الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولبيان مصادر هذا الانحراف الخطير في الفكر الصوفي فإن الحديث يرجع بنا إلى الكلام عن مصادر التصوف ومشاربه المتعددة، فقد سبقت الإشارة إلى أن الفكر اليوناني المتمثل بمذهبه الأفلاطوني الإشراقي هو أبرز العناصر التي أثرت في الفكر الصوفي عبر مراحله المتأخرة التي سادت فيها النزعة الفلسفية حتى وصلت إلى قمة الإغراق في الاتجاه الغالي نحو الفلسفة عند ابن عربي. (1)
ثانيًا: وحدة الشهود:
وبعد هذا التوضيح المجمل لمعتقد وحدة الوجود بقي أن نعرف ما المراد بوحدة الشهود التي كثر حديث الصوفية عنها؟ وهل هي كما يظن بعضهم أنها عين وحدة الوجود؟ وما العلاقة بينهما مع وجود الفرق؟
إن وحدة الشهود بالمفهوم الصوفي تغاير في حقيقتها المعتقد السابق، فهي عندهم عبارة عن حالة نفسية وجدانية يصل فيها العبد بالمجاهدة إلى القرب من الرب تعالى حتى يتم له الاتصال به - سبحانه - فيتمكن الصوفي من رؤية ربه، ومشاهدته مشاهدة قلبية، على إثر فنائه عن مشاهدة الأغيار، وقد يصل الأمر بالصوفي إلى حال يفقد فيه القدرة على التمييز بينه وبين الرب، فكأن الصوفي هو الله، والله هو الصوفي - تعالى الله عن قولهم -، فوحدة الشهود إذًا "تعني اتحاد العبد مع الله اتحاد عيان ومكاشفة، لا اتحاد جواهر وأعيان". (2)
بيان ذلك أنه قد سبقت الإشارة إلى أن للحلول نوعين: أحدهما الحلول الثنائي الذي يمتاز فيه الحال عن المحل، حيث تظل ذات الله - سبحانه - متميزة عن ذات الإنسان ولا تمتزج به، فيكون شخص الإنسان محلًا للذاتين معًا: ذات الله - تعالى عن قولهم - وذات الإنسان مع تمايز كل ذات عن الأخرى. فهذا هو المراد بالشهود عندهم. (3)
(1) انظر الجانب الإلهي في التفكير الفلسفي، محمد البهي:337. وانظر: الفلسفة اليونانية، ليوسف كرم: 290. وانظر: الفلسفة العربية عبر التاريخ، رمزي نجار: 58 والفتوحات: (1/ 232)، وانظر: أضواء على التصوف، لطلعت غنام:268. ونظرات في معتقدات ابن عربي. للدكتور/ كمال عيسى: 75.
(2)
نشأة الفلسفة الصوفية وتطورها، عرفان عبد الحميد:160.
(3)
انظر: التيارات الوافدة، لشيخنا الفاضل الدكتور/ محمود مزروعة.
وهذا هو حقيقة توحيد الخواص عندهم، فمن لم تتسام نفسه لتقف على حقيقة التوحيد مجردًا فليس له نصيب من التوحيد الذي شهد به الحق تعالى لنفسه، ولتأصيل هذا المعتقد يلجأ الجنيد - بحسب ما نقل عنه - إلى الاستدلال بقوله تعالى:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} ، قائلًا:"فمن أين كان، وكيف كان قبل أن يكون؟ وهل أجابت إلا الأرواح الظاهرة بإقامة القدرة وإنفاذ المشيئة؟ فهو الآن في الحقيقة كما كان قبل أن يكون، وهذا غاية حقيقة التوحيد للواحد: أن يكون العبد كما لم يكن، ويبقى الله تعالى كما لم يزل". (1)
ويقول الشبلي: "ما شم رائحة التوحيد من تصور عنده التوحيد". (2)
ويقول الهروي: "وأما التوحيد الثالث: فهو توحيد اختصه الحق لنفسه، واستحقه لقدره، وألاح منه لائحًا إلى أسرار طائفة من صفوته، وأخرسهم عن نعته وأعجزهم عن بثه"(3)
وكما بينت سابقًا إن هذه الحالة أو المقام قد تحمل صاحبها على النطق بالشطحات المعروفة والتي كان مصدرها ذهول الصوفي وعجزه عن التمييز، كما يدعون. (4)
ولم يقف الأمر عند حد الشطحات بل تعداه إلى ادعاء سقوط التكاليف في حال المشاهدة لمحل السكر والاصطلام، فيستوى المحظور والمأمور عند السالك، حيث تفنى إرادته عن مشاهدة الإرادة الشرعية، وتبقى الإرادة الكونية ماثلة لتأملاته الوجدانية، ليربط بمشاهدتها تخليه عن الامتثال للأحكام الشرعية. (5)
ومن هنا فإن وحدة الشهود تعني أن يقف الصوفي على عين التوحيد بتجربة نفسية تخضع لعدد من المجاهدات والشروط، فيفقد فيها نتيجة لما يصاب به من
(1) اللمع لأبي نصر الطوسي: 50.
