الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الجنة والنار
أراد الله بحكمته وتمام عدله أن يجزى كل إنسان بما قدم من عمل؛ إن خيرًا فخيرًا وإن شرًا فشرًا، وحتى تقام الحجة على الخلق؛ فلا يدانى هذه الحقيقة الكونية الشرعية شك وارتياب أرسل الله الرسل، وأنزل الكتب هداية وإرشادًا تبشيرًا وإنذارًا، وكانت جميع الرسالات تأتى يصدق بعضها بعضًا في الدعوة للتصديق بهذه الحقيقة؛ حتى أنيطت النجاة بالإيمان بها.
والمتأمل في آيات الكتاب الكريم، يجد أن تقرير هذا الأصل العظيم من أصول الإيمان؛ قد عنى بشأنه عناية عظيمة، ولا شك أن في ذلك دلالة واضحة على بروز أهميته من بين مسائل العقيدة، إذ يحقق بدوره مدعاة عظيمة لاتباع الأمر واجتناب النهى، حتى لا يكاد يغيب عن المكلف المتأمل كتاب ربه ذلك المصير الجزائي العظيم.
هذا ولم يقتصر الحديث عنهما على الكتاب فقط، بل تناولت السنة المطهرة الكثير من المسائل المتعلقة بهما، إما من حيث التأصيل أو من حيث البناء، أما ما ورد منها في تأصيل المعتقد، فمثل قوله صلى الله عليه وسلم:(من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق، والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل)(1).
وأما ما ورد من جهة البناء وزيادة البيان فكثير جدًا، فمنها ما يصف نعيم الجنة وما أعد الله تعالى للمتقين من ألوان النعيم المقيم، ومنها ما يبين أسباب دخولها والأعمال الموجبة لها إلى غير ذلك (2).
(1) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الأنبياء - باب قوله: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} ، رقم الحديث:3435.
(2)
انظر: كتاب حادى إلارواح للإمام ابن القيم في ذلك.
رأي الشيخ الصاوي:
المراد بالجنة:
يعرف الصاوي الجنة لغة بأنها: "البستان"، ويعبر عن معناها الشرعي بقوله:"والمراد منها دار الثواب".
وعن عدد أبوابها، يقول:"أبوابها الكبار ثمانية (1)، باب الشهادتين، وباب الصلاة، وباب الصيام، وباب الزكاة، وباب الحج، وباب الأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر، وباب الصلة، وباب الجهاد في سبيل الله".
ويصف داخل الجنة، بقوله:"ومن داخلها عشرة أبواب صغار، وهى سبع جنات متجاورة أوسطها وأفضلها الفردوس، وسقف الجميع عرش الرحمن، ويليها جنة المأوى وجنة الخلد وجنة النعيم وجنة عدن ودار السلام ودار الجلال، وقيل: أربع، وقيل: واحدة؛ وإنما التعدد في الاسم لشرفها، ولتحقق معانى تلك الأسماء فيها، ترابها المسك والزعفران، وفى كل قصر منها فرع من شجرة طوبى، وأصلها في بيت النبي صلى الله عليه وسلم، تطرح ما تشتهيه الأنفس، وبالجملة ففيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر".
أما مكان الجنة فيرى أنه: "فوق السموات السبع"(2).
المراد بالنار:
- وعند حديثه عن النار؛ يبدأ ببيان منزلة الإيمان بها، يقول:"يجب الإيمان بها كغيرها في وجوب التصديق بوجودها شرعًا".
(1) ورد ذلك في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (في الجنة ثمانية أبواب، فيها باب يسمى الريان لا يدخله إلا الصائمون)، أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب بدء الخلق - باب صفة أبواب الجنة، رقم الحديث:3257. أما أسماء الأبواب فقد وردت في حديث آخر فيه أن رسول الله قال: (من أنفق زوجين في سبيل الله نودى من أبواب الجنة يا عبد الله هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعى من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعى من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دعى من باب الريان، ومن كان من أهل الصدقة دعى من باب الصدقة): أخرجه البخاري في كتاب الصوم - باب الريان للصائمين، رقم الحديث: 1897.
(2)
حاشية الجلالين: 63، وحاشية الخريدة:109.
