الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المناقشة:
يستند هذا الدليل في مبدأ الاستدلال به عند الفلاسفة إلى التصور المطلق للوجود، والذي ليس له حقيقة خارجة عن الذهن، مما يحكم بعدم كفايته في الاستدلال على وجود الله تعالى، فكل ما يقتضيه: تقسيم الوجود إلى واجب وممكن، أما من حيث التعين فلا يدل عليه، وهذا ما يدحض حجيته في الاستدلال على وجود الله تعالى، ويقرر عدم كفايته في هذا الأصل العظيم.
بيان ذلك: أن الدليل الصحيح الدال على وجود الله تعالى لا بد أن يدل على تعينه متصفًا بما لا يشاركه فيه أحد من صفات الكمال، مع دلالته على إثبات وجوده، وإلا لأدى ذلك الاستدلال إلى نقيض المراد منه، يقول شيخ الإسلام رحمه الله:"حقيقة قول هؤلاء نفى الوجود الواجب المباين للوجود الممكن، ونفى وجود الخالق المباين للمخلوقات، ونفى وجود القديم المباين للمحدثات". (1)
وهذا يرجع إلى أنه استدلال بالكلى، الذي لا وجود له إلا في الأذهان وهو مطلق الوجود على المتعين وهو الوجود الواجب المتحقق في الخارج، وهذا غير ممكن بطريقه؛ لأن دلالة الكلى على المتعين قد تفيد إثباته في العقل، ولكنها تقصر عن المراد الأسمى، وهو تعيينه بصفاته التي يحصل بها التمييز بين الواجب والممكن في الخارج، يقول شيخ الإسلام في بيان عدم جدواه:"فإن هذه الطريقة، وإن كانت صحيحة بلا ريب، لكن نتيجتها إثبات وجود واجب، وهذا لم ينازع فيه أحد من العقلاء المعتبرين، ولا هو من المطالب العالية، ولا فيه إثبات الخالق، ولا إثبات وجود واجب أبدع السموات والأرض". (2)
- وقد أعرض الفلاسفة عن الاستدلال بالحدوث - مع أنه يستند إلى مبدأ الإدراك الحسى إلى الاستدلال بهذا الدليل - حتى لا يخالفوا اعتقادهم بقدم بعض الموجودات كالأفلاك السماوية، فحصروا دلالة الممكن على الواجب بافتقاره إليه افتقار العلة إلى معلولها دون سبق زمان. (3)
(1) الصفدية: (2/ 19).
(2)
شرح العقيدة الأصفهانية: 42.
(3)
انظر: الدرء: (3/ 334) بدون إلزامات الأشاعرة في المقدمة التالية، لأنها فطرية، وسيأتي بيانه.
وهذا ما رده عليهم شيخ الإسلام رحمه الله وبين عدم صحته لمخالفته ما قد أجمع العقلاء عليه، يقول:"أما كون الممكن بنفسه له ذات يعتقب عليه الوجود والعدم، وأنها مع ذلك قد تكون قديمة أزلية واجبة بغيرها، كما يقوله ابن سينا وموافقوه، فهذا باطل عند العقلاء قاطبة من الأولين والآخرين، حتى عند ابن سينا مع تناقضه". (1)
- ومع مخالفة المتكلمين للفلاسفة في هذا، واستدلالهم بالإمكان على الحدوث، لاقتضائه سبق الممكنات بالعدم، كما بين الصاوى، إلا أن شيخ الإسلام يخطئهم في استخدام مصطلح الإمكان من حيث امتناع دلالته على المراد، ببيان أن الممكن ما كان معدومًا أما ما وجد فقد خرج عن الإمكان إلى الوجوب بالغير، فالمعروف في فطر الناس أن ما مضى من وجود وعدم لا يسمونه ممكنًا، وإنما يسمون بالممكن شيئًا يمكن وجوده في المستقبل وعدمه في المستقبل". (2)
هذا وقد سبقت الإشارة إلى أن الدليل حتى يتم به المقصود لا بد أن يتسم بالبيان والوضوح، وإلا خالف المراد منه، وهذا مما انتقده شيخ الإسلام رحمه الله على المتكلمين، حيث خالفوا السبيل المستبين إلى سبيل تتسم مقدماته بالطول والخفاء، واستخدام المصطلحات الفلسفية المبتدعة، مما جعل فهمه متعسرًا على الكثير، يقول:"فإن العلم بأن المحدث لا بد له من محدث أبين من العلم بأن الممكن لا بد له من واجب فتكون تلك الطريق أبين وأقصر، وهذه أخفى وأطول". إلى أن قال: "ومن استدل على الجلى بالخفى فإنه وإن تكلم حقًا فلم يسلك طريق الاستدلال. . . فإثبات الصانع بمثل هذه المقدمات لو كانت صحيحة كان الدليل باطلًا". (3)
وبعد التنبيه على وعورة هذه المسالك، وانقطاعها بأصحابها في الوصول للمراد الأسمى، يجدر التنبيه إلى بيان الطرق الشرعية، التي ذكرت في القرآن الكريم والسنة المطهرة، باعتبار كفايتهما في الاستدلال على أصول الدين جملة وتفصيلًا -
(1) الدرء: (3/ 337).
(2)
الدرء: (3/ 350).
(3)
انظر: شرح العقيدة الأصفهانية: 43.
