الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الثانية عشر: صبيان وأطفال رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح وفي حجة الوداع" (1).
هذا وقد تعرض الصاوي إلى مسألة مهمة بعد بيان تدرجهم - رضي الله تعالى عليهم بالفضل -، وهى قضية التوسل بهم، حيث بنى على ذلك التدرج أن التوسل بهم أيضًا يكون وفق ذلك الترتيب.
والحقيقة أن هذه المسألة من مهام المسائل العقدية، لوقوع الكثير في الضلال بسبب اختلاف التوسل المذموم عليهم بالممدوح منه.
فمع التسليم بمشروعية التوسل بهم - رضي الله تعالى عنهم أجمعين -، إلا أن الصاوي لم يوضح مراده من ذلك التوسل، ولا كيفيته المشروعة، فالتوسل المشروع في حقهم هو التوسل إلى بمحبتهم وإجلالهم، والاقتداء بهم، وحفظ أعراضهم، أو بطلب الدعاء منهم في حياتهم، كما فعل عمر- رضى الله تعالى عنه - مع عم النبي صلى الله عليه وسلم: العباس - رضي الله تعالى عنه - (2). وما خلا ذلك من التوجه لهم بالدعاء واعتقاد حصول الضر أو النفع من جهتهم فلا صحة له، بل هو عين الشرك الذي حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته منه.
* * *
الدفاع عن الصحابة:
تقدم الحديث عن فضل الصحابة - رضوان الله تعالى عليهم -، واستفاضة الأدلة في ذلك، مما يعني أنه لا يجوز بحال القدح أو الطعن فيهم، مهما كان السبب، لأنه كما قال شيخ الإسلام رحمه الله بعد ذكر الأحاديث الواردة في فضلهم:"هذه الأحاديث مستفيضة بل متواترة في فضائل الصحابة والثناء عليهم، وتفضيل قرنهم على من بعدهم من القرون، والقدح فيهم قدح في القرآن والسنة"(3).
(1) العواصم والقواصم لابن الوزير: (1/ 412). وانظر: أحكام القرآن لابن العربى: (2/ 1002).
(2)
قد سبق توضيح هذا على جهة التفصيل والاستدلال في مبحث التوحيد ونواقضه: 184.
(3)
مجموع الفتاوى: (4/ 430).
وقد تفطن أهل الافتراق والأهواء لهذه الحقيقة التي لا مراء فيها، فاتجهوا إلى ذلك المعين الصافى، وراموا بغيًا تكدير صفوه، وأنى لهم، فطعن الشيعة في حفظ القرآن الكريم، وزعموا تحريفه بأنواع الأكاذيب، كما أعرضت الخوارج عن تحكيم السنة فأخذت تعمل رأيها في قبول ما تشاء ورد ما تريد، وهكذا حتى خرج زعماء هذه الفرق على جماعة المسلمين بتكفير كبار الصحابة ممن شهد لهم رسول الله بالجنة، فعلم من ذلك أن الطعن في الصحابة هو ديدن الخارجين عن منهج الكتاب والسنة، فالرد عليهم إذًا يكون أولًا: ببيان مكانة التلقى عنهما، وأنه لا نجاة بغير الاهتداء بهديهما.
وعليه فإن الطعن في عدالة الصحابة الكرام بما يوجب الفسق أو الكفر بحجة ما وقع بينهم من خصام ليس له مسوغ شرعى مهما كانت حجة الخصم، لأنه قد ثبتت عدالتهم بما يوجب لهم الترضى ودخول الجنة بالخبر اليقينى المتواتر كتابًا وسنة.
هذا والحديث في بيان حقيقة الخصام الذي حدث في صفوف الصحابة رضي الله عنهم، مما امتلأت بمروياته كتب التاريخ، فقد جمعت بين دفتيها عددًا ضخمًا منها، ولكنه مع الأسف كان غالبه مما وضعه أصحاب الأهواء والبدع المارقين من جماعة المسلمين، لذا كان تنبيه الصاوي السابق من هذه المرويات، متبعًا بذلك منهج أكابر العلماء.
فتحرى الصحيح منها، ونبذ ما خالف ذلك، مما لا مستند له من الصحة سندًا أو متنًا مما يدل على التمسك بمنهج الكتاب والسنة في اعتقاد عدالة الصحابة وحفظهم عن موجبات الفسق وما شاكله.