ويعرف النار شرعًا بأنها: "دار العذاب بجميع طبقاتها السبع".
ويسترسل في الحديث عن هيئتها المريعة، فيقول:"أرضها من رصاص وسقفها من نحاس وحيطانها من كبريت وقودها الناس والحجارة".
ويذكر من شدة ما ورد في وصفها "الحديث: (أن نار الدنيا أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت، ثم ألف سنة حتى احمرت، ثم ألف سنة حتى اسودت؛ فهى سوداء مظلمة) (1) "(2).
كما يرى تقسيم النار إلى طبقات، فـ "أعلاها جهنم وهى لعصاة المؤمنين وتحتها لظى هي لليهود، قال تعالى:{كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى} [المعارج: 15، 16].
ثم الحطمة قال تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ} [الهمزة: 5، 6]؛ وهي النصارى.
ثم السعير قال تعالى: {فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 11] وهى للصابئين فرقة من اليهود، ازدادوا ضلالًا لعبادتهم العجل.
ثم سقر وهي للمجوس عباد النار، قال تعالى:{سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر: 26].
ثم الجحيم وهي لعبدة الأصنام، قال تعالى:{خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ} [الحاقة: 30، 31].
ثم الهاوية وهي للمنافقين، وكل من اشتد كفره كفرعون وهامان وقارون".
ويعلل تقسيمه السابق؛ بقوله: هكذا ذكر الأشياخ تبعًا لبعض الأحاديث في النار.
(1) أخرجه الترمذي في سننه - كتاب صفة جهنم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، رقم الحديث: 2591، قال أبو عيسى: حديث أبي هريرة في هذا موقوف أصح، ولا أعلم أحدًا رفعه غير يحيى بن أبي بكر عن شريك:(4/ 612).
(2)
حاشية الخريدة: 109.
ومع ذلك فهو يستدرك ذلك التقسيم؛ لوجود ما يعارضه بنص الكتاب، يقول:"ولكن آيات القرآن شاهدة بأن كل اسم من تلك الأسماء يطلق على ما يعم الجميع؛ لأنه يذكر صفات الكفار بأى وجه، ويعبر عن وعيدهم بأى اسم من هذه الأسماء".
أما عن مكان النار فيرى أنه: "لم يصح في محل النار خبر"(1). (2)
خلود الجنة والنار:
لقد كان من أهم ما تناوله في الحديث عن الجنة والنار مسألة الخلود، فيرى أنهما "يبقيان بإبقاء الله، خلافًا للجهمية القائلين بفنائهما وفناء أهليهما".
ولما كان رأيه في هذه المسألة قد يظن أنه معارض للاستثناء الوارد في قوله تعالى: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود: 107] فسره بأنه "مدة البرزخ والموقف". (3)
وعند تفسير لهذه الآية الكريمة أجمل ما ورد فيها من أقوال تبين عدم حجية القول بفناء النار أو الجنة استدلالًا بها، فقد استند القائلون بفنائهما إلى تعليق الخلود على دوام السموات والأرض، وكان من المعلوم أنهما إلى فناء وزوال، كما استندوا إلى الاستثناء الوارد، الذي يعلق الخلود على مشيئة الرب تعالى، وكل هذا مما يمكن رده بدلالة الآيات الكريمة نفسها، يقول مفندًا كل هذه الاستدلالات: إنه قد ذكر لها "نحو عشرين وجهًا في التفسير:
- منها أن المراد بالسموات والأرض سقف الجنة والنار وأرضهما.
- ويحتمل الاستثناء في جاب أهل الشقاوة على عصاة الأمة؛ فيكون المعنى خالدين فيها أبدًا إلا عصاة المؤمنين، الذين نفذ فيهم الوعيد، فلا يخلدون أبدًا، بل يخرجون بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم.
والاستثناء حينئذ؛ إما منقطع لعدم دخول هؤلاء في الأشقياء، أو متصل بجعل هؤلاء أشقياء باعتبار، وسعداء باعتبار آخر.
(1) انظر: البدور السافرة في أمور الآخرة حيث ذكر السيوطي عددًا من الأخبار في ذلك: 402.
(2)
المرجع السابق: 63. وانظر: حاشية الخريدة: 109.
