة لا يعد متكلمًا عند أحد من الناس، فإنه قد اصطلح على أن المراد بالكلام:"النطق المفهم" ما لم توجد قرينة تدل على تعيين أحد الأمرين. (1)
أما عن بيت الأخطل الذي اعتمده المتكلمون في هذه المسألة، فقد ثبت بطلان الاستدلال به من عدة وجوه:
أولًا: يقال لهم: ثبت العرش ثم انقش. فأين ما يثبت أن هذا من شعر الأخطل أصالة؟ وقد تبين للكثير أنه لا دليل لهم في ذلك. (2)
(1) انظر: معجم مقاييس اللغة لابن فارس: (5/ 131).
(2)
انظر: العلو للذهبي: 194.
ثانيًا: من المعلوم أن هذا الشاعر نصرانى المعتقد، فمن العجب أن يحتج بكلامه ويكون العمدة في مثل هذه المهمات، ثم ترد دلالة الأحاديث والآيات لاعتقاد أنها مما يوهم التشبيه بالحادثات (1)
ويكفى هذا لإبطال احتجاجهم به على فرض صحة النقل، فقد اعترض شيخ الإسلام على استدلالهم به وبين أنهم قد حرفوه عن الأصل وهو:
إن البيان لفى الفؤاد وإنما
ومعلوم الفرق بين اللفظين.
ومما يثبت مخالفتهم للغة ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله تجاوز لأمتى عما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم به). (2)
يقول الإمام ابن أبي العز: "ففرق بين حديث النفس والكلام، وأخبر أنه لا يؤاخذ به حتى يتكلم به، والمراد حتى ينطق به اللسان باتفاق العلماء، فعلم أن هذا هو الكلام في اللغة؛ لأن الشارع إنما خاطبنا بلغة العرب". (3)
وقد استدل الإمام البخاري (4) على أن كلام الباري تعالى بحرف وصوت بحديث النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانًا لقوله كأنه سلسلة على صفوان، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قال: الحق وهو العلى الكبير). (5)
وعود الضمير في اللغة يكون إلى أقرب مذكور وهو [قوله]. فعلم من هذا أن حقيقة الكلام ما كان من حرف وصوت كلما دل عليه النقل والعقل، وليس هو مما تعارف الناس عليه كما ذكر الصاوي.
(1) انظر: الإيمان لشيخ الإسلام: 132.
(2)
متفق عليه، صحح البخاري - كتاب العتق - باب الخطأ والنسيان في العتاقة والطلاق - رقمه:2528. واللفظ لمسلم: كتاب الأيمان - باب تجاوز الله تعالى عن حديث النفس والخواطر بالقلب إذا لم تستقر: (2/ 147).
(3)
شرح الطحاوية: 185.
(4)
انظر: خلق أفعال العباد: 137.
(5)
أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب التفسير - باب قوله: (إلا من استرق السمع)، رقم الحديث:4701.
وقد تحصل من عرض أدلته التي ذكرها أنه يستند في منعه أن يكون الكلام بصوت وحرف إلى أنه يلزم منه إنشاء الكلام حال الإسماع، وفى ذلك تجويز السكوت عليه قبله، وهذا ما ينافى اتصافه تعالى بالكلام على جهة الأزل. وأصل هذه الشبهة تعود عنده إلى اعتقاد استحالة اتصاف الله تعالى بالحوادث، وأن في إثبات حدوث الآحاد حدوث الأصل، فلا تكون صفة الكلام فيه قديمة كالصفات السبعة الأخرى.
ويكفى في إبطال هذه الشبهة ما عليه مذهب السلف - رضوان الله تعالى عليهم - حيث أثبتوا اتصافه تعالى بالصفات الاختيارية، وأنه لا تعارض بين إثبات آحاد الصفة والصفة نفسها. فأصل الصفة قديمة قد اتصف الله تعالى بها، فهى ملازمة لذاته سبحانه جل وعلا أما آحادها فهى حادثة، لها ارتباط بمشيئته تعالى، فمتى شاء تكلم بما شاء سبحانه من الكلام الدال على عظمته، فلا معقب لحكمه ولا راد لقضائه، دل على ذلك الكثير من أدلة الكتاب والسنة ومنها قوله تعالى:{وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة: 117].