كما بينت سابقًا - فإن طريقة القرآن الكريم في بيان هذا الأصل، تتفق وروح السماحة وإرادة الخير بالبشرية، التي تعد من أبرز سماته التي خصه الله بها.
فإن حديث القرآن عن معرفة الله تعالى، والاستدلال على وجوده ، يتسم بأنه خطاب موجه للفطرة المغروسة في النفس البشرية، فجل ما يفيده في هذا المجال هو تنبيه العقل لإدراك هذه الحقيقة الكامنة فيه إن غفل عنها، وغابت معالمها في نفسه، ومن ثم إلزامها بما يقتضيه هذا الإقرار من التزام بأوامر الشرع المطهر، فدليل الخلق والإيجاد، يعتمد على مقدمتين، دلالة كل منهما تستند إلى اليقين، وهما: أن ما يشاهد من الموجودات مخلوق، وأنه لا بد لكل مخلوق من خالق.
حيث ترتكز المقدمة الأولى على مبدأ الإدراك الحسى، وذلك أن العلم بحدوث المخلوقات، تقتضيه مشاهدة ما يطرأ عليها من وجود بعد عدم، ومن فناء بعد وجود، وقد دل القرآن الكريم على هذه الضرورة، بأحسن بيان وأوجزه، قال تعالى:{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} .
وقال: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [يونس: 34].
وغيرها من آيات الذكر الحكيم، التي نبهت إلى حقيقة الخلق في هذه الموجودات المشاهدة، وإقرار الكافرين بها، فاستدلت بها دون أن تستدل لها على ضرورة وجود خالق مبدع لتلك المخلوقات.
- أما المقدمة الثانية لهذا الدليل، وهى ضرورة أن يكون لهذه المخلوقات خالقًا مبدعًا، فتعتمد على مبدأ السببية، الذي يعد من أسمى مبادئ التفكير البشرى الهادى إلى معرفة الله تعالى، وقد اعتمد القرآن الكريم في الاستدلال على هذا الأصل العظيم إلزام المخاطبين به، قال تعالى:{أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} [النمل: 64].
حيث تدل هذه الآية الكريمة على وجوب أن يكون لهم خالق خلقهم من غير أنفسهم، ومن ثم إلزامهم بوجوب أن يكون هو الخالق الذي لا إله إلا هو.
وقد أتى هذا الإلزام بصيغة الاستفهام الإنكارى ليدل على فطرية هذه القضية واستقرارها في نفوسهم، بحيث يمتنع مخالجة الشك لها. (1)
يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله: "لا يخلو الأمر من واحدة من ثلاث حالات بالتقسيم الصحيح والأولى: أن يكونوا خلقوا من غير شيء، أي بدون خالق أصلًا.
والثانية: أن يكونوا خلقوا أنفسهم.
والثالثة: أن يكون خلقهم خالق غير أنفسهم.
ولا شك أن القسمين الأولين باطلان، وبطلانهما ضرورى كما ترى، فلا حاجة إلى إقامة الدليل عليه لوضوحه، والثالث هو الحق الذي لا شك فيه، وهو جل وعلا خالقهم المستحق منهم أن يعبدوه وحده جل وعلا". (2)
وعلى نفس مبدأ السببية يقوم دليل آخر، له ارتباط وثيق بدليل الخلق، وذلك من جهة اشتمال المخلوقات على ما هي عليه من الإحكام والإتقان، ومن ثم الاستدلال بذلك على وجود مبدع لها، أحكم وأتقن صنعها، يقوم هذا الدليل كسابقه على مقدمتين دلالتهما يقينية: أما المقدمة الأولى: وهى أن كل ما هو مشاهد من المخلوقات قد أحكم خلقه وأتقن، فتستند إلى الإدراك الحسى الذي يدرك هذه الحقيقة ويشاهدها دون أدنى شك.
وأما المقدمة الثانية، وهى أن كل ما أحكم صنعه وأتقن فإنه يدل على وجود بديع أبدعه، فتستند إلى مبدأ السببية، الذي يمنع أن يكون هذا الإحكام والإتقان قد وجد اتفاقًا بلا مسبب له، ومن ثم يلزم بوجود مسبب قادر على إبداع هذا الخلق وإحكامه.
والآيات التي تشهد لهذا الأصل كثيرة حتى عدها بعضهم في أكثر من ثمانين
(1) انظر: الرد على المنطقيين، لابن تيمية (253).
(2)
أضواء البيان للشنقيطى (4/ 398).
موضعًا، كلها تحث العقل على تدبر ما في هذا الخلق من عناية وحسن تدبير وتقدير ونظام، ففى بيان العناية وحسن التدبير، يقول الشيخ السعدى في تفسير قوله تعالى:{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس: 7]"فالنفس آية كبيرة من آياته التي يحق الإقسام بها، فإنها في غاية اللطف والخفة، سريعة التنقل والحركة، والتغيير، والتأثر، والانفعالات النفسية من الهمة والإرادة والقصد والحب والبغض، وهى التي لولاها لكان البدن مجرد تمثال لا فائدة فيه، وتسويتها على ما هي عليه آية من آيات الله العظيمة". (1)
* * *
(1) تيسير الكريم المنان في تفسير كلام الرحمن: (1012). ولمزيد من التفصيل انظر مبحث الاستدلال على وجود الله في كتاب المعرفة في الإسلام، فضيلة الشيخ الدكتور: عبد الله القرنى.