الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والسلام - في الحديث القدسي: (كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ورجله التي يمشى عليها، ويده التي يبطش بها)(1).
وهذا البقاء لا ينافي الفناء الشرعي، حيث يصير العبد فانيًا "عن تأله ما سوى الله؛ بتأله الله تحقيقًا لقوله:(لا إله إلا الله)، فينفى ويفنى من قلبه تأله ما سواه، ويثبت ويبقى في قلبه تأله الله وحده" (2).
وكل معنى للبقاء سوى هذا؛ فهو مردود: إما أن يدخل صاحبه في دائرة الابتداع، أو دائرة الكفر بالقول بوحدة الوجود.
أحكام البقاء:
يرى الصاوي أن للبقاء أحكامًا تكون علمًا على بلوغ هذه المرتبة للسالك، فالاستدلال بالصنعة على الصانع عنده هو طريق السالكين الذين لما يصلوا بعد، أما الاستدلال بالله على خلقه فهذا هو صفة الواصلين من أهل البقاء، وغاية ما فيه استغراق في توحيد الربوبية، ولكنه غير كافٍ في بلوغ منازل الكمل من الناجين" فلو أقر رجل بتوحيد الربوبية، الذي يقر به النظار، ويفنى فيه كثير من أهل التصوف، ويجعلونه غاية السالكين، . . .، وهو مع ذلك إن لم يعبد الله وحده، ويتبرأ من عبادة ما سواه، كان مشركًا من جنس أمثاله من المشركين"(3).
ومع ذلك فإنه لا يسلم له أن طريق الاستدلال بالخلق على الخالق طريق السائرين الذين لم يصلوا بعد، بل قد أمر المولى عباده به، ووصف من انتهجه منهم بالعقل والفكر، قال تعالى {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} ، وسيأتي تفصيله في المبحث التالي بإذن الله.
أما ما ادعاه الصاوي من أن البقاء الذي يتبع الفناء، يطلق العبد من التكاليف، فتخرج أفعاله عن مقتضى الحساب من العقوبة والذنب، فهذا عين التقول الباطل،
(1) سيأتي مزيد بيان عن هذا في المبحث التالي بعون الله تعالى: 723.
(2)
مجموع الفتاوى: (8/ 370).
(3)
شرح الطحاوية: 36.
قد اعتقد أن العبد إذا استغرق في مقام الفناء؛ فإنه يصل إلى البقاء بربه، حتى يتمكن من شهود ذاته تعالى متصفة بالأسماء والصفات، وبالتالي فإن أفعاله تصير مرادة للحق تعالى مهما كانت على اعتبار موافقتها لأفعال الله القدرية، حيث شهد ذاته تعالى متصفة بصفات الربوبية، فهذا نوع من التعمق في شهود القدر بما لم يشرع، بل هو عين مخالفة أمر النبي صلى الله عليه وسلم، كما أن فيه مماثلة لأفعال المشركين الذين احتجوا بالقدر، وليس لهم حجة في ذلك؛ لقيام الحجة عليهم بالتكليف وإرسال الرسل، وقد سماهم شيخ الإسلام بالإبليسية؛ لموافقتهم إبليس في فعله، والذي يترجح عندي أن هذا الحال مخالف للشطحات التي قد تصدر من الفاني بلا إرادة، لأن البيت الذي استدل به على ما قدم من أحكام وهو:"وبعد الفنا في الله كن كيفما تشا"، فيه إثبات لمشيئة المريد، فليست تخرج أفعاله عن مقتضى إرادته. وهذا هو حقيقة وصفه بالبقاء، ومن ثم فلا حجة له في زوال التمييز؛ لأنه في حالة صحو كما هو ظاهر، وهذا ما يسمى بإسقاط التكاليف.
وعليه فإن في هذا الكلام من إبطال الشرائع، وهدم العقائد ما لا يخفى خطره، ومن ثم فليس يحتاج لهدمه كبير معول، وتكفي الإشارة إلى ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وهو أكمل العابدين، وأيضًا ما كان عليه الصحابة الكرام - رضوان الله عليهم - من التمسك بشرائع الدين حتى لقوا الله على ذلك، ولا شك أن هذا من الأوهام الصوفية المتأثرة بغثاء الأمم الكافرة من الفلسفة والبوذية وغيرها.
ومن جملة ما ادعاه الصاوي لهذه المرتبة من الأحكام أن يقول صاحب المقام المستغرق في الذكر للشيء كن فيكون بإذن الله، فإن هذا في حقيقة الأمر من أوهام الصوفية التي لا تستند إلى شرع أو عقل، وقد تقدم الحديث عنها في مبحث شهادة التوحيد ونواقضها؛ فإن هذه الكلمة هي مما اختص الله تعالى به لتمام ربوبيته وقيوميته واستغنائه عن كل ما سواه، وقد أتت بما يفيد الحصر، فلا مثيل له ولا رب سواه:{إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40]
يقول الإمام ابن جرير في تفسير الآية: "يقول تعالى ذكره: إنا إذا أردنا أن نبعث من يموت فلا تعب علينا ولا نصب في إحيائنا لهم، ولا في غير ذلك مما نخلق ونكون ونحدث، لأنا إذا أردنا خلقه وإنشاءه، فإنما نقول له: كن فيكون، لا معاناة فيه، ولا كلفة علينا.