وليس في اعتقاد أنه تعالى يتكلم متى شاء بما شاء ما يلزم منه اتصافه بالسكوت في وقت ما أو نفيه عنه، فإن النافى عليه الدليل كما أن المثبت عليه الدليل، والحق أنه يجب في مثل هذه الألفاظ التوقف فيها لعدم ورود الدليل الذي يقطع بتعيين الحكم. هذا وقد استدل بعض العلماء بحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم:(ما أحل الله في كتابه فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو). (1) ولكن ليس في هذا الحديث ما يثبت صفة السكوت مطلقًا، وإنما هو من باب السكوت المضاف، وهذا مما عهد في لغة العرب؛ فقد يكون الإنسان متكلمًا بحديث يتعلق بأمر ما ولم
(1) أخرجه الترمذي في سننه: كتاب اللباس - باب ما جاء في لبس الفراء، رقم الحديث: 1726: وقال الترمذي حديث غريب: (4/ 192) وأخرجه أبو داود في سننه: كتاب الأطعمة - باب ما يذكر تحريمه، رقم الحديث: 3794: (4/ 298)، والحاكم في المستدرك: كتاب التفسير - باب سورة مريم، وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي على صحته، (2/ 375). وقد روى من طرق أخرى كلها ضعيفة لا تقوى أن تكون شاهدة لهذا الحديث الحسن قد ضعفها الإمام ابن رجب في جامع العلوم والحكم: 261، وتعقبه الإمام النووى وبين أسباب ضعفه.
يستوعب في ذلك الحديث جميع ما يتعلق بالأمر الذي تكلم به، حينها يمكن أن يوصف بالسكوت عن ذلك المعنى الذي أعرض عنه وهو ما زال في حال كلامه فلا يعني إن كان متصفًا بالسكوت في ذلك الوقت.
ولهذا الذي ذكرت شواهد مما وصف به الرب تعالى فالحياء صفة للرحمن تعالى وهى لازمة له من جملة صفات الكمال التي اتصف بها كما دلت على ذلك الأحاديث الشريفة (1)، ومع ذلك فقد ورد في سورة البقرة أنه تعالى لا يستحيى من ضرب الأمثال، قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة: 26].
وقد أجمع العلماء على أنه لا يجوز الوقف على قوله: (يستحيى)؛ لأن هذا من الأوصاف النسبية كالمكر والخداع والاستهزاء، فلا يوصف به تعالى إلا مقيدًا بمن يستحقها، وكذلك يكون الحديث عن السكوت؛ فلم يرد نص من كتاب ولا سنة تفيد وصفه تعالى بالسكوت على جهة الإطلاق، أما الحديث الشريف فكلمة [عنه] قيدت الحكم بالأمر المذكور، فلا يتعدى إلى غيره ولا يلزم منه وصفه تعالى بالسكوت على جهة الحقيقة، إلا بدليل صريح الدلالة؛ إذ الحديث لم يرد في بيان ما يتصف به الرب تعالى، وإنما في بيان أقسام الحكم التكليفى فلا أرى فيه لكل ما سبق دلالة واضحة على وصفه تعالى بالسكوت.
ومن جهة أخرى؛ فإن السكوت المطلق نفى، والنفى المطلق عدم محض، والله تعالى منزه عنه، إذ هو موصوف بالكمال الثابت في كل ما أثبته لمسه أو نفاه عنها، فما من نفى لصفة ما إلا وهو يثبت كمالًا مقابلًا لذلك النفى، وهذا من عظمة الله تعالى وتمام كماله وصمديته، هذا والله تعالى أعلم.
فكلماته تعالى لا انقضاء لها، ولا تعد ولا تحصى.
(1) قال صلى الله عليه وسلم: (إن ربكم كريم يستحيى من عبده إذا رفع إليه يده يدعوه أن يردهما إليه صفرًا). أخرجه أبو داود: باب الدعاء، برقم: 1483: (2/ 282)، والترمذي: كتاب الدعوات، وقال: حسن غريب (5/ 520)، وقد حسنه الحافظ ابن حجر في الفتح:(11/ 143). وله شواهد حسنة متعددة.
قال تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف: 109].
وقال: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [لقمان: 27].
ثم إن ما ذهب إليه الصاوي في بيان كيفية سماع موسى عليه السلام للكلام بلا صوت ولا حرف غير معقول؛ حيث فسره برفع الحجاب فعارض بذلك صريح النص في قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} ومعلوم أنه أتى بالمفعول المطلق هنا تأكيدًا لهذه الحقيقة فلا محيد له عنها بمثل هذا التأويل.
