الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تمهيد
يعد الإيمان بأسماء الله تعالى وصفاته الحسنى، كما وردت في الكتاب والسنة، من غير تمثيل، ولا تعطيل، ولا تحريف، ولا تكييف، من أهم الأصول التي ينبنى عليها معتقد أهل السنة والجماعة، فيما يجب في حق الله عز وجل.
فالإيمان بها يقتضى الإثبات، وهذا الإثبات لا بد فيه من التزام عدم الخروج عن مراد الرب تعالى فيما أثبته لنفسه من الصفات الحسنى، كما أنه يقتضى التنزيه الواجب في حق الباري تعالى الذي عز عن المثيل والنظير، يقول الإمام الشنقيطى رحمه الله في بيان أسس الإيمان بأسماء المولى جل وعلا: أحد هذه الأسس: - هو تنزيه الله جل وعلا على أن يشبه بشيء من صفاته شيئًا من صفات المخلوقين، وهذا الأصل يدل عليه قوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11].
- الثاني من هذه الأسس هو الإيمان بما وصف الله به نفسه؛ لأنه لا يصف الله أعلم بالله من الله: {أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} [البقرة: 140].
والإيمان بما وصف به رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال في حقه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3، 4].
فيلزم كل مكلف أن يؤمن بما وصف الله تعالى به نفسه، أو وصفه به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينزه ربه تعالى عن أن تشبه صفته صفة المخلوقين" (1).
ومن هنا فإنه يجدر بيان كل ما يقدح بأصلى الإثبات والتنزيه اللذين يقتضيهما الإيمان بأسمائه وصفاته: فالذى يقدح في التنزيه هو التمثيل والتكييف، والذي يقدح في الإثبات هو التعطيل والتحريف، وبيانها كالتالى:
(1) وكان الأولى أن يوصف بالضلال لأن المجنون قد رفع عنه القلم فلا يعلق به تكليف يقتضى المنع أو الجواز: الأسماء والصفات: 7.
- أما التمثيل الذي يقدح في التنزيه؛ فهو اعتقاد المثبت أن ما أثبته من صفات الله تعالى مماثل لصفات المخلوقين.
وهذا الاعتقاد مما تبطله دلالة السمع والفطرة والعقل:
أما السمع فقد أتى بما يدل على امتناع التمثيل ضرورة، قال تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِير} [الشورى: 11].
أما الفطرة فلما استقر فيها من إثبات الكمال لله تعالى على جهة ينتفى منها كل ما يدل على النقص، إما من جهة التضمن أو الاستلزام، وقد علم تطرق النقص المضاد للكمال في كل صفات المخلوقين، إما لطرو الأعراض المضادة للصفة المحمودة، أو لما تستلزمه من أنواع النقص، كما هو مشاهد ومعلوم ببداهة العقول.
أما العقل فلأنه قد علم بالضرورة بدلالة المخلوقات على وجود من أبدعها، مخالفة ذات الباري تعالى لذوات الخلق، فاقتضى ذلك الاختلاف في الذات أن يكون أيضًا فيما تتصف فيه الذات من الصفات، فالقول في الصفات، كالقول في الذات.
- أما التكييف، الذي يقدح في أصل التنزيه فهو أن يقيد إثبات الصفة بمعرفة الكيف، فلا يثبت شيئًا من الصفات إلا بتكييفها، ومن هنا فإن الفرق بينه وبين التمثل أن يقيد المثبت الممثل كيفية الصفة بماثل، أما التكييف فلا يشترط فيه ذلك.
وبطلان هذا الاعتقاد مما يعلم بالضرورة من دين الإسلام كسابقه، فقد دل العقل والشرع على امتناعه.
أما دلالة السمع؛ فلقوله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 103] وقوله: {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110].
أما العقل فلما سبق بيانه من وجود التلازم بين الذات وصفاتها في الأحكام، فكل ما جاز على الذات جاز على ما اتصفت به، والعكس بالعكس، ومن هنا فإنه لما امتنع معرفة كيفية الذات امتنع معرفة كيفية ما تتصف به من الصفات.
وهذا أصل عظيم يعلم به ضلال كل من منع أو أثبت بلا دليل من الكتاب والسنة، وهذا أصل امتناع الإمام مالك عن ذكر الكيفية، حيث قال:(الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة)(1).
- أما التعطيل فهو أن يثبت الصفة من جهة اللفظ مع نفى المعنى.
- وأما التحريف فهو أن ينفى المثبت للصفة المعنى الحق ويثبت آخر باطلًا، ليس له أساس يعتمد عليه في ذلك الإثبات بعد النفى (2).
وكان الإيمان بالأسماء والصفات الحسنى بعيدًا عن هذه الانحرافات أمرًا مستقرًا في نفوس سلف هذه الأمة، ثابتًا في المبادئ والقيم، دون أن تؤثر في صفاته البدع، مستمدًا ذلك الثبات من مقتضى الإيمان الذي اطمأنت قلوب أصحابه به.
وتستند أهمية الإيمان بأسماء الله تعالى وصفاته الحسنى، إلى كونها من صميم الإيمان به سبحانه، لذا كان التوسل بها من أعظم ما شرعه الله تعالى، وتعبدنا به، قال تعالى:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 180].
