الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [يونس: 64]، أما ما عدا ذلك من وظائف الوحي، كالبلاغ كمثلًا، فليس لها أي تأثير فيها، لأن هذه المهمة متعلقة بالرسالة لتكفل المولى تعالى بالعصمة لأنبيائه من اختلاط الشياطين ومضلاتهم.
أما ما ذكره من الاجتماع بسيد العالمين النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه لم يحدد مراده بهذا الاجتماع، متى يكون وكيف وأين؟ وما هي عمدته في تحققه؟ ولكن يكفي فيه أنه باطل لا حقيقة له شرعًا؛ فلا يجتمع أحد برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد مماته أبدًا إلا في المنام فإنه صلى الله عليه وسلم قال:(من رآني في المنام فقد رآني، فإن الشيطان لا يتخيل بي، ورؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة)(1)، أما في اليقظة فالنبي بشر قد توفاه الله، وعلم ذلك بالضرورة الشرعية والعقلية والعرفية، وهذا الاعتقاد مشهور عن الصوفية، فإنهم يعتقدون بالحضرة ويقيمون من أجلها الموالد والحفلات، ويقرؤون الأشعار والابتهالات، حتى إذا لبس عليهم الشيطان وأنساهم ذكر الله ظنوا أن النبي حاضر بينهم، وما هو إلا شيطان أغواهم لما صرفوا أنواع العبادة لغير الله تعالى من التوسل والاستغاثة والدعاء والذكر.
وفي المبحث التالي مزيد بيان لارتباط هذه المفاهيم بحقيقة الكرامة.
فضائل الأولياء:
يرى الصاوي مشروعية التبرك بالأولياء؛ موافقة لمذهب الصوفية في هذا الاعتقاد، ولأن هذا المبحث من مفردات توحيد الإرادة؛ فقد قدمت الحديث عنه في مبحث التوحيد، مبينة أن لفظ التبرك من الألفاظ المجملة، التي تشتمل على معنى حق مراد من جهة الشرع، وآخر بدعي شركي كثر خوض الناس فيه بالباطل، وقطعًا فإن هذا المعنى الباطل من قوادح التوحيد التي أتى فيها الوعيد مفصلًا.
وليس هذا مجال تفصيل ما تقدم، ويكفى التنبيه إلى أن التبرك بذوات الأولياء مما ليس له مستند شرعي، فحقيقته ابتداع لا حجة له من الكتاب أو السنة.
أما التبرك بدعاء الأولياء، وحضور مجالس ذكرهم ومحبتهم، فهذا من التوسل
(1) صحيح البخاري: كتاب التعبير - باب: من رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، رقم الحديث:6593.
المشروع، الذي لا يخرج العبد من دائرة التوحيد فحقيقته أخذ بالأسباب المشروعة الممدوحة، التي جاء بها الوحي المظهر.
ويظهر من كلام الصاوي هنا تشبثه بنفي السببية حتى أنه يرجع حصول البركة من المشايخ بالاقتران العادي لا بالسبب المقتضى، ولا شك أن هذا يظهر تمسكه بأشعريته حتى في تحرير كلام الصوفية واعتقادهم في أوليائهم، وإن كان الحديث هنا منصبًا على بيان حقيقة البركة المشروعة ورد ما عداها من المبتدعة، فإن القول بأن البركة التي تحصل شرعًا من المشايخ ترجع إلى مجرد العادة لا السبب القدري فهذا غير صحيح، لأن الله تعالى هو خالق الأسباب ومسبباتها فكونه تعالى يخلق السبب سواء كان شرعيًا أم كونيًا في أمر من الأمور فإن هذا يؤكد على حقيقة تأثيره بمشيئة الله وتقديره، فلو شاء لأبطل الأسباب ولو شاء لتحقق مقتضاها مع توفر شروطها وانتفاء موانعها.
أما عن التبرك الغير مشروع، نعود إلى التأكيد على أهمية التوحيد، فإن من أسمى مقاصد الشريعة الإسلامية حفظ الدين، وأساس الدين توحيد الله تعالى وإخلاص العبادة له، فهو حق الله الأعظم الذي أنيط بتحققه قبول العمل الموجب لدخول الجنة والنجاة من النار.
فلا غرو إذًا أن يأتي الشارع الحكيم بسد ذرائع الشرك التي كانت سببًا في وقوع أمم من الجن والإنس في الشرك الأكبر المخرج من الملة، ولعلي أذكر أمثلة لحرص المصطفى صلى الله عليه وسلم على صفاء المعتقد وخلوصه من أدران الشرك، فـ "عن عبد الله بن الشخير قال انطلقت في وفد بني عامر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا: أنت سيدنا، فقال:(السيد الله تعالى)، قلنا: وأفضلنا فضلًا، وأعظمنا طولًا، فقال:(قولوا بقولكم أو بعض قولكم ولا يستجرينكم الشيطان)(1).
وهذا كله من حماية النبي صلى الله عليه وسلم جناب التوحيد، وكما قال لمن قال تعالوا بنا
(1) أخرجه أبو داود في سننه: كتاب الأدب - باب في كراهية التمادح، رقم الحديث: 4773: (5/ 278) وصححه الألباني في صحيح أبي داود، برقم: 4021: (3/ 912).
نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق قال: (إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله) " (1).
ومن هنا كان التوسل بذوات الأولياء، من أعظم ذرائع الشرك، فقد تسبب هذا المعتقد في ضلال قوم نوح.
كما أن أساس الشرك الذي وقع فيه كفار مكة؛ مرده إلى هذا التوسل الشركي، حيث ظن مشركو قريش أن لهذه الآلهة منزلة عند الله، تقربهم بعبادتها، والتبرك بها، والتعلق بأذيالها من المولى تعالى.
ولما كانت العبادة توقيفية، فليس للعقل فيها استقلال عن الشرع؛ فقد حرم التبرك بذوات الصالحين، وعد الوقوع به من ألوان الابتداع الذي يقدح في جناب التوحيد، وبحسب درجة الاعتقاد في ذلك التبرك؛ يقرب هذا الابتداع من دائرة الشرك أو يدخل فيها.
فمن ظن أن لهؤلاء الأولياء نوع نفع أو ضر، ولو على غير جهة الاستقلال - وهذا هو حال من يعتقد البركة فيهم، إذ حقيقة التبرك هو طلب البركة بالزيادة والنفع - كما ظن أولئك المشركون في آلهتهم، فقد وقع في الشرك الأكبر المخرج من الملة، إذ العلة في دخول أولئك في الشرك مع فعل هؤلاء واحدة، فلم يكن الدافع لأولئك في توسلهم بالآلهة اعتقاد انفرادهم بالضر أو النفع، فقد كانوا يعلمون بأنهم عبيد الله، يصدق ذلك قولهم: لبيك لا شريك لك، إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك.
وأساس هذا المنع: أعني به التبرك بالذوات من جهتين: الأولى من جهة وجوب إفراد الله تعالى بأفعال الربوبية، فإن في نسبة نوع من الضر أو النفع لأحد لم يرد في استحقاقه ذلك دليل كوني أو شرعي، محض تحكم على المولى تعالى، كيف وقد أمر المصطفى وهو خير من طلعت عليه الشمس أن يعلن افتقاره إلى ربه بقوله:
(1) تقدم تخريجه، معارج القبول:(2/ 532).