(2)
الرسالة القشيرية: 302.
(3)
مدارج السالكين: (3/ 472 - 477).
(4)
انظر: تلبيس إبليس: 417.
(5)
انظر: التعرف: للكلاباذي: 127، وانظر: الرسالة القشيرية: 128.
السكر القدرة على التمييز، قد تكون متعمدة وقد تكون طارئة لشدة ما يجده من قوة الوارد، يؤكد ذلك أقوال بعضهم في حقيقة التوحيد المعتبر، يقول أبو سعيد الخراز:"أول مقام لمن وجد علم التوحيد وتحقق بذلك فناء ذكر الأشياء عن قلبه وانفراده بالله عز وجل"(1)
فمن هذا النص يتبين أنه لا يمكن لتحقيق هذه الوحدة إلا بسلوك طريق المجاهدة ومحو الأغيار، فهي إذًا حالة لا تنفك عن الوجدان الذي هو من أخص سمات المنهج الصوفي، بخلاف وحدة الوجود التي ليس لها اتصال بالتجربة النفسية إلا بالقدر الذي يتبناه أهل الاتحاد من وحدة الشهود، وإنما هي نظرية فلسفية بحتة النشأة، يشترك فيها الصوفي وغيره.
وبهذا الذي تقدم يمكن تحديد الفرق بين وحدة الشهود ووحدة الوجود وذلك بالتأكيد على أن الشهود يقوم على الإثنينية، بمعنى أنه لا يتأتى الشهود إلا بشاهد ومشهود، وإن حصل اللبس على الصوفي الغارق فإنه لا ينتهي به إلى الاتحاد الذي يتحدث عنه أصحاب الوحدة، ومع وجود بعض الألفاظ في ثنايا التقارير الصوفية التي توحي بخلاف ذلك، كقول القشيري:"وتوهم قوم أن المشاهدة تشير إلى طرف التفرقة، لأن باب المفاعلة إنما يحدث بين اثنين، وهذا تخيل من صاحبه، فإن في ظهور الحق - سبحانه - إهلاك الخلق"(2)، إلا أنها لا تصل إلى تقرير معتقد وحدة الوجود القائم على أساس الأحدية الذي يحكم بأن جميع الموجودات إنما هي مظاهر وتجليات للذات الإلهية، إذ تبقى حقيقة المشاهدة قائمة على أساس من الثنوية التي لا ينكرها واحد منهم (3).
أما الشطح وأحكامه فقد سبق الحديث عنه في أقسام المقامات.
ويصرح بعضهم تأكيدًا لهذا الفارق بنفي الاتحاد، يقول الطوسي: "فإن صح عن
(1) المرجع السابق: 302.
(2)
الرسالة: 76.
(3)
انظر: نشأة الفلسفة الصوفية: 161.
أحد أنه قال هذه المقالة - يعني الاتحاد - وظن أن التوحيد أبدى له صفحته بما أشار إليه، فقد غلط في ذلك، وذهب عليه أن الشيء مجانس للشيء الذي حل فيه، والله تعالى بائن من الأشياء، والأشياء بائنة منه بصفاتها، والذي أظهر في الأشياء: فذلك آثار صنعته ودليل ربوبيته. . فمن صح عنه شيء من هذه المقالات فهو ضال بإجماع الأمة، كافر يلزمه الكفر فيما أشار إليه" (1).
وعليه فإني أخالف بعض الباحثين فيما ذهبوا إليه من اتحاد مفهوم وحدة الوجود بالشهود. ويجدر بي التنبيه إلى أن ما ذكرته لا يعني أن وحدة الشهود ليس فيها ما قد يصل بصاحبها إلى ما يناقض التوحيد، لأنها كما مر من تعريفها باب لمزلة عظيمة قد تهوى بالمستهلك الغارق إلى دائرة العدم فيسقط الفرائض ويدعي الاتحاد مع الله (2)، ولكن هو من باب ذكر الفروق حتى يتم تمييز هذه المصطلحات وما ينبني عليها من أحكام.
وفي مقابل هذا التفسير لوحدة الشهود بأنها مماثلة لوحدة الوجود فقد ذهب بعض الصوفية إلى العكس من ذلك، حيث فسروا بما يلزم وحدة الوجود من الاتحاد بوحدة الشهود، يقول الجرجاني في تعريف الاتحاد:"وهو شهود الوجود الحق الواحد المطلق، الذي الكل موجود بالحق، فيتحد به الكل من حيث كون كل شيء موجودًا به، معدومًا بنفسه ولا من حيث إن له وجودًا خاصًا اتحد به فإنه محال"(3)
رأي الشيخ الصاوي:
يمنع الصاوي وهو الأشعري المتمسك بأشعريته من اعتقاد الحلول أثناء الترقي في هذه المقامات؛ لما في ذلك من مناقضة أصل معرفة الله تعالى مما هو معلوم من أدلة المتكلمين، يقول في أقسام الناس الذين عرفوا الله بالمعرفة الخاصة، كما هي عليه في عرف الصوفية: "المعرفة الخاصة: شهود أفعال: وهي للأبرار، وشهود أسماء
(1) اللمع للطوسي: 541.
