المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ نظرية الكسب في الفكر الأشعري - آراء الصاوي في العقيدة والسلوك

[أسماء بنت محمد توفيق بركات ملا حسين]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الباب الأول: حياة الشيخ الصاوى

- ‌الفصل الأول: عصر الصاوي

- ‌(المبحث الأول): الحالة السياسية

- ‌الاضطرابات والقلاقل السياسية:

- ‌ مذبحة المماليك بالقلعة سنة 1811 م:

- ‌محاربة الدعوة السلفية:

- ‌ القضاء على الزعامة الشعبية والدينية بنفى عمر مكرم:

- ‌(المبحث الثاني): الحالة الاجتماعية

- ‌(المبحث الثالث): الحالة العلمية والدينية

- ‌الفصل الثاني: حياة الصاوى

- ‌(المبحث الأول): سيرته الذاتية

- ‌1 - اسمه ونشأته:

- ‌2 - صفاته وأخلاقه

- ‌3 -‌‌ شيوخهوتلاميذه

- ‌ شيوخه

- ‌تلاميذه:

- ‌(المبحث الثاني): مكانته العلمية ومؤلفاته

- ‌مكانتها العلمية:

- ‌الحواشى العقدية:

- ‌الفصل الثالث: منهجه في تحري مسائل الاعتقاد

- ‌(المبحث الأول): مصادره في العقيدة

- ‌أولًا: مكانة العقل في التلقى:

- ‌ثانيًا: حجية الإلهام:

- ‌المناقشة:

- ‌أولًا: مصادر التلقى:

- ‌ثانيًا: نقض دعاويهم في تقديم العقل:

- ‌ثالثًا: التناقض لازم لهذا المسلك:

- ‌رابعًا: حجية الإلهام:

- ‌(المبحث الثاني): منهجه في الاستدلال

- ‌أولًا: الاستدلال بقياس الغائب على الشاهد:

- ‌مناقشة:

- ‌ثانيًا: الاستدلال بالسبر والتقسيم:

- ‌ثالثًا: الاستدلال بالقياس المنطقي:

- ‌المناقشة:

- ‌ثالثًا: منهجه في الاستدلال بالقرآن والسنة:

- ‌أولًا: الاستدلال بالنص:

- ‌ثانيًا: الاستدلال بالظاهر:

- ‌المناقشة:

- ‌مسلك التأويل والتفويض:

- ‌ أولًا المراد بالمتشابه:

- ‌ ثانيًا: المراد بالتأويل:

- ‌الباب الثاني: (آراؤه في العقيدة)

- ‌الفصل الأول: (آراؤه في معرفة الله والاستدلال على وجوده)

- ‌(المبحث الأول): معرفة الله تعالى

- ‌(تمهيد)

- ‌طرق المعرفة

- ‌رأى الشيخ الصاوى:

- ‌المناقشة:

- ‌التقليد وحكم المقلد

- ‌رأى الشيخ الصاوى:

- ‌المناقشة:

- ‌(المبحث الثاني): الاستدلال على وجود الله تعالى

- ‌ دليل حدوث الأجسام

- ‌رأي الشيخ الصاوي:

- ‌المناقشة:

- ‌دليل الإمكان

- ‌رأي الشيخ الصاوي:

- ‌المناقشة:

- ‌الفصل الثاني: (آراؤه في التوحيد)

- ‌تمهيد

- ‌(المبحث الأول): تعريف التوحيد

- ‌رأي الشيخ الصاوي:

- ‌المناقشة:

- ‌(المبحث الثاني): دليل التوحيد

- ‌رأي الشيخ الصاوى:

- ‌المناقشة:

- ‌(المبحث الثالث): شهادة التوحيد ونواقضها

- ‌رأى الشيخ الصاوى:

- ‌المناقشة:

- ‌الفصل الثالث: (آراؤه في الأسماء والصفات)

