الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الجهمية، والمعتزلة القدرية، فإنه تعالى قال:{لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير: 28] فأثبت للعبد مشيئة وفعلًا، ثم قال:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} ، فبين أن مشيئة العبد معلقة بمشيئة الله، والأولى رد على الجبرية، وهذه رد على القدرية الذين يقولون: قد يشاء العبد ما لا يشاؤه الله" (1).
وكل ما يستدل به الجبرية على مناقضة هذا الأصل، وهو إثبات فعل العبد على الحقيقة وإرجاعه إلى جملة الأسباب، التي أوجدها الله تعالى ورتب على وجودها ما أراد سبحانه، فيه ما يثبت بطلان قولهم، فقد استدل الصاوي بهذه الآية الكريمة على الجبر ولا مستند له فيما ذهب إليه كما تقدم ويستدل غيره أيضًا من أهل الجبر بمثل قوله تعالى:{وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17]، فأثبت المولى تعالى رمى العبد ولكنه نفى عنه الاستقلال بالرمى وهذه هي حقيقة الأسباب التي أثبتها أهل السنة وأرجعوا إليها فعل العبد وقدرته على إنجاز ما يريد، ومن هنا نأتى إلى مناقشة
نظرية الكسب في الفكر الأشعري
.
نظرية الكسب في الفكر الأشعري:
من خلال عرض أقوال طائفة من كبار منظرى المذهب الأشعري تبين وبوضوح أن نظرية الكسب كانت محل اختلاف واضطراب عند أصحاب المذهب وأن هذا الاضطراب كان نتيجة لعدم اقتناع بحقيقة الكسب، يقول عبد الرحمن البدوى:"يظهر أن موقف أبى الحسن الأشعري لا يمكن قبوله ولا بد من تعديله: فعدله الباقلانى؛ بأن أثبت للقدرة الإنسانية تأثيرًا، هو حال به يتصف صاحب القدرة بكسبه لهذا الفعل، وجعل هذه الحال هي التي ينالها العقاب والثواب، لكن الجويني رأى أن هذا غير معقول، ويساوى نفى التأثير الذي قال به الأشعري، ولهذا خطا خطوة أبعد فأقر قيام نسبة حقيقية بين فعل العبد وبين قدرته، لكن في غير أمور الإحداث والخلق، وهذه النسبة تطرد من فعل إلى سببه، باستمرار حتى نصل إلى مسبب الأسباب؛ أي الله تعالى"(2).
(1) المرجع السابق: (8/ 488).
(2)
مذاهب الإسلاميين: 561.
ومما سبق يظهر وجه الاستحالة في نظرية الكسب؛ لأنها محاولة في التوسط بين الاختيار والجبر، والحقيقة أنه لا توسط بينهما، ولا بد من القول بأحدهما في نهاية المطاف، وهذه هي حقيقة الكسب؛ تنظير للجبر بقالب الاختيار؛ فإن نزع التأثير من فعل العبد تمامًا وإرجاع حصول الفعل عند قدرته إلى مجرد الاقتران ينفى تمامًا صورة الاختيار عن فعل العبد، ويقضى بالجبر الذي كثيرًا ما صرح به الصاوي في حواشيه، ومن العجب أن يحكم الصاوي على من قال بالجبر بالكفر المخرج من الملة، ثم يعلن بصراحة أن العبد مجبور في قالب مختار، فأى مفهوم للجبر إن لم يكن هذا هو المراد منه!
ثم إن في جعله من العباد مظاهر للتصريف الإلهى، وفى نسبته أفعال العباد له تعالى ليس فقط على جهة الخلق كما هو الصحيح، بل حتى على جهة الفعل حيث يصف الله تعالى بأنه فاعل لأفعال العباد، وفي تقسيمه أيضًا للحقيقة والشريعة وذكر أقوال كبار مذهب التصوف في حكاية العذر عن أهل الكفر والقبائح، مناقضة صريحة لمهاجمته مذهب الجبرية، والحكم عليه بما حاول الفرار منه، وصريح كلام الشهرستانى وهو أحد كبار منظرى المذهب الأشعري في نسبة الجبر لمن نفى التأثير تمامًا عن فعل العبد بالجبر، ومع ذلك فإن العدل يقضى ببيان وجه مخالفة الأشعرية لمذهب جهم؛ وذلك أن الصاوي متبعًا رأى الأشعري يفرق - كما هو ظاهر من كلامه - بين الأفعال الاختيارية والاضطرارية، كما أنه ينسب للعبد قدرة حادثة وهذا ما لا يقول به جهم وأتباعه (1).
وعليه فمناقشته في هذه القضية ترجع إلى أمرين:
أولًا: إثبات أن لقدرة العبد الحادثة أثرًا في وجود الفعل على جهة السببية لا الإحداث والخلق.
ثانيًا: أن الله عز وجل لا يوصف بأنه فاعل لأفعال العباد؛ بل خالق لها.
(1) انظر: درء التعارض لشيخ الإسلام: (9/ 167).
وحقيقة ما تقدم في إثبات الأثر أنه