واختلفت القراء في قراءة قوله: يكون، فقرأه أكثر قراء الحجاز والعراق على الابتداء، وعلى أن قوله:{إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} كلام تام مكتف بنفسه عما بعده، ثم يبتدأ فيقال: فيكون، كما قال الشاعر: يريد أن يعربه فيعجبه" (1).
ولا شك أن هذا لا يكون إلا لله تعالى، واعتقاد أنه يحصل لغيره من خلقه بإذنه يحتاج إلى دليل يدل عليه، فإن عيسى عليه السلام وهو رسول أيده الله بالمعجزات إثباتًا لنبوته وتأييدًا له فأعجز قومه بإذن الله في إبراء الأكمه والأبرص وخلق الطيور من الطين والنفخ فيها، إلى غير ذلك لم يثبت أنه كان ينطق بهذه الكلمة:(كن فيكون) عند فعل هذه الأمور وإنما الذي ثبت أنه كان يدعو الله فيرقي المرضى فيشفيهم الله بحوله وقوته، وهي معجزة قد ثبتت حتى لنبينا صلى الله عليه وسلم.
ومن جهة أخرى فإن حقيقة المعجزات أفعال لله تعالى أيد بها عباده المرسلين؛ فلا تصح لأحد غيرهم.
فلما انعدم الدليل المؤيد لهذه المقولة واستبان خواؤها وبعدها عن الحجج البرهانية علم أنها من أوهام الصوفية، والتي تعد من وسائل الشرك الصريح، فإن اعتقاد الإذن لا يكفي في نسبة هذه الأمور التي علم بالضرورة اختصاص المولى بها لغير الله؛ ما لم يدل دليل صريح على إمكانها وحصولها، بل إن هذه المقولات وما يشابهها هي عين ما كان يشتبه على كفار قريش في آلهتهم التي كانوا يعتقدون عبوديتها لله ولكنهم ظنوا أن لها قدرة بإذن ربها على التصريف والعطاء والمنع لمكانتها عنده، فصرفوا لها الآلهة، وكانوا يقولون ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى زلفى.
(1) جامع البيان: (14/ 106).
وهذه المرتبة أشد نكارة من التي قبلها؛ لأن فيها من معاني وحدة الوجود الشيء الكثير، ومع أن الصاوي قد أقر بأن هذا مراد الصوفية من وحدة الوجود إلا أن هذا مما لا يسلم له بإطلاق، لأن وحدة الوجود بالمعنى الصوفي الفلسفي تعني أن عين وجود المخلوقات هو عين وجود الخالق تعالى الله عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا.
ولأهمية هذه القضية فسيأتي تفصيلها في مبحث مستقل بإذن الله تعالى.
* * *
وقد كان حديثه في باقي المقامات من الجمع والفرق، وجمع الجمع وغير ذلك مما كثر فيه خوض أرباب السلوك والأحوال، من الأمور التي لا يسلم إرادتها من جهة الشرع، وذلك لأنها من البدع المحدثة، التي لم ترد ألفاظها في الكتاب أو السنة، وعليه فمن غير المسلم أن تكون نهاية إرب أهل التوحيد وأولى الاستقامة، وقد قال تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} .
ثم أن ما تحويه هذه المصطلحات من ألفاظ غريبة، يصعب فهمها، ومعرفة معانيها لكثير من الناس، لما يقطع بعدم اعتمادها في هذه المرادات العظيمة، يقول الإمام ابن القيم رحمه الله بعد أن سبر أغوار مذهبهم ومحصه على ضوء الهدى النبوي:"فلا تجد هذا التكلف الشديد، والتعقيد في الألفاظ والمعاني عند الصحابة أصلًا، وإنما يوجد عند من عدل عن طريقهم، وإذا تأمله العارف وجده كلحم جمل غث، على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقى، ولا سمين فينتقل، فيطول عليك الطريق، ويوسع لك العبارة، ويأتى بكل لفظ غريب، ومعنى أغرب من اللفظ، فإذا وصلت لم تجد معك حاصلًا طائلًا، ولكن تسمع جعجعة ولا ترى طحنًا"(1).
ومن جهة أخرى؛ فإنه لا يخفى ما في هذه الألفاظ والمعاني من التنطع الذي أتى بذمه الكتاب والسنة، وكما يقول ابن القيم رحمه الله:"فإن لم تكن هذه الألفاظ والمعاني التي نجدها في كثير من كلام هؤلاء تنطعًا؛ فليس للتنطع حقيقة"(2).
(1) مدارج السالكين: (3/ 405).
(2)
المرجع السابق: (3/ 407).