- ‌تمهيد

- ‌(المبحث الأول): المسائل المتعلقة بالأسماء الحسنى

- ‌أسماء الله تعالى كلها حسنى:

- ‌أسماء الله تعالى توقيفية:

- ‌أسماء الله تعالى غير محصورة بعدد:

- ‌ أسماء الله تعالى غير مخلوقة:

- ‌رأى الشيخ الصاوي:

- ‌المناقشة:

- ‌(المبحث الثاني): المسائل المتعلقة بصفات الله تعالى

- ‌أولًا: الصفات السلبية

- ‌ثانيًا: صفات المعاني

- ‌ثالثًا: الصفة النفسية

- ‌رابعًا: الصفات المعنوية

- ‌خامسًا: موقفه من الصفات الأخرى

- ‌ أولًا: صفة الرحمة والغضب والمحبة:

- ‌ ثانيًا الصفات الخبرية الذاتية:

- ‌الفصل الرابع: آراؤه في الإيمان

- ‌تمهيد

- ‌(المبحث الأول): حقيقة الإيمان

- ‌رأى الشيخ الصاوي:

- ‌المناقشة:

- ‌(المبحث الثاني): العلاقة بين الإسلام والإيمان

- ‌رأي الشيخ الصاوي:

- ‌المناقشة:

- ‌(المبحث الثالث): الأسماء والأحكام

- ‌أولًا: حقيقة الإيمان، وبيان ما يناقضه:

- ‌ثانيًا: تحقيق الوعد مع وجود مسببه من الإيمان:

- ‌ثالثًا: تحقق الوعيد مع وجود المقتضى من الكفر:

- ‌رابعًا: موانع إنفاذ الوعيد لأصحاب الكبائر من المسلمين:

- ‌خامسًا: الرد على شبه الوعيدية:

- ‌سادسًا: موقفه من مخالفيه (دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله:

- ‌الفصل الخامس: (آراؤه في الإيمان بالملائكة)

- ‌(المبحث الأول): الإيمان بالملائكة الأطهار

- ‌(المبحث الثاني) عالم الجن والشياطين

- ‌الفصل السادس: آراؤه في الإيمان بالكتب

- ‌تمهيد

- ‌(المبحث الأول): تعريف الوحي

- ‌رأي الشيخ الصاوي:

- ‌تعليق:

- ‌(المبحث الثاني): الإيمان بالكتب السابقة

- ‌رأي الشيخ الصاوي:

- ‌كلامه في التوراة:

- ‌كلامه في الإنجيل:

- ‌كلامه في الزبور:

- ‌مناقشة:

- ‌(المبحث الثالث): الإيمان بالقرآن الكريم

- ‌رأي الشيخ الصاوي:

- ‌المناقشة:

- ‌الفصل السابع: آراؤه في الإيمان بالنبوات

- ‌تمهيد

- ‌(المبحث الأول): مفهوم النبوة والرسالة

- ‌رأي الشيخ الصاوي:

- ‌تعليق:

- ‌(المبحث الثاني): الإيمان بالرسل والأنبياء

- ‌رأي الشيخ الصاوي:

- ‌التعليق:

- ‌أولًا: المفاضلة بين البشر والملائكة:

- ‌ثانيًا: عصمة الأنبياء:

- ‌ثالثًا: ما يتعلق بالأحوال البشرية:

- ‌(المبحث الثالث): خاتم الأنبياء عموم رسالته

- ‌رأي الشيخ الصاوي:

- ‌أسماؤه الشريفة:

- ‌مكانته بين الرسل:

- ‌خصائصه صلى الله عليه وسلم

- ‌مظاهر الغلو فيه صلى الله عليه وسلم

- ‌المناقشة:

- ‌أولًا: أسماؤه الشريفة:

- ‌ثانيًا: قضية التفضيل:

- ‌ثالثًا: الغلو فيه صلى الله عليه وسلم

- ‌(المبحث الرابع): دلائل النبوة

- ‌رأي الشيخ الصاوي:

- ‌تعليق:

- ‌الفصل الثامن: (آراؤه في الإيمان باليوم الآخر)

- ‌تمهيد

- ‌(المبحث الأول): تعريف اليوم الآخر، وأدلته

- ‌رأي الشيخ الصاوي:

- ‌تعليق:

- ‌(المبحث الثاني): الإيمان بأشراط الساعة

- ‌رأي الشيخ الصاوي:

- ‌تعليق:

- ‌(المبحث الثالث): الموت، وحياة البرزخ

- ‌الروح والموت

- ‌حياة البرزخ

- ‌(المبحث الرابع): حقائق يوم القيامة

- ‌ المحشر وعرضات يوم القيامة

- ‌الجنة والنار

- ‌الفصل التاسع: (آراؤه في الإيمان بالقضاء والقدر)

- ‌(المبحث الأول): القضاء والقدر (تعريفه ومراتبه)

- ‌رأي الشيخ الصاوي:

- ‌أولًا: تعريف القدر:

- ‌ثانيًا: تعريف القضاء:

- ‌ثالثًا: مراتب القدر:

- ‌مرتبة العلم:

- ‌مرتبة الكتابة:

- ‌مرتبة المشيئة:

- ‌مرتبة الخلق:

- ‌المناقشة:

- ‌(المبحث الثاني): الحكمة والتعليل في أفعال الله تعالى

- ‌رأي الشيخ الصاوي:

- ‌موقفه من الظلم:

- ‌المناقشة:

- ‌حقيقة الظلم:

- ‌(المبحث الثالث): أفعال العباد

- ‌أدلة القدرية والجبرية:

- ‌رأي الشيخ الصاوي:

- ‌أولًا: أفعال العباد وحقيقتها القدرية:

- ‌ثانيًا: الأسباب، وموقف الناس منها:

- ‌ثالثًا: أدلة رجح بها مذهب الأشعري، ورد بها على مخالفيه:

- ‌الأدلة السمعية:

- ‌الأدلة العقلية:

- ‌رابعًا: حقيقة القدر في الفكر الصوفي:

- ‌المناقشة:

- ‌ نظرية الكسب في الفكر الأشعري

- ‌الفصل العاشر: آراؤه في الصحابة والإمامة

- ‌تمهيد

- ‌(المبحث الأول): الصحابة الكرام

- ‌أولًا: تعريف الصحابة:

- ‌ثانيًا: فضائل الصحابة:

- ‌ثالثًا الدفاع عن الصحابة:

- ‌التعليق:

- ‌ تعريف الصحابة:

- ‌فضل الصحابة:

- ‌الدفاع عن الصحابة:

- ‌(المبحث الثاني): الإمامة

- ‌تعليق:

- ‌أولًا: حكم تنصيب الوالي:

- ‌ثانيًا: ما تنعقد به البيعة:

- ‌صفات الوالي:

- ‌تعدد الولاة:

- ‌حق الإمام:

- ‌الباب الثالث: (آراؤه في باب السلوك)

- ‌الفصل الأول: (التصوف وآدابه)

- ‌تمهيد

- ‌(المبحث الأول): مفهوم التصوف

- ‌(المبحث الثاني): آداب التصوف

- ‌رأي الشيخ الصاوي:

- ‌أهمية اختيار الشيخ:

- ‌صفات الشيخ:

- ‌آداب السلوك:

- ‌أولًا: ما يتعلق بآداب اختيار العلم:

- ‌ثانيًا: الآداب المتعلقة بحق الشيخ:

- ‌الآداب المتعلقة بجماعة الطلاب:

- ‌المناقشة:

- ‌أولًا: مكانة علم التصوف بين العلوم:

- ‌ثانيًا: صفات الشيخ:

- ‌آداب التلقي:

- ‌احترازات في التلقي:

- ‌أولًا: طاعة الشيخ:

- ‌ثانيًا: التبرك بالشيخ:

- ‌ثالثًا: ملاحظة الشيخ:

- ‌رابعًا: الاستغناء بالشيخ:

- ‌الفصل الثاني: (المقامات والأحوال)

- ‌تمهيد

- ‌تعريف المقام:

- ‌تعريف الحال:

- ‌(المبحث الأول): أقسام المقامات (عند الصوفية)

- ‌الفناء والبقاء:

- ‌الجمع والفرق:

- ‌أحكام البقاء:

- ‌مقام الجمع:

- ‌مقام الفرق:

- ‌(المبحث الثاني): منهج الصوفية في التأصيل للمقامات

- ‌رأي الشيخ الصاوي:

- ‌المناقشة:

- ‌(المبحث الثالث): وحدة الوجود ووحدة الشهود

- ‌أولًا: وحدة الوجود:

- ‌ثانيًا: وحدة الشهود:

- ‌المناقشة:

- ‌أولًا: نقض وحدة الوجود:

- ‌موقف الصاوي:

- ‌ثانيًا: حقيقة وحدة الشهود:

- ‌(المبحث الرابع): الترقي في المقامات

- ‌رأي الشيخ الصاوي:

- ‌أولًا: عقبات الترقي:

- ‌ثانيًا: طريق الخلاص:

- ‌المناقشة:

- ‌الفصل الثالث: (الولاية والكرامة)

- ‌تمهيد

- ‌(المبحث الأول): حقيقة الولاية

- ‌ تعريف الولاية:

- ‌ حقيقة الولي

- ‌رأي الشيخ الصاوي:

- ‌صفات الولي:

- ‌شرط الولاية:

- ‌الفرق بين الولي والدعي:

- ‌جزاء الأولياء:

- ‌طرق الولاية:

- ‌فضائل الأولياء:

- ‌زمن الولاية:

- ‌المناقشة:

- ‌حقيقة الولاية:

- ‌ معرفة الولي:

- ‌طرق الولاية:

- ‌فضائل الأولياء:

- ‌مدة الولاية:

- ‌المبحث الثاني: حقيقة الكرامة

- ‌رأي الشيخ الصاوي:

- ‌المناقشة:

- ‌الخاتمة

- ‌المصادر والمراجع

الفصل: ‌ نظرية الكسب في الفكر الأشعري

الجهمية، والمعتزلة القدرية، فإنه تعالى قال:{لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير: 28] فأثبت للعبد مشيئة وفعلًا، ثم قال:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} ، فبين أن مشيئة العبد معلقة بمشيئة الله، والأولى رد على الجبرية، وهذه رد على القدرية الذين يقولون: قد يشاء العبد ما لا يشاؤه الله" (1).

وكل ما يستدل به الجبرية على مناقضة هذا الأصل، وهو إثبات فعل العبد على الحقيقة وإرجاعه إلى جملة الأسباب، التي أوجدها الله تعالى ورتب على وجودها ما أراد سبحانه، فيه ما يثبت بطلان قولهم، فقد استدل الصاوي بهذه الآية الكريمة على الجبر ولا مستند له فيما ذهب إليه كما تقدم ويستدل غيره أيضًا من أهل الجبر بمثل قوله تعالى:{وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17]، فأثبت المولى تعالى رمى العبد ولكنه نفى عنه الاستقلال بالرمى وهذه هي حقيقة الأسباب التي أثبتها أهل السنة وأرجعوا إليها فعل العبد وقدرته على إنجاز ما يريد، ومن هنا نأتى إلى مناقشة‌

‌ نظرية الكسب في الفكر الأشعري

.