وقبل الحديث في الاستدلال لهذا الموقف السديد من الصاوي، أتوجه بالبيان:
أولًا: لما حدث بين الصحابة - رضوان الله تعالى عليهم -، لعلى أعطى للقارئ فكرة موجزة عن حقيقة التخاصم الذي حدث من جهة أسبابه ودوافعه، أقول: لقد كان لأعداء المسلمين من اليهود، دور كبير في غرس بذور الفتنة، ومن ثم تعهد نموها واشتدادها، فقد رصد التاريخ بما لا يدع مجالًا للشك، تحركات ابن سبأ
اليهودى، الذي تظاهر بالإسلام في أثناء خلافة عثمان رضي الله عنه، حيث قام بإيغار قلوب عماله عليه، وذلك بمساعدة أتباعه الذين أطلق عليهم مسمى السبئية، حتى تمخض عن ذلك الحشد النفسى على الخليفة الراشد حشدًا حقيقيًا مجندًا، أدى إلى مقتله على حين غرة، غدرًا في منزله - رضى الله تعالى عنه وأرضاه -.
أقول لقد كان لهذا الحادث الأليم أثر بالغ، بل هو الدافع الأول لحدوث التخاصم بين الصحابة - رضوان الله تعالى عليهم أجمعين -، حيث اختلفت الآراء وتباينت في كيفية معالجة الوضع الراهن.
فقد طالب الصحابة الخليفة الرابع: علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه - بأخذ القود لعثمان رضي الله عنه، المقتول ظلمًا وغدرًا.
ولكن علي رضي الله عنه، وهو الفطن الحكيم، تريث في الأمر وطلب المهلة ريثما تحين الفرصة المناسبة فيتمكن من القبض على هذه العصابة الآثمة دون إحداث أمر يؤدى بدوره إلى بث الفرقة، خصوصًا والخلافة لم تحكم قبضتها بعد على أطراف الدولة المترامية (1).
ومع هذا الموقف المتأنى منه رضي الله عنه، لم يطق بعض الصحابة الصبر لما حدث للخليفة المقتول غدرًا رضي الله عنه، فامتنعوا عن المبايعة حتى يتم الأخذ بالثأر خوفًا من أن يهدر دمه ويصعب معرفة قاتليه (2).
وهكذا أخذ الخلاف بالتبلور متجهًا نحو الشدة والسيطرة، حتى استقر الأمر على انشقاق الصف إلى فرقتين: واحدة يتزعمها الصحابى الجليل على، وواحدة يتزعمها معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، واستمر الخلاف إلى أن نشبت بين صفوف هاتين الفئتين حروبًا عظيمة، قيل: إن عدد الذين قتلوا فيها فاق عدد شهداء معارك الفتوح الإسلامية بأسرها إبان الخلافة الراشدة.
(1) البداية والنهاية، لابن كثير:(7/ 248 - 249).
(2)
تاريخ الطبري (4/ 444). وانظر: البداية والنهاية: (7/ 283).
ومن خلال تلك الاحداث الجسام، التي فتت في عضد الأمة الإسلامية سنح للمغرضين فرص كثيرة، يدسون فيها الأقاويل الكاذبة، والافتراءات المحضة على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأظهروهم في كثير من المواقف الحرجة بمظهر لا يليق بهم، وهم الذين اصطفاهم المولى تعالى؛ ليكونوا أصحاب رسوله صلى الله عليه وسلم، ورافعى لواء الإسلام من بعده.
ودون خوض في آحاد تلك الحوادث الجسام، التي هتكت أمن الأمة الإسلامية دهرًا من الزمن، يمكن التخلص إلى أن حقيقة الخلاف إنما نشأ عن اجتهاد وإعمال الرأى، وعليه فلا تثريب على أحد من الفئتين، لأنه كما قال الصاوي مستدلًا بالحديث الشريف: ليس على المجتهد المخطئ ذنب، فقد قال المصطفى صلى الله عليه وسلم:(إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر)(1).
وكان هذا المبدأ هو أحد الأصول التي قام عليها معتقد السنة والجماعة في تعظيم الصحابة وإجلالهم وعدم الوقوع في أعراضهم؛ بسبب ذلك التخاصم الذي حدث بينهم، وليس لأحد أن يعترض، فيقول أن أمر الدماء ليس كغيرها، فإن المولى تعالى لم ينزع عن الفئتين المتقاتلتين وصف الإيمان بل أمر بالإصلاح بينهما، قال تعالى:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9].
