الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(المبحث الثاني): منهج الصوفية في التأصيل للمقامات
لقد اجتهد أهل التصوف في التأصيل لمذهبهم من الكتاب والسنة؛ إمعانًا منهم في التبرير لكل ما أتوا به من أمور لم يكن لها مستند من الشرع، وحتى يتم لهم المراد؛ اعتمدوا التأويل كوسيلة أساسية يتمكنون بها من لي أعناق النصوص؛ وفقًا لما أملته عليهم أهواءهم، بعيدًا عن حقائق الدين والعقل، فقد "استطاع الصوفية - متبعين في ذلك الشيعة - أن يبرهنوا بطريقة تأويل نصوص الكتاب والسنة تأويلًا يلائم أغراضهم، على أن كل آية، بل كل كلمة في القرآن، تخفى وراءها معنى باطنًا لا يكشفه الله إلا للخاصة من عباده"(1).
وكانت المقامات والأحوال؛ هي أهم ما يجتهد الصوفي المربى من تأصيلها؛ ومن هذا المبدأ ظهر التفسير الإشاري؛ كأبرز معلم يدل على تبنى هذا الفكر وتبلوره عندهم، حتى غدى هذا النوع من التفاسير مشتهرًا بين العامة، لا يكاد يفطن للخلط الذي حواه إلا أولو العلم المحققون.
ولم تقتصر جهود أولئك المبتدعة على تحريف آيات الكتاب الكريم لتقرير مبادئهم وأصولهم، بل تعدى فعلهم ذلك إلى السنة المطهرة على صاحبها - أتم الصلاة وأزكى التسليم -، فأخذوا يحرفون الكلم؛ ليا بألسنتهم وطعنًا في الدين، فامتدت أيديهم إلى عدد من الأحاديث، على مختلف درجاتها من الصحة إلى الضعف، وراموا هدم حقائقها الإيمانية بمعاول التأويل؛ فضلوا وأضلوا، ولكن أنا لهم؛ وقد قام العلماء المحققون، الذين نالوا شرف النصح لدين الله، للذود عن حماه المقدسة
(1) تاريخ التصوف، لنيكلسون:76.
من أيدي العابثين، فبينوا فساد أقوال أولئك المبتدعة في تحميل النصوص ما لم تحمله من تلك الأوهام، وكانت لهم شروحات وتفاسير جليلة، عمدوا فيها إلى تمييز ما قيل في معناها، ووضعوا لذلك قواعد في فهمها؛ تبعًا لاستقراء النصوص، وفهم أقوال الصحابة، وإعمالًا للغة الدين:{وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام: 55].
وغالب ما اعتمده الصوفية من النصوص لتقرير مقاماتهم المتشابه منها، حيث قاموا بالتلبيس على العامة من أتباعهم، وهذا هو الغالب فيهم، وإن كانت قد سبقت الإشارة إلى أنواع من التأويل الصوفي في تأصيل بعض مبادئ التصوف كالعهد والبيعة والطريقة، فسأكتفي هنا بعرض نماذج من تأويلاتهم الباطلة فيما يتعلق بالفناء والبقاء؛ الموضوع الذي دار حوله البحث في هذا الفصل.
وقد تتفق بعض تأويلاتهم مع المعنى المراد؛ وذلك عند حملها على الفناء، أو البقاء المشروع كما مر سابقًا، أما عند توجيهها إلى تقرير البدع؛ فهنا يكون ردها مما يستلزمه حقيقة النصح لدين الله تعالى.
ومما يستند إليه الصوفية في تقرير الفناء باعتباره سبيلًا لتحقيق التوحيد قوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ، ومرادهم بهذا أنه لا يصل السالك إلى تحقيق التوحيد إلا إذا انتفت عنه الأغيار؛ فيشهد التوحيد بهذه الصورة، حيث لا تكون شهادته نطقًا باللسان، وإنما عن تجربة يشاهد ربه فيها بالذوق والوجدان، يقول أبو سعيد الخراز:"أول مقام لمن وجد علم التوحيد وحقق بذلك فناء ذكر الأشياء عن قلبه وانفراده بالله عز وجل"(1). وقد يغرق بعضهم فيرى أنه: "ليس في التوحيد حلق (2) وما وحد الله غير الله، والتوحيد للحق من الخلق طفيلى"(3).
(1) اللمع: 52.
(2)
أراد به التحليق بالإصبع للدلالة على التوحيد، والله أعلم.
(3)
اللمع: 52.
وفيما يلي نص من كلام أحد المتأخرين في عرض صورة الفناء: "إن فناء الصوفي ليس فناء جسد في جسد، ولا فناء روح في روح، إنه فناء إرادة في إرادة، وفناء أخلاق في أخلاق، أو كما يقول الصوفية فانيًا عن أوصافه؛ باقيًا بأوصاف الحق، . . .، وهذا الفناء هو الذي عبر عنه الحديث النبوي:(تخلقوا بأخلاق الله)، والحديث القدسي (فإذا أحببته: كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه). (1)
وقد كان الحديث الأول بلفظ تخلقوا بأخلاق الله مما لا أصل له، وقد بنى عليه الصوفية الكثير من أوهامهم، وهذا الغزالي يعقد فصلًا يبين فيه أهمية التخلق بالأخلاق الإلهية بأنه لا سعادة للعبد ما لم يكن له نصيب من ذلك (2).
أما الحديث الثاني فهو المعول عليه عندهم في مقام الفناء والبقاء، يقول الكاشاني في تعريف المحو:"هو إزالة العلل والآفات، ويقابله إثبات المواصلات، وذلك برفع أوصاف العبد، ورسوم أخلاقه وأفعاله بتجليات صفات الحق وأفعاله، كما قال: (كنت سمعه الذي يسمع به) "(3)
يوضح هذا المعنى العطار (4)، فيقول:"إن معنى كنت سمعه. . إلخ أن ذلك الكون الشهودي - الفناء عن الشهود - مرتب على ذلك الشرط الذي هو حصول المحبة، فمن حيث الترتيب الشهودي جاء الحدوث المشار إليه بقوله: كنت سمعه، لا من حيث التقرير الوجودي". (5) ولكن الكثير من الصوفية من يستدل به على الكون الوجودي كحال ابن عربي وغيره.
(1) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الرقاق - باب التواضع، رقم الحديث: 6502: انظر: التعرف لمذهب التصوف: 5.
(2)
انظر: المقصد الأسنى: 45.
(3)
اصطلاحات الصوفية للكاشاني: 95.
(4)
هو حسن بن محمد بن محمود العطار من علماء مصر، أصله من المغرب، ولد سنة: 1190 هـ تولى إنشاء جريدة الوقائع المصرية في بدء صدورها، ثم مشيخة الأزهر، له ديوان شعر وعدد من الحواشي في العربية والمنطق والأصول، توفى سنة: 1250 هـ. انظر: الأعلام: (2/ 220).
(5)
حاشية العطار على جمع الجوامع: (2/ 513).