نظرية الكسب في الفكر الأشعري:

من خلال عرض أقوال طائفة من كبار منظرى المذهب الأشعري تبين وبوضوح أن نظرية الكسب كانت محل اختلاف واضطراب عند أصحاب المذهب وأن هذا الاضطراب كان نتيجة لعدم اقتناع بحقيقة الكسب، يقول عبد الرحمن البدوى:"يظهر أن موقف أبى الحسن الأشعري لا يمكن قبوله ولا بد من تعديله: فعدله الباقلانى؛ بأن أثبت للقدرة الإنسانية تأثيرًا، هو حال به يتصف صاحب القدرة بكسبه لهذا الفعل، وجعل هذه الحال هي التي ينالها العقاب والثواب، لكن الجويني رأى أن هذا غير معقول، ويساوى نفى التأثير الذي قال به الأشعري، ولهذا خطا خطوة أبعد فأقر قيام نسبة حقيقية بين فعل العبد وبين قدرته، لكن في غير أمور الإحداث والخلق، وهذه النسبة تطرد من فعل إلى سببه، باستمرار حتى نصل إلى مسبب الأسباب؛ أي الله تعالى"(2).

(1) المرجع السابق: (8/ 488).

(2)

مذاهب الإسلاميين: 561.

ص: 604

ومما سبق يظهر وجه الاستحالة في نظرية الكسب؛ لأنها محاولة في التوسط بين الاختيار والجبر، والحقيقة أنه لا توسط بينهما، ولا بد من القول بأحدهما في نهاية المطاف، وهذه هي حقيقة الكسب؛ تنظير للجبر بقالب الاختيار؛ فإن نزع التأثير من فعل العبد تمامًا وإرجاع حصول الفعل عند قدرته إلى مجرد الاقتران ينفى تمامًا صورة الاختيار عن فعل العبد، ويقضى بالجبر الذي كثيرًا ما صرح به الصاوي في حواشيه، ومن العجب أن يحكم الصاوي على من قال بالجبر بالكفر المخرج من الملة، ثم يعلن بصراحة أن العبد مجبور في قالب مختار، فأى مفهوم للجبر إن لم يكن هذا هو المراد منه!

ثم إن في جعله من العباد مظاهر للتصريف الإلهى، وفى نسبته أفعال العباد له تعالى ليس فقط على جهة الخلق كما هو الصحيح، بل حتى على جهة الفعل حيث يصف الله تعالى بأنه فاعل لأفعال العباد، وفي تقسيمه أيضًا للحقيقة والشريعة وذكر أقوال كبار مذهب التصوف في حكاية العذر عن أهل الكفر والقبائح، مناقضة صريحة لمهاجمته مذهب الجبرية، والحكم عليه بما حاول الفرار منه، وصريح كلام الشهرستانى وهو أحد كبار منظرى المذهب الأشعري في نسبة الجبر لمن نفى التأثير تمامًا عن فعل العبد بالجبر، ومع ذلك فإن العدل يقضى ببيان وجه مخالفة الأشعرية لمذهب جهم؛ وذلك أن الصاوي متبعًا رأى الأشعري يفرق - كما هو ظاهر من كلامه - بين الأفعال الاختيارية والاضطرارية، كما أنه ينسب للعبد قدرة حادثة وهذا ما لا يقول به جهم وأتباعه (1).

وعليه فمناقشته في هذه القضية ترجع إلى أمرين:

أولًا: إثبات أن لقدرة العبد الحادثة أثرًا في وجود الفعل على جهة السببية لا الإحداث والخلق.

ثانيًا: أن الله عز وجل لا يوصف بأنه فاعل لأفعال العباد؛ بل خالق لها.

(1) انظر: درء التعارض لشيخ الإسلام: (9/ 167).

