الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(المبحث الثاني): الاستدلال على وجود الله تعالى
تبين مما سبق أن اعتقاد السلف في فطرية معرفة الله تعالى، هو مقتضى التسليم بنصوص الكتاب والسنة والإجماع، وأن ذلك الاعتقاد حقيقة في النفس البشرية لا يمكن دفعها، حيث يستند في مبدئه إلى الإذعان بالضرورة الفطرية التي تحتم التسليم بالمبادئ الأولية (1) والمسلمات اليقينية التي هي أساس التفكير البشرى والاستدلال العقلى.
وتمثل هذه الحقيقة في التصور السليم، المحور الأساس الذي تدور حوله الطرق الشرعية في الاستدلال على وجود الله تعالى، حيث تعتمد هذه الطرق العقلية على مبدأ السببية، الذي يقوم عليه دليل الخلق والإيجاد، ودليل الإحكام والإتقان. وبذلك فقد مثل هذا المبدأ أسمى مبادئ التفكير البشرى، الذي ميز الله تعالى به الإنسان، ليكون دليلًا هاديًا إلى معرفته تعالى إذا ضلت بصاحبها الأهواء.
ويتعين الاستدلال بالعقل على وجود الله تعالى؛ عند انطماس معالم الفطرة الكامنة في النفس البشرية، وذلك حين تحول الموانع الصارفة دون الوصول إلى هذه الحقيقة الفطرية، فيأتى هنا دور العقل البشرى ليكون هو الهادى بإذن الله تعالى إلى معرفته، حيث تنحصر وظيفته في إعمال المبدأ الفطرى، والركيزة اليقينية، وهى دلالة الأسباب على مسببها.
وقد نبه القرآن الكريم العقل البشرى إلى إدراك هذه الحقيقة حين خاطب المشركين، بطريق التقسيم الحاصر، حيث قال في محكم التنزيل:{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور: 35].
(1) المبادئ الأولية هي: التي لا تفتقر إلى شيء أصلًا بعد توجه العقل إليها، يقول الجرجانى:"هي التي لا تحتاج إلى البرهان بخلاف المسائل فإنها تثبت بالبرهان القاطع": تعريفات الجرجانى: 250.
فالمعنى: "أخلقوا من غير خالق خلقهم؟ فهذا ممتنع في بدائه العقول. أم خلقوا أنفسهم؟ فهذا أشد امتناعًا. فعلم أن لهم خالقًا خلقهم، هو الله سبحانه. وقد ذكر سبحانه الدليل بصيغة الاستفهام الإنكارى ليبين أن هذه القضية التي استدل بها فطرية بديهية مستقرة في النفوس لا يمكن لأحدٍ إنكارها، فلا يمكن صحيح الفطرة أن يدعى وجود حادث بدون محدث أحدثه، ولا يمكنه أن يقول: إنه أحدث نفسه". (1)
وقد تبين بذلك أن القرآن الكريم في خطابه للنفس البشرية، من أجل تقرير هذه الحقيقة، يأمر بإعمال التفكير والتدبر، حتى يصل إلى تلك المبادئ الفطرية، والمسلمات اليقينية، التي لا يمكن ردها، ولا الاستدلال عليها، فيرتفع بذلك الغطاء الذي حال دون الشعور بها.
فمعرفة الله تعالى فطرية في النفس، سواء حصل العلم بها ضرورة، أو بالتفات النفس إلى ذلك؛ لشعورها بطلبه والحاجة إليه، ويمكن أن يتمثل ذلك الالتفات بصورة دليل تكون مقدماته فطرية؛ لأن الاستدلال على وجود الله تعالى في أصل الأمر يرتكز على مبدأ فطرى لا يمكن الاستدلال له، يقول شيخ الإسلام:"والشبهات القادحة في تلك العلوم لا يمكن الجواب عنها بالبرهان، لأن غاية البرهان أن ينتهى إليها، فإذا وقع الشك فيه انقطع طريق النظر والبحث". (2) وهذا ما حكاه الغزالي عن نفسه حين حالت الشبهات بينه وبين هذه الأوليات الفطرية، حيث سمى ذلك الشك في تلك المسلمات مرضًا، وبين أن طريق اهتدائه ونجاته منه لم يكن بنظم دليل، وإنما بنور قذفه الله تعالى في صدره. (3)
وفى بيان فطرية الأوليات التي يقوم عليها الاستدلال على وجود الله تعالى، يقول شيخ الإسلام: "وإن كان فيها قوة تقتضى المعرفة بنفسها، وإن لم يوجد من يعلمها أدلة المعرفة، لزم حصول المعرفة فيها بدون ما نسمعه من أدلة المعرفة، سواء
(1) الرد على المنطقيين: 253.
(2)
الدرء: (3/ 310).
(3)
المنقذ من الضلال: 23.