(2)
انظر: نشأة الفلسفة: 163.
(3)
التعريفات: 29.
وصفات: وهي للأخيار، وشهود ذات: وهي لخيار الخيار، والمراد شهود الذات من غير وقوف على كنه؛ إذ الكنه لا يدرك حتى للمصطفى، لأن الحادث لا يحيط بالقديم، وقال شيخنا المؤلف: اختلف، هل تجلى الذات يكون لغير الأنبياء؟ أو لا يكون إلا للأنبياء؟
والصحيح أنه يكون لغير الأنبياء أيضًا لكن لا كتجلي الأنبياء، وكذلك شهود الأنبياء يتفاوت، فشهود نبينا أعلى لا يساويه شهود أحد" (1).
وتأكيدًا لهذا المعنى يقول في تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة: 186]: "فإني قريب: أي بعلمي وسمعي وبصري وقدرتي وإرادتي، ولم يقل بذاته وإن كانت الصفات لا تفارق الذات؛ لأنه ربما يتوهم للقاصر الحلول فيقع في الحيرة، وأما من فنى عن وجوده فلم يشهد إلا الله فقد زال عنه الحجاب فلا حيرة عنده، إذ لم يشهد غيره وإنما خص المفسر العلم بذلك لأنه من صفات الإحاطة". (2)
- ولكن هناك ما يدعو إلى الشعور بالتناقض وعدم الانضباط، حيث يثبت معتقد وحدة الوجود ولكنه مع ذلك يحاول تخريج القول به دون اعتقاد الحلول، التأصيل وهذا المقام يسمى: بوحدة "لاعتقاد وحدة الوجود من آيات الكتاب الكريم: "يقول: الوجود، ولا يدركه الشخص إلا بعد الفناء في الأحدية، وحدة الوجود هذه يسمى صاحبها: في مقام البقاء، ويسمى غرقان في بحر الوحدة التي هي شهود المولى من حيث قيام الأسماء والصفات به" (3)
ويقول مؤصلًا لها مبينًا المراد منها عنده: "شاع على ألسنة العوام: الله موجود في كل الوجود، وهو كلام صحيح في نفسه، لأن مفاده وحدة الوجود، لكنه غير لائق منهم لإيهام الحلول، وتأويله أن تقول: معناه أنه مع كل موجود، أي لا يغيب
(1) المرجع السابق: 69.
(2)
حاشية الجلالين: (1/ 79).
(3)
حاشية الصلوات: 67.
عنه موجود أصلًا، ومعيته معه معناها تصرفه فيه، وتدبيره له معية معنوية لا يعلمها إلا هو، كما أن ذاته لا يعلمها إلا هو، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، ومن كلام ابن وفا أن من أعظم إشارات وحدة الوجود: قوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53] ". (1)
وتأكيدًا لكونه لا يرى اعتقاد الحلول أو وحدة الوجود على ما عناه الغلاة من الصوفية، يقول في تفسيره:"وأشار للحقيقة بقوله: وهدى ورحمة للمؤمنين، لأن بالحقيقة التحلي بالأنوار الساطعة في القلوب، التي يرى بها الأشياء، على ما هي عليه عيانًا، فعند ذلك يرى الله في كل شيء، وأقرب إليه من كل شيء، علمًا ذوقيًا لا علمًا يقينيًا"(2).
وهو لا يكتفي بهذا بل ينزه الله عن هذا الفهم، يقول في وصف التاج الذي يضعه أصحاب الطريقة الخلواتية:"مما يسمى بالتاج بين الصوفية الذي يوضع على الرأس وقرصه صوف أبيض وهو الخرقة المشهورة للسادة الخلواتية التي هي شعارهم، وفيه إشارة، كما قال أستاذنا المؤلف إلى سلوك طريق التصوف وبياض القلب، وهو مضرب على وجه مخصوص محيط به أربع جلالات أي من كل جهة اثنا عشر ضلعًا، عدة حروف لا إله إلا الله إشارة إلى شهود إحاطة الرب به من جميع جهاته إحاطة قيومية لا حسية تنزه الله عن ذلك، وبعضهم يجعل وسطه زارا إشارة للوحدة، وبعضهم يجعله خاليًا إشارة للفناء، وبعضهم يجعل في وسطه هاء هكذا إشارة إلى الهوية الدائرة بالعلم، دوران علم وقدرة وقيومية لا دوران حس"(3).
وهو بهذا المعنى الذي يفسر فيه مراد الصوفية من وحدة الوجود نجده أيضًا يؤول
(1) حاشية الجوهرة: 19.
(2)
حاشية الجلالين: (121: 2).
(3)
حاشية الصلوات: 71. ولا شك أن هذا من البدع الحادثة التي ذكر المحققون أنها من تأثر الصوفية بالنصارى، وإنما الهدف من هذا النص بيان معتقد الصاوي في وحدة الوجود.