ص: 605

وحقيقة ما تقدم في إثبات الأثر أنه لا يمكن بحال التفريق بين أفعال العبد الاختيارية والاضطرارية؛ إلا مع إثبات تأثير لقدرة العبد في وجود الفعل، وهذا ما عليه مذهب أهل السنة والجماعة، ومع ذلك فإن هذا التأثير ليس على جهة الخلق والإيجاد، التي تقضى بالاستقلال في وجود الفعل وإخراجه من حيز العدم، وإنما على جهة السببية التي ترجع إلى مسبب الأسباب وحده جل في علاه، وليس في هذا أي تناقض كما يتصور الأشاعرة، بل المناقضة في مخالفة ذلك، يقربه أنه كما أثبتم للعبد قدرة حادثة ليس في إثباتها منازعة للقدرة القديمة؛ فليس بممتنع أن يثبت لهذه القدرة تأثيرًا حادثًا في وجود الفعل، ليس له استقلال في ذلك، أما نفى التأثير عن القدرة فهو حكم بعدمها، فالمعقول من القدرة معنى به يفعل الفاعل، ولا تثبت قدرة لغير فاعل، ولا قدرة يكون وجودها وعدمها بالنسبة إلى الفاعل سواء" (1).

وأساس هذا إثبات السببية على جهة الحقيقة، وأن في الأسباب قوة أوجدها الله تعالى فيها، تستمد منها وجودها وفاعليتها، والمذهب الأشعري في نفيه للأسباب يغالط مبدأ من أسمى مبادئ التفكير الإنسانى، الذي وهبه الله تعالى للعقل البشرى، والذي يعد الدليل الأول، والمقدمة الأولى، التي لا نزاع في التسليم لها؛ للاستدلال على وجوده سبحانه.

وهذا ما قدمته سابقًا في الحديث عن أدلة إثبات وجود الله تعالى؛ لذا كان التشكيك في هذه المسلمة؛ من أهم ما يرمى إليه أعداء الدين من الملاحدة، وحتى لا يخرج بى الكلام عن المقام؛ أقول أن الطعن في هذا الأساس والركيزة الفطرية المسلمة ليس له أساس من الصحة يعتمد عليه، وكل ما هنالك أن هذا التصرف من الشيغ الأشعري - عليه رحمة الله تعالى -؛ كان من قبيل ردود الأفعال ضد الغلاة في مطالعة الأسباب من القدرية أو الفلاسفة المنتسبين؛ حتى أدى بهم ذلك إلى أن أثبتوا لها الإحداث على جهة الاستقلال، وهذا ما لا يقول به السلف الصالح - رضوان الله تعالى عليهم -، وكثيرًا ما يؤكد الإمام ابن تيمية وتلميذه الإمام ابن

(1) الفتاوى: (8468).

ص: 606

القيم على حقيقة السبب في المنظور الشرعي، وأنه غير كافٍ في ترتب مقتضاه على وجوده حتى تتحقق له الشروط وتنتفى الموانع، وكل ذلك لا يكون إلا بإرادة المولى ومشيئته النافذة.

وهذا ما يفسر به الأئمة ما حدث عند إلقاء الخليل - عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم - في النار؛ فإن النار سبب للإحراق، ولكن لما أن أراد المولى تعالى إبطال السبب لعدم توفر شرط إعماله من مشيئة الله تعالى النافذة، كان ما كان من تحويل النار بردًا وسلامًا على إبراهيم عليه السلام، وهذا ما يقال أيضًا في قصة الخليل مع ابنه إسماعيل عليه السلام، ولا داعى لمعارضة الأحكام الكونية بمثل هذه التأويلات المخالفة للعقل والشرع.

وبذلك تنتفى حجة الأشاعرة في نفى التأثير عن قدرة العبد؛ فمع الأخذ بمفهوم السببية كما قرره السلف - رضوان الله عليهم -، وما يترتب عليه من نسبة التأثير على جهة الحقيقة الحادثة لا على جهة الخلق والإحداث؛ لم يعد للأشعرية حجة في نفى السبب عقلًا ولا شرعًا.