(3)
المرجع السابق.
وفى جانب أهل السعادة على عصاة المؤمنين أيضًا لكن باعتبار تعذيبهم أولًا فيتأخرون في الدخول مع السابقين، فتحصل أن الاستثناء في كل محمول على العصاة، لكن في جانب أهل الشقاوة مستثنون من الخلود، وفي جانب أهل السعادة مستثنون من المبدأ، كأنه قال: فأما الذين سعدوا ففى الجنة من أول الأمر إلا ما شاء ربك من العصاة، فليسوا في الجنة من أول الأمر، بل هم في النار يعذبون ثم يخرجون.
- ومنها أن المراد بالذين شقوا الكفار، وبالذين سعدوا المؤمنون، والاستثناء باعتبار أن بعض الكفار قد يثقل من النار إلى غيرها، كالزمهرير.
وبعض المؤمنين قد ينقل من النعيم فيما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين إلى أعلى منه، وهو رؤية وجه الله الكريم ومخاطبته.
- ومنها أن الاستثناء راجع لمدة تأخرهم عن دخول الجنة والنار؛ كمدة الدنيا والبرزخ؛ لأنهم لم يدخلوهما حين خلقوا سعداء وأشقياء" وكان هذا موافقًا لما ذكر في حاشية الخريدة.
"ومنها غير ذلك".
ثم يتبع هذه التأويلات بتقرير خلودهما، وإبطال كل ما يخالف ذلك، يقول:"وما تقدم من أن نعيم الجنان وعذاب النار دائم، هو ما دلت عليه الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، ووراء ذلك أقوال يجب تأويلها، والأخذ بظاهرها كفر"(1).
* * *
تعليق:
يقوم مذهب السلف الصالح - رضوان الله تعالى عليهم - فيما يختص بدار الجزاء على اعتقاد أن الجنة والنار كليهما مخلوقتان لا يفنيان، باقيتان بإبقاء الله تعالى لهما، قال الطحاوي في العقيدة السلفية: "والجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان أبدًا ولا تبيدان، فإن الله تعالى خلق الجنة والنار قبل الخلق، وخلق لهما أهلًا، فمن
(1) حاشية الجلالين: (2/ 214).
شاء منهم إلى الجنة فضلًا منه، ومن شاء منهم إلى النار عدلًا منه، وكل يعمل لما قد فرغ له، وصائر إلى ما خلق له، والخير والشر مقدران على العباد" (1)
ويستند هذا الاعتقاد الصحيح إلى ما ورد من النصوص الشرعية الدالة على ذلك الأصل، فهناك آيات كثيرة وأحاديث صحيحة تدل دلالة صريحة إلى ما تقدم من كون الجنة والنار قد تم لهما الوجود، فهما موجودتان باقيتان بإذن الله، قال تعالى:{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133]، وقال:{وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} [النجم: 13 - 15].
وفى الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن أحدكم إذا مات، عرض عليه مقعدة بالغداة والعشى، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، فيقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة). (2)
وفي الصحيح أيضًا عن أنس رضي الله عنه، قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فلما قضى الصلاة أقبل علينا بوجهه، فقال: أيها الناس! إني إمامكم، فلا تسبقونى بالركوع ولا بالسجود، ولا بالقيام ولا بالانصراف، فإنى أراكم أمامى ومن خلفى، ثم قال: والذي نفس محمد بيده! لو رأيتم ما رأيت لضحكتم قليلًا، ولبكيتم كثيرًا. قالوا: وما رأيت يا رسول الله؟ قال: رأيت الجنة والنار) (3).
والأدلة في ذلك كثيرة، وكلها كما تقدم تفيد يقينًا وجود الجنة والنار.
أما عن خلودهما بحيث لا يتعرضان للفناء بإذن الله، فهذا مما أجمع عليه سلف الأمة، يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها وسائر أهل السنة والجماعة على أن من المخلوقات ما لا يعدم ولا يفنى بالكلية؛ كالجنة والنار
(1) شرح العقيدة الطحاوية: 420.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه: كاب الجنائز - باب الميت يعرض عليه بالغداة والعشى، رقم الحديث:1379.
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الصلاة، باب تحريم سبق الإمام بركوع أو سجود ونحوهما:(4/ 151).