وهذا ما شهد به الخليفة الراشد علي رضي الله عنه للقتلى من الفريقين، حيث قال حين سئل عن قتلى معركة صفين:"قتلانا وقتلاهم في الجنة"(2).
وعليه فإن إعمال الأصل الأول في الحكم على الصحابة وهو اعتقاد فضلهم وما ترتب على ذلك من شهادة المولى تعالى لهم بالرضوان الموجب لدخول الجنة، هو أهم المبادئ التي يستند إليها في التغاضى عما بدر منهم في عهد الفتن.
(1) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الاعتصام بالسنة - باب أجر الحاكم إذا اجتهد، رقم الحديث:7352.
(2)
سير أعلام النبلاء: (3/ 144).
كما أن الأحاديث التي وردت في تحريم الوقوع في أعراضهم، والنهى عن كل ما ينقص من قدرهم؛ لتدل دلالة صريحة لا يمكن معها إلا التوقف والإمساك عن الخوض في التخاصم، الذي حدث بين الصحابة - رضوان الله عليهم -، هذا وقد جاء الأمر بالإمساك مصرحًا به في الحديث الشريف، قال صلى الله عليه وسلم:(إذا ذكر أصحابي فأمسكوا، وإذا ذكرت النجوم فأمسكوا، وإذا ذكر القدر فأمسكوا)(1).
ومن هنا شرع الإمساك عن الخوض فيما حدث بين الصحابة الكرام، والتورع عن تتبع تفاصيل الخصام بينهم، ويعد هذا الموقف معلمًا بارزًا من أهم المعالم، التي يتميز بها معتقد الفرقة الناجية، فقد سئل الحسن البصري - رحمه الله تعالى - عن قتال الصحابة فيما بينهم، فقال:"قتال شهده أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وغبنا، وعلموا وجهلنا، واجتمعوا فاتبعنا، واختلفوا فوقفنا"(2).
وأجاب بنحو ذلك عمر بن عبد العزيز رحمه الله، حيث قال:"تلك دماء طهر الله يدى منها أفلا أطهر لسانى، مثل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل العيون، ودواء العيون ترك مسها"(3).
وقد فصل القول في ذلك شيخ الإسلام رحمه الله مبينًا أن الكثير مما روى في التخاصم الذي حصل: مكذوب عليهم، وإنما أريد به تشويه سمعتهم والطعن فيهم، يقول حاكيًا موقف السنة والجماعة في ذلك: "ويتبرءون من طريقة الروافض الذين يبغضون الصحابة ويسبونهم، وطريقة النواصب الذين يؤذون أهل البيت بقول أو عمل.
ويمسكون عما شجر بين الصحابة، ويقولون: إن هذه الآثار المروية في مساويهم
(1) رواه الطبراني في المعجم الكبير عن عبد الله بن مسعود، برقم: 10448: (10/ 243) وقال الهيثمي: رواه الطبراني وفيه مسهر بن عبد الملك وثقة ابن حبان وغيره، وفيه خلاف، وبقية رجاله رجال الصحيح (202/ 7): "وصححه الألباني في السلسلة، رقم:34.
(2)
ذكره القرطبي في الجامع لأحكام القرآن: (16/ 322).
(3)
المرجع السابق.
منها ما هو كذب، ومنها ما قد زيد فيه ونقص، وغير عن وجهه، والصحيح منه هم فيه معذورون: إما مجتهدون مصيبون، وإما مجتهدون مخطئون.
وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم عن كبائر الإثم وصغائره، بل يجوز عليهم الذنوب في الجملة.
ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر، حتى إنهم يغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم، لأن لهم من الحسنات التي تمحو السيئات ما ليس لمن بعدهم:(1).
وقد أشار الإمام الذهبي (2) في معرض حديثه عن موقف أهل السنة والجماعة من الخصام الذي حدث بين الصحابة - رضوان الله عليهم - إلى الشروط التي يجب أن يلتزمها من أراد أن يطالع تلك الروايات التي تحدثت عن ذلك التخاصم، موضحًا الهدف من إعمالها وضبط النفس عليها؛ حيث قال: "تقرر الكف عن كثير مما شجر بين الصحابة وقتالهم رضي الله عنهم أجمعين -، وما زال يمر بنا ذلك في الدواوين والكتب والأجزاء ولكن أكثر ذلك منقطع وضعيف، وبعضه كذب.
