الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(المبحث الثاني): الإيمان بالكتب السابقة
لقد سبق الحديث عما يجب أن يقوم عليه الإيمان بالكتب المنزلة على الأنبياء عليهم السلام، إلا أن الحديث هنا يتوجه إلى الكتب السابقة على وجه الخصوص، فمع وجوب الإيمان بإنزالها على الأنبياء والتصديق بأنها من عند الله تعالى، وأنها قد اشتملت على أصول الإيمان كما تقدم بيانه إلا أن ما أصيبت به من التحريف والتغيير على أيدي من أنيط بهم القيام بحفظها، قصر الإيمان على التسليم بما جاء فيها على جهة الإجمال دون ما ورد فيها من تفاصيل الأحكام، فهي بهذا منسوخة التشريع لا يؤخذ بما ورد فيها من تشريعات لم يرد الدلالة عليها في الإسلام، قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} .
ولبيان هذا الأصل القائم على التفصيل بين الإيمان المطلق الممنوع في حقها؛ والذي يعني التسليم بكل ما وجدناه في تلك الكتب، ومطلق الإيمان المساوي للإيمان الجملي، والذي أنيط بتحقيقه مقتضى الأمر للإيمان بها، يتجه الحديث إلى أنواع التحريف الذي أصيبت به تلك الكتب، فعند تتبع الآيات والأحاديث التي ورد فيها تبديل أهل الكتاب لما أنزل إليهم من ربهم وجدنا أنها تشير إلى ثلاثة أنواع من التحريف:
1 -
تحريف المعنى مع بقاء اللفظ على ما هو عليه.
2 -
التحريف بالتغيير والتبديل.
3 -
التحريف بالكتمان.
- ومن أمثلة النوع الأول؛ والذي يعني التحريف بلازم الحكم وما يقتضيه إثبات
اللفظ المنزل، تأويل النواهي التي في التوراة بكونها مخصصة في حق اليهود من بعضهم البعض دون غيرهم، فقد ورد في الإصحاح الثالث والعشرين، من سفر الخروج:"لا تقبل خبرًا كاذبًا، ولا تضع يدك مع المنافق لتكون شاهد ظلم، لا تتبع الكثيرين إلى فعل الشر، . . .، لا تقتل البرئ والبار، لأني لا أبرر المذنب. ولا تأخذ رشوة. لأن الرشوة تعمي المبصرين" إلى غير ذلك من الأحكام التي أطلقت ولم تقيد، وهذا ما شهده عليهم كتابنا العزيز، قال تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} [آل عمران: 75].
أما التحريف بالتغيير سواء بالزيادة أو النقصان أو التبديل، فالأمثلة في الدلالة عليه كثيرة، ومن ذلك قصة الذبيح إسماعيل عليه السلام، فإن أهل الكتاب حرفوا القصة ونسبوها إلى إسحاق من ولد إبراهيم عليه السلام، وهذا مما علم مناقضته بالضرورة للحقيقة التي نزل بها القرآن الكريم من أن الذبيح هو إسماعيل، ومع ذلك فإن في نفس التوراة ما يدل على هذا التحريف بالتبديل، فقد ورد في الإصحاح الثاني والعشرين ما نصه:"وحدث بعد هذه الأمور أن الله امتحن إبراهيم. فقال له: يا إبراهيم. فقال: هاأنذا. فقال: خذ ابنك ووحيدك الذي تحبه إسحاق واذهب إلى أرض المريا وأصعده هناك محرقة على أحد الجبال الذي أقول لك" الإصحاح الثاني والعشرين من سفر التكوين. إلى آخر القصة التي نعرفها من أمره بذبح أبنه ومن ثم فديته بالكبش.
والشاهد من النص أنه يقول خذ ابنك ووحيدك، وقد كرر هذا الوصف في نفس القصة إذ ورد فيها بعد افتدائه بالكبش:"ونادى ملاك الرب إبراهيم ثانية من السماء. وقال بذاتي أقسمت يقول الرب. إني من أجل أنك فعلت هذا الأمر ولم تمسك ابنك وحيدك أباركك مباركة"
ومعلوم أن إسماعيل هو الابن الأكبر، فقد ولد له وكان عمره: ستًا وثمانين سنة، بنص التوراة: في الإصحاح السادس عشر من سفر التكوين.
أما إسحاق فقد ولد له وهو ابن مائة سنة: الإصحاح الحادي والعشرون، من سفر التكوين.
وهذا يفيد أن الابن الذي كان وحيدًا لإبراهيم مدة أربعة عشر عامًا كان إسماعيل ولم يكن إسحاق بنص التوراة المحرفة.
ومن أعظم التحريف بالزيادة والتبديل، ما أحدثه النصارى في عيسى عليه السلام حيث ادعوا أنه ابن الله - تعالى الله عن قولهم -، فقد ورد في إنجيل لوقا في الإصحاح الأول ما نصه:"الروح القدس يحل عليك وقوة العلي تظللك فلذلك أيضًا القدوس المولود منك يدعى ابن الله. وهوذا إليصابات نسيبتك - أراد بها زوجة زكريا عليها السلام هي أيضًا حبلى بابن في شيخوختها وهذا هو الشهر السادس لتلك المدعوة عاقرًا. لأنه ليس شيء غير ممكن لدى الله"
فالنص مع أنه ظاهر التحريف لأن هذه المقولة مناقضة لعقيدة التوحيد التي بعث بها الأنبياء من لدن آدم عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم، إلا أن في النص ذاته ما يبين كذبهم وافتراءهم بالقول ببنوة عيسى لكونه أتى من غير أب، فقد نبهها الملك عند تعجبها وخوفها بمقارنة حالها بحال المرأة التي عرفت بالعاقر، وذكرها بأن كل ذلك يرجع إلى قدرة الله التي لا يعجزها شيء، فأي افتراء وكذب في دعوى النصارى بالبنوة.
وقد رد المولى دعواهم وأبطلها وبين مناقضتها للحق الذي قامت به السموات والأرض: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 88 - 93].
أما التحريف بالكتمان فقد أخبرنا القرآن الكريم عن بعض صوره، حيث كتم أهل الكتاب تصديق بعثة النبي صلى الله عليه وسلم فعصوا أمر الله بذلك، قال تعالى: {الَّذِينَ