يقول شيخ الإسلام رحمه الله مفصلًا منهج السلف الكرام في قضية السبب: "الذي عليه السلف وأتباعهم، وأئمة أهل السنة وجمهور الإسلام المثبتون للقدر المخالفون للمعتزلة إثبات الأسباب، وأن قدرة العبد مع فعله لها تأثير كتأثير سائر الأسباب في مسبباتها، والله تعالى خلق الأسباب والمسببات، والأسباب ليست مستقلة بالمسببات، بل لا بد لها من أسباب أخر تعاونها، ولها مع ذلك أضداد تمانعها، والمسبب لا يكون حتى يخلق الله جميع أسبابه، ويدفع عنه أضداده المعارضة له، وهو سبحانه يخلق جميع ذلك بمشيئته وقدرته، كما يخلق سائر المخلوقات، فقدرة العبد سبب من الأسباب، وفعل العبد لا يكون بها وحدها، بل لا بد من الإرادة الجازمة مع القدرة. ."(1).

(1) مجموع الفتاوى: (8/ 487).

ص: 607

أما المحور الثاني في مناقشتهم؛ وهو عدم تفريقهم بين الخلق والمخلوق والفعل والمفعول؛ فهذا أيضًا مما لبس عليهم فيه، وخلطوا نتيجة لذلك بين حق وباطل، فالله تعالى خالق لأفعال العباد، موجد لها من العدم؛ فتنسب إلى أفعاله من جهة الخلق كباقى المخلوقات، ولا تنسب إلى أفعاله من حيث قيام الوصف به.

ولذا كان الصحيح في المسألة ما ذكره شيخ الإسلام في التفريق بين الفعل والمفعول، فالفعل للعبد وهو الانفعال في المراد، والمفعول بمعنى المخلوق هو لله تعالى، يقول:"وأما الجمهور الذين يفرقون بين هذا وهذا، فيقولون هذه مخلوقة لله مفعولة لله ليست هي نفس فعله، وأما العبد فهى فعله القائم به، وهى أيضًا مفعولة له إذا أريد بالفعل المفعول"(1) وهذا "إجماع من أهل السنة حكاه الحسين بن مسعود البغوي (2) وغيره، فالعبد فعله حقيقة، والله خالقه وخالق ما فعل به من القدرة والإرادة وخالق فاعليته"(3).

وبهذا يتضح معنى الكسب المذكور في قوله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286] ويكون المعنى الذي أراده الأشعرية للكسب من جملة المستحيلات، لأنه لا يعقل فرق بين الفعل الذي نفاه والكسب الذي أثبته" لذا قال الناس:"عجائب الكلام ثلاثة: طفرة النظام، وأحوال أبى هاشم، وكسب الاشعرى"(4).

وكان هذا الضلال الذي وقع في الأشعرية نتيجة لهذا الخلط المشين بين فعل الله تعالى وفعل العبد أساسًا اعتمده المتصوفة في التفريق بين الحقيقة والشريعة، والذي

(1) مجموع الفتاوى: (8/ 122).

(2)

هو الإمام الهمام أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد بن الفراء البغوي الفقيه الشافعي المحدث المفسر، صنف في التفسير وروى الحديث وأبان المشكلات ومن كتبه: معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم، وشرح السنة وغيرهما، توفى سنة: 510 هـ. انظر: وفيات الأعيان: (2/ 136)، وسير أعلام النبلاء:(19/ 439).

(3)

شفاء العليل: 223.

(4)

النبوات لشيخ الإسلام: 199.

ص: 608

سوغ لغلاتهم التشدق بمذهب الجبر دون تورع ووجل، ويظهر من خلال ما ذكرت من كلام الصاوي في نقله لعباراتهم شناعة ما توصلوا إليه نتيجة لذلك: فنسبة القبيح إلى الله تعالى واستحسانه لذلك، والجهر بعذر الخلق طائعهم وفاجرهم؛ لأنهم مظاهر لأفعال الله، كل هذا كان محصلة تلك الأهواء الفاسدة هي نفى الفعل عن العبد حقيقة.