وهذا فيما بأيدينا وبين علمائنا، فينبغى طيه وإخفاؤه، بل إعدامه لتصفوا القلوب، وتتوافر على حب الصحابة والترضى عنهم، وكتمان ذلك متعين عن العامة وآحاد العلماء، وقد يرخص في مطالعة ذلك خلوة للعالم المنصف العرى من الهوى، بشرط أن يستغفر لهم، كما علمنا الله تعالى، حيث يقول:{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا} (3).
(1) العقيدة الواسطية شرح العلامة: محمد خليل هراس: 249. وانظر: الفتاوى: (4/ 434).
(2)
هو الإمام العلامة الحافظ المؤرخ شيخ المحدثين أبو عبد الله بن أحمد بن عثمان التركمانى المعروف بالذهبى ولد سنة: 673 هـ له مصنفات عظيمة منها: ميزان الاعتدال في نقد الرجال وسير أعلام النبلاء وغيرها، توفى سنة: 748 هـ انظر: ذيل تذكرة الحفاظ: (5/ 34).
(3)
سير أعلام النبلاء: (10/ 92).
ومع إجماع أهل العلم على هذا الذي بينه الإمام الذهبي من وجوب الإمساك عن التخاصم الذي حدث بينهم، إلا أنه قد يستحب على المتمكن المنصف العالم دراسة تلك الروايات، ومعرفة أغوارها، وتنقيتها من الكثير مما داخلها من الأغلوطات الوهمية، التي سجلتها كتب التاريخ، كل ذلك بقصد الذب، عنهم، وإجلاء حقيقة ما أثير ضدهم رضي الله عنهم أجمعين -، فلا يشك حينئذ من موافقة هذا العمل للمقاصد الشرعية المعتبرة عند أهل العلم.
فإنه لا يخفى على المتبصر بأمر هذا الدين الحنيف ما للصحابة الكرام من الفضل في حفظه، وفي نشر تعاليمه، وهداية الناس له، إذًا فحقيقة الدفاع عنهم - رضوان الله عليهم -، دفاع عن الدين نفسه، كما أن الطعن فيهم طعن في الدين، ليس من جهة اشتماله على مدحهم والأمر بحفظ أعراضهم والترضى عنهم فحسب، بل من جهة كونهم القاعدة الرصينة التي أريمى عليها دعائم الإسلام، ولا يخفى على المتأمل ما تحمله كلمات الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يناجى ربه في أول غزوة في الإسلام، في معركة بدر:
تلك المعركة التي احتدم فيها الصراع بين النور والظلام مؤذنًا بغلبة النور واستعلائه، حيث قال - عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم -:(اللهم! إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض)(1).
وأما إذا خلت المطالعة من اقتضاء هذه المصلحة المعتبرة، فمن المسلم عدم اعتبار شرعيته، وأن الأولى والأصوب هو التوقف عن مثل هذا العمل الذي لا نفع فيه، بل قد يلحق بصاحبه من المضار ما لا طاقة له بدفعه، فيتأثر بتلك الروايات والأكاذيب مما يؤدى به في نهاية المطاف إلى الطعن فيهم، والقدح في أعراضهم، فيخرج بذلك عن المنهج الذي خطه الشارع الحكيم لاتباع هذا الدين، حيال حملة أمانته، وحفظة كتابه وسنته؛ الصحابة الكرام - رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين -، وجمعنا بهم في مستقر رحمته، آمين.
(1) أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الجهاد والسير - باب الإمداد بالملائكة: (12/ 84).
ومصداقًا لهذا المعنى يقول العالم الجليل: العوام بن حوشب (1): "أدركت من أدركت من صدر هذه الأمة، بعضهم يقول لبعض: اذكروا محاسن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لتأتلف عليه القلوب، ولا تذكروا ما شجر بينهم، فتحرضوا الناس عليهم"(2).
* * *
(1) عوام بن حوشب بن يزيد الشيباني أبو عيسى الواسطي: ثقة ثبت فاضل مات سنة 148: (1/ 267).
(2)
الشرح والإبانة على أصول السنة والديانة، للإمام ابن بطة الحنبلى:(181).