وليس في قياسه للكلام على الرؤية ما يدفع حقيقة الإسماع المعلومة بل كان من الأفضل أن يؤيد بذلك هذه الحقيقة، فكما جازت رؤية الحادث للقديم بلا تمثيل ولا تكييف؛ جاز سماع كلامه أيضًا كما ينبغى لجلال وجهه وعظيم سلطانه، بلا تمثيل ولا تكييف. (1)
وأما زعمه بأن الكلام يطلق مجازًا على القرآن وليس على جهة الحقيقة؛ فهو يرجع إلى اعتقاد أن معناه من الكلام القديم أما لفظه فحادث مخلوق، أنزل من عند الله إعجازًا. وهذا فيه مجانبة للحقيقة؛ لأن القرآن الكريم كلام الله تعالى لفظًا ومعنى، قال تعالى:{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة: 6] وفى هذا دليل بيِّن "على أن ما نتلوه ونسمعه هو حقيقة كلام الله تعالى، وليس بعبارة عنه"(2)
وإن كان الصاوي لم يلتزم ما التزمه بعض الأشاعرة من نسبة الألفاظ للنبي صلى الله عليه وسلم، أو لجبريل عليه السلام ابتداءً؛ حيث أقر بأن قولهما به إنما كان على جهة التبليغ لا
(1) لمزيد من التوسع يوصى بالرجوع إلى كتاب: موقف ابن تيمية من الأشاعرة، د/ عبد الرحمن المحمود:(1253/ 1307). وكتاب: منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة د/ خالد بن محمد نور: (2/ 524 - 53).
(2)
الحجة في بيان المحجة، لأبي القاسم التيمى:268.
الإنشاء والابتداء، (1) إلا أن التصريح بإيجاده يوافق قول المعتزلة بخلقه من جهة اللفظ، فالقرآن لفظ ومعنى، ولا بد لمن تابع السلف في منع القول بخلقه أن يعمم هذا على لفظه ومعناه، وقد أنكر الإمام أحمد على من قال بهذه المقولة، وحكم عليه بالابتداع واتباع المعطلة الجهمية، وكثيرًا ما كان يستدل بهذه الآية الكريمة في هذا الصدد. (2)
وهنا يجدر التنبيه إلى الأصل الذي حمله على اعتقاد أن الله متكلم بكلام معناه واحد، فإن هذا من جملة ما ابتدع في الدين ولم يسبق إليه أحد قبل الأشاعرة، وقد استندوا في مذهبهم هذا إلى أربعة أصول متتالية:
الأول: أن الله متكلم؛ وذلك لاستحالة السكوت أو الخرس عليه، فالكلام صفة كمال بدليل المقابلة ويمتنع نفيه؛ لأن نفيه يثبت ما يناقضه من النقص، فعلم وجوب اتصافه به.
الثاني: أن الله متكلم حقيقة، ولا يثبت كونه متكلمًا إلا إذا قام الكلام بنفسه؛ لأن الكلام لا بد أن يقوم بالمتكلم حتى يصح نسبته إليه، وهذا هو الأصل الذي أثبتوه ردًا على المعتزلة القائلين بخلق القرآن، فقد بينوا أن القول بخلافه يؤدى إلى منع نسبته لله تعالى على جهة الكلام، إذ يلزم منه لوازم باطلة قد علم بطلانها بالضرورة، فإن القول بخلقه مع إثبات كونه كلامًا لله تعالى يتناقض تمامًا للأمور التالية: فإما أن يخلقه في محل، وحينئذ يكون كلامًا لذلك المحل.
وإما لا يخلقه في محل، وحينها يلزم أن تقوم الصفة والعرض بنفسها، وهذا محال وإما أن يخلقه في نفسه، وهذا باطل؛ لأن يلزم منه أن تكون نفسه محلًا للمخلوقات، وقد علم امتناعه بالضرورة الشرعية والعقلية.
الثالث: أن كلام الله قديم، وأنه تعالى متكلم منذ الأزل، حيث منعوا قيام الحوادث به تعالى، فقد اعتقدوا أن في إثبات قيام الحوادث به سبحانه مخالفة لأصل
(1) انظر: مجموع الفتاوى: (2/ 50).
(2)
السنة لعبد الله بن الإمام أحمد: 36.
إثباتهم وجود الباري تعالى بدليل الحدوث، فإن أصلهم في إثبات حدوث العالم قام على ركائز متتالية كلها تدعم الركيزة الرابعة وهى أصلهم المعتمد المشهور في إثبات الحدوث بأن كل ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث.
ولأجل ذلك منعوا إثبات الكلام الحادث لله تعالى، واعتقدوا في إثباته قيام الحوادث به، وهذا ما قام دليلهم على خلافه، وقد سبقت الإشارة إلى وهن هذا الدليل ومخالفته لصريح المنقول والمعقول.