ومهما تستروا بستار الكسب؛ فإن ألفاظهم تدل صراحة على اعتناق الجبر، والمتأمل لكلام الرازي يجد صراحة الإقرار بهذا، وعليه فلا سبيل بين الجبر والاختيار، فمن أثبت الاختيار بحال لا يمكن أن يقر بمذهب الجبر إطلاقًا والعكس صحيح، ومن رام خلافه وقع في التناقض؛ كما هو واضح في موقف الصاوي من التشديد في الحكم على الجبرية، ثم حكاية كلام المتصوفة الصريح في اعتناق مذهب الجبر.

وحقيقة ما تكلم فيه هؤلاء المتصوفة من عذر الخلق بفعل الرب، والتفريق بين الشريعة والحقيقة؛ هو الاحتجاج بالقدر على معصيته تعالى، وقد بين شيخ الإسلام رحمه الله ضلالهم، فقال: وهولاء الذين يشهدون الحقيقة الكونية وهى ربوبيته تعالى لكل شيء، ويجعلون ذلك مانعًا من اتباع أمره الدينى الشرعي على مراتب في الضلال.

فغلاتهم يجعلون ذلك مطلقًا عامًا؛ فيحتجون بالقدر في كل ما يخالفون فيه الشريعة، وقول هؤلاء شر من قول اليهود والنصارى، وهو من جنس قول المشركين الذين قالوا:{لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 148].

وهؤلاء من أعظم أهل الأرض تناقضًا، بل كل من احتج بالقدر فإنه متناقض، فإنه لا يمكن أن يقر كل آدمى على ما فعل إلى أن قال: "فيقال له إن كان القدر حجة؛ فدع كل أحد يفعل ما يشاء بك وبغيرك، وإن لم يكون حجة بطل أصل قولك حجة.

ص: 609

ومنهم صنف يدعون التحقيق والمعرفة؛ فيزعمون أن الأمر والنهى لازم لمن شهد لنفسه فعلًا، وأثبت له صنعًا، أما من شهد أن أفعاله مخلوقة، أو أنه مجبور على ذلك، وأن الله متصرف فيه كما تحرك سائر المتحركات، فإنه يرتفع عنه الأمر والنهى والوعد والوعيد. . ." إلى أن قال رحمه الله:"وهذه المقالات هي محادة لله ورسوله، ومعاداة له، وصد عن سبيله، ومشاقة له، وتكذيب لرسله، ومضادة له في حكمه"(1).

ومن خلال النص السابق يظهر أن أقوى دليل في إبطال الاحتجاج بالقدر هو ما لا يمكن دفعه من إرادة العبد وقدرته على الاختيار، وهذا ما يقتضيه التكليف الشرعي، فالله تعالى قد كلف عباده ما في وسعهم وتحت تصرفهم، وفى ذلك مقولة أهل العلم: إذا سلب ما وهب؛ أسقط ما أوجب، وعليه فلا تناقض بين الشرع والقدر حتى يحتج هؤلاء على معارضة الشرع بالقدر، فأساس ما يبطل به الاحتجاج بالقدر على المعصية إثبات التكليف، وقد علم أن المكلف لا تقام عليه الحجة بالتكليف حتى تقام عليه الحجة من إرسال الرسل وإبلاغه بذلك، وتحقق الشروط فيه من البلوغ والعقل، وانتفاء الموانع؛ فأى عذر بعد هذا للمحتج بالقدر على معصية الله تعالى!

ومن كل ما سبق؛ نرجع إلى التأكيد على الحقيقة السابقة الذكر، من أن أساس الضلال في كل المسائل المتعلقة بالقدر، ومن جملتها مسألة الاحتجاج به، هو اعتقاد التناقض بين الشرع والقدر، وكانت هذه الألفاظ كلفظ الحقيقة والشريعة والظاهر والباطن من المتصوفة تعبيرًا ناطقًا عن هذا التناقض، الذي لا أساس له صحيح من عقل ولا نقل.

* * *

(1) الفتاوى: (10/ 166).

ص: 610