كما أن معرفة الله تعالى بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى، هي أساس ما يقوم بقلب العبد من عبودية لله تعالى، تقتضى إفراده سبحانه بالعبادة، ولعل هذا من أسرار ختم غالب آيات الكتاب الحكيم بذكر أسمائه جل شأنه.
فإن العبد عند توجه الخطاب له بالتكليف، فالذي يحمله على الامتثال لمقتضى الخطاب من الترك إذا كان نهيًا، أو الفعل إذا كان أمرًا إنما يتحصل منه لما استقر في فطرته من كونه تعالى عالمًا محصيًا سميعًا بصيرًا بكل ما يصدر منه من صغير أو كبير، ومن هنا كانت أهمية الإيمان بهذه الأسماء وترتب الثواب الجزيل على إحصائها بدخول الجنة.
(1) الأثر سبق تخريجه: 80 وانظر: التدمرية لشيخ الإسلام: 43، والقواعد المثلى، للشيخ العثيمين:36.
(2)
الصواعق المرسلة: (1/ 296) وانظر: القواعد المثلى، للشيخ العثيمين:36.
وبقى الأمر على ما كان عليه، إلى أن ظهرت البدع، فخرج ممن ينتسب إلى الإسلام بما يخالف منهج السلف في ذلك الاعتقاد، وكان هذا على يد الجعد بن درهم، الذي تأثر كثيرًا بأقوال الكفرة من الفلاسفة (1) وغيرهم، حتى قام بتعطيل الرب عن الصفات الثبوتية، وزعم أن فيها ما ينافى عقيدة التوحيد (2) وقام تلميذه الجهم بن صفوان بنشر هذه البدع، حتى كان سببًا في ضلال كثير من الخلق، وسمى أتباعه بالجهمية، وصارت بذلك أصلًا لكل انحراف فيما يجب في حق الله تعالى، أو يمتنع عنه (3).
وقد انتقل هذا الانحراف العقدي الخطير إلى المعتزلة، حيث منع مؤسسها: واصل بن عطاء من وصف الله تعالى بصفات قديمة، بحجة أن في اعتقادها إثباتًا لتعدد القدماء (4)، وقد تأثروا في هذه المقولة بردهم على ما ادعته النصارى في التثليث، حيث زعمت أن معتقدها فيه يقوم على إثبات ثلاثة أقانيم لواحد قديم (5)، ولا شك أن هذه الدعوى باطلة شرعًا وعقلًا، ولا مجال لإفحامهم هنا، ولكن المقصود أن هذا ليس بملزم لهؤلاء المعتزلة أن يقوموا بنفى الصفات للرد على أولئك الكفرة، بل جل ما هنالك أنهم انحرفوا عن منهج السلف في بيان الحق والرد على المخالف، وتأثروا بما وصل إليهم من كت الفلاسفة (6). وقد تقدم أن مادة هذا الفكر مستقاة من شبهة الفلاسفة في التركيب، حيث اعتمدوا في إثبات التوحيد على نفيه.
(1) سبقت الإشارة إلى بيان معتقدهم في الأساس الذي بنى عليه معقدهم في التوحيد: 169.
(2)
انظر: بيان تلبيس الجهمية لشيخ الإسلام (1/ 277)، مجموع الفتاوى:(5/ 22).
(3)
انظر: الفتاوى: (12/ 524) وانظر: مقالات الإسلاميين: (1/ 181) والفرق بين الفرق للبغدادى: 213.
(4)
انظر: الملل والنحل للشهرستانى: (1/ 45).
(5)
قد سبقت الإشارة على هذا التأثر عند الكلام في معتقد المتكلمين في التوحيد: 165.
(6)
انظر: مقالات الإسلاميين: 156. الملل والنحل للشهرستانى: (1/ 50).
وتحصل بهذا أن اعتقاد المعتزلة في باب الصفات يستند إلى أمرين؛ اعتقاد التوحيد بنفى التركيب، الثاني: وجوب مخالفته سبحانه لباقى الحوادث بحجة تنزيهه عن مشابهتها (1).
فصارت هاتان الشبهتان أساسًا لنفيهم الصفات الثبوتية عن الله تعالى، حيث قاموا بإثبات الأسماء الحسنى على أساس أنها أعلام محضة، لا دلالة لها في نفسها على معنى معين، فأرجعوها إلى ذات الله تعالى؛ تنزيهًا له - عندهم - عن مشابهة الخلق، واكتفوا في هذا الباب بسلب النقائص، حيث وصفوه بالسلوب (2).
وقد تأثرت الأشاعرة على جهة العموم بذلك الانحراف، الذي نتج عن الابتعاد عن منهج السلف - رضوان الله عليهم - في تلقيهم لأسس اعتقاد ما يجب في حق الله تعالى ويمتنع عنه، ويظهر ذلك الانحراف جليًا في عدد من المسائل التي تتعلق بصفات الله تعالى، أما ما يتعلق بمسائل الأسماء فلا يظهر فيها خلاف إلا في بعض التفرعات المتعلقة بمسائل الصفات، وسيأتي الحديث عنها مفصلًا بإذن الله.
* * *
(1) انظر: مقالات الإسلاميين: 156.
(2)
انظر: الملل والنحل: (1/ 65).