الرابع: أن كلامه بلا صوت وحرف، وهو يرجع إلى الأصل الثالث، فلحرصهم على نفى الحدوث منعوا أن يكون كلام الله بصوت، لأن قدم الصوت ممتنع عندهم، إذ علم بالضرورة أن الصوت لا يبقى زمانين، فثبت بهذا حدوثه، وهذا ما لا يمكن عندهم قيامه بالله تعالى.
ولكل ما تقدم من هذه الأصول، والتى ترجع إلى وجوب قيام الكلام بالله تعالى وإستحالة حدوثه، تعين عندهم أن يكون الكلام معنى، ليس بصوت ولا حرف.
أما كونه واحدًا فـ "لأنه لو راد على واحد؛ لم يكن له حد محدود، ويمتنع وجود معانٍ لا نهاية لها"(1).
وفى نقض مقولتهم بأنه معنى واحد، يتوجب بيان فساد اعتقادهم في أمرين:
الأول: منعهم أن يكون كلامه تعالى بالفاظ لها صوت وحرف، لإيهام الحدوث الممتنع عندهم.
الثاني: كونه معنى واحدًا.
أما الأول فيكون بنقض أساس حجتهم في منع الكلام بصوت وحرف، وذلك بإثبات صحة قيام جنس الحوادث به تعالى، وهى الصفات الاختيارية، وأنه ليس في ذلك ما يمتنع معه قدم نوع الصفة، فالله تعالى متكلم منذ الأزل، ولا يزال متكلمًا بما شاء كما شاء، ويسند هذا إلى الكثير من أدلة الكتاب والسنة "فكيف يكون أزليًا
(1) منهاج السنة: (3/ 356).
أبديًا ما زال ولا يزال، وكيف يكون لم يزل ولا يزال قائلًا:{يَانُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا} [هود: 48].
{يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: 55].
{يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل: 1 - 2] " (1)
ومن هنا امتنع وصف القرآن بالقدم، فالصحيح أن يقال فيه كما أثر عن السلف أنه كلام الله غير مخلوق.
أما كونه معنى واحدًا فـ "مخالف لصريح المعقول وصحيح المنقول، فإنا نعلم بالاضطرار أن معنى آية الكرسي؛ ليس هو معنى آية الدين، ولا معنى قل هو الله أحد، هو معنى تبت يدا أبى لهب، وقد عرب الناس التوراة فوجدوا فيها معانى ليست هي المعاني التي في القرآن، ونحن نعلم قطعًا أن المعاني التي أخبر الله بها في القرآن في قصة بدر وأحد والخندق ونحو ذلك لم ينزلها الله على موسى ابن عمران كما لم ينزل على محمد تحريم السبت، ولا الأمر بقتال عباد العجل فكيف يكون كل كلام الله معنى واحدًا؟ ونحن نعلم بالاضطرار أن الكلام معانيه وحروفه تنقسم إلى خبر وإنشاء، والإنشاء منه الطلب، والطلب ينقسم إلى أمر ونهى، وحقيقة الطلب غير حقيقة الخبر، فكيف لا تكون هذه أقسام الكلام وأنواعه بل هو موصوف بها كلها"(2)
كما أن "اشتراكها من حيث النوع لا يعني انتفاء المغايرة بينها، كما هو مشاهد في الموجودات التي تقع تحت نوع واحد، وقد ألزمهم شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى - بلازم مذهبهم في باقي الصفات، فقال: "هلا جعلتم هذه الصفات حقيقة واحدة، وهذه الخصائص عوارض نسبة لها؟ " (3) وبطلان اللازم دليل بطلان ملزومه.
(1) منهاج السنة: (5/ 418).
(2)
المرجع السابق. وانظر: النبوات: 146.
(3)
التسعينية: 706.
ومما يدل على مناقضة هذا الأصل المبتدع للمعقول والمنقول، ما يستلزمه من لوازم؛ إما مناقضة لأصلهم، أو فاسدة معلوم فسادها بالضرورة من دين الله، فقد أورد شيخ الإسلام رحمه الله رد السلف في إفحامهم شبه المتكلمين هنا، وذلك بسماع موسى لكلام الله، فإنه على القول بأنه معنى واحد سيكون ما فهمه موسى مطابقًا لكل ما يعلمه الله، وهذا بين البطلان، ومن العجب أن يصرح الصاوي به ويلزم نفسه بلازمه.
وإن قالوا ببعضه امتنع عليهم أصل حجتهم وثبت مناقضتها لبداهة المعقول (1) حتى سمع كلامه بجميع أجزائه من جميع جهاته.
(1) انظر منهاج السنة: (5/ 419).