والعرش وغير ذلك، ولم يقل بفناء جميع المخلوقات إلا طائفة من أهل الكلام المبتدعين، كالجهم بن صفوان ومن وافقه من المعتزلة ونحوهم، وهذا قول باطل يخالف كتاب الله، وسنة رسوله، وإجماع سلف الأمة وأئمتها". (1)
وهذا ما ذكره ابن حزم رحمه الله في الفصل، حيث يقول:"اتفقت فرق الأمة كلها على ألَّا فناء للجنة ولا لنعيمها، ولا للنار ولا لعذابها، إلا الجهم بن صفوان"(2).
وقد ناقش رحمه الله أدلة الجهم فيما ذهب إليه، يقول: "وأما جهم بن صفوان فإنه احتج بقول الله تعالى: {وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا} [الجن: 28]، وبقوله تعالى:{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88].
وقال: كما لا يجوز أن يوجد شيء لم يزل غير الله تعالى، فكذلك لا يجوز أن يوجد شيء لا يزال غير الله تعالى"
ثم شرع رحمه الله في الرد عليه قائلًا: "ما نعلم له حجة غير هذا أصلًا، وكل هذا لا حجة له فيه، أما قوله تعالى:{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} فإنما عنى تعالى الاستحالة من شيء إلى شيء ومن حال إلى حال، وهذا عام لجميع المخلوقات دون الله تعالى، وكذلك مدد النعيم في الجنة والعذاب في النار، كلما فنيت مدة أحدث الله عز وجل أخرى، وهكذا أبدًا بلا نهاية.
وأما قوله تعالى: {وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا} فإن اسم الشيء لا يقع إلا على موجود، والإحصاء لا يقع على ما ذكرنا إلا على ما خرج إلى الفعل ووجد بعد، وإذا لم يخرج من الفعل فهو لا شيء بعد، ولا يجوز أن يعد لا شيء، وكل ما خرج إلى الفعل من مدة بقاء الجنة والنار، وأهلهما فمحصى بلا شك، ثم يحدث الله تعالى لهم مددًا آخر، وهكذا أبدًا بلا نهاية ولا آخر" (3).
(1) مجموع الفتاوى: (18/ 307).
(2)
الفصل: (4/ 83).
(3)
المرجع السابق.
والأدلة على هذا كثيرة واضحة الدلالة، وقد استدل الإمام القرطبي على خلودهما بحديث ذبح الموت، وذلك أنه ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:(يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح، فينادى منادٍ: يا أهل الجنة، فيشرئبون وينظرون، فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت، وكلهم قد رآه. ثم ينادى: يا أهل النار، فيشرئبون وينظرون، فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم هذا الموت، وكلهم قد رآه، فيذبح. ثم يقول: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت. ثم قرأ: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [مريم: 39] (1).
وبعد أن ذكره مستدلًا به، قال: "هذه الأحاديث - يعني أحاديث ذبح الموت - مع صحتها نص في خلود أهل النار فيها، لا إلى غاية ولا إلى أمد، مقيمين على الدوام والسرمد من عُير موت ولا حياة ولا راحة ولا نجاة، بل كما قال في كتابه الكريم وأوضح فيه عن عذاب الكافرين:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} [فاطر: 36].
وقال: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء: 56].
وقد يستند من شكك في بقائهما إلى الاستثناء الوارد في الآيات من سورة الزمر، وقد أجاب الصاوي على هذا الاشتباه بعدد من الأجوبة التي أجاب بها
(1) أخرجه البخاري: كتاب التفسير - باب: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} ، رقم الحديث:4730.
(2)
التذكرة: (2/ 211).
السلف على ذلك الاشتباه وقد أوردها الإمام ابن أبي العز (1) في بيان إجماع أهل العلم على أبدية الجنة، فقال: "واختلف السلف في هذا الاستثناء، فقيل:
- معناه إلا مدة مكثهم في النار، وهذا يكون لمن دخل منهم إلى النار ثم أخرج منها.
- وقيل: إلا مدة مقامهم في الموقف.
- وقيل: إلا مدة مقامهم في القبور والموقف.
- وقيل: هو استثناء الرب ولا يفعله، كما تقول: والله لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك، وأنت لا تراه، بل تجزم بضربه. . إلى آخر ما ذكر من أقوال، ثم قال: "وعلى كل تقدير، فهذا الاستثناء من المتشابه، وقوله:{عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود: 108]. محكم، وذلك قوله تعالى:{إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} [ص: 54] وقوله: {أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا} [الرعد: 35] وقوله: {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر: 48](2).
وكان هذا التوجيه منه رحمه الله من أحسن ما قيل في تفسير الاستثناء، حيث كان الإعراض عن الخوض في المتشابه، والرد إلى المحكم؛ مما امتدح الله تعالى عباده به؛ لأنه سيمة التسليم والإذعان، الذي يقتضيه الإيمان بالله تعالى والرضا بدينه.
ومع أن هذا القول هو المجمع عليه عند أهل العلم، إلا أن هناك من خالف ذلك الإجماع فيما يتعلق بخلود النار، مستندًا إلى عدد من الأدلة السمعية والعقلية، وقد أورد الإمام ابن القيم رحمه الله (3) أدلة القائلين بذلك، مع ميله الواضح إلى
(1) هو الشيخ صدر الدين محمد بن علاء الدين على بن محمد بن أبي العز الحنفى الصالحى، اشتغل بالعلوم وكان ماهرًا في دروسه متقنًا تعليمها ولى قضاء دمشق، ثم رحل إلى مصر وولى قضاءها ثم عاد إلى دمشق توفي رحمه الله سنة: 792 هـ انظر: شذرات الذهب: (6/ 326).
(2)
شرح العقيدة الطحاوية: 426.
(3)
(كل يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب الروضة الشريفة صلى الله عليه وسلم) كما قال الإمام مالك رضي الله عنه (كشف الخفاء، للعجلونى: 2/ 173)، وكفى بالمرء نبلًا أن تعد معايبه.
ترجيح ما ذهبوا إليه، ولم يكن هذا هو قوله الوحيد، بل له قول آخر انتصر له في عدد من مؤلفاته وهو القول بالتوقف، حيث استند في ذلك إلى الاستثناء الوارد في الآية، إذ إرجاع الأمر إلى مشيئة الله وحده يقضى بعدم التقديم بين يديه بغير دليل، ولكن الصحيح في المسألة أن الأدلة على بقاء النار من المحكم البين، الذي لا يرد عليه أدنى اعتراض، وليس في الجزم به ما يعارض أدب التلقى بالقبول عن الله ورسوله، بل القول به هو حقيقة ثمرة الرد إليهما (1).
- أما عن تكفير من خالف في اعتقاد فناء النار فلا يجوز؛ لأن من قال به مجتهدًا وسعه في الفهم واستنباط الحكم فلا وزر عليه، قال عليه الصلاة والسلام:(إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر)(2).
"فالخلاف المذموم حقًا إنما هو من أولئك المقلدين، الذين يصرون على التدين بالتقليد، والإعراض عن الاهتداء بهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة، والإخلاص له في اتباعه وحده دون سواه الذي هو من لوازم الشهادة بأنه رسول الله، وقد أمرنا بطاعته استقلالًا، لا يشاركه في ذلك أحد من البشر في غير آية من آيات الله تبارك وتعالى، فأى خلاف شر من هذا الذي عليه المقلد هذا الذي يظل:{يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الجاثية: 8](3).
أما عن قوله بأن الأخذ بظاهر القرآن كفر، فقد سبقت الإشارة إلى إبطاله وعده من كلام أهل البدع المحرم في دين الله، والذي لم يثبت القول به عن أحد من السلف الكرام (4).
(1) لمزيد من التوسع يوصى بالرجوع إلى الرسالة المذكورة أعلاه بتحقيق فضيلة الشيخ: محمد ناصر الدين الألباني عليه رحمة الله.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه: كاب الاعتصام بالكتاب والسنة - باب أجر الحاكم إذا اجتهد - رقم الحديث: 7352.
(3)
مقدمة الشيخ الألباني لكتاب: رفع الأستار لإبطال أدلة القائلين بفناء النار، للصنعانى.
(4)
راجع مبحث منهجه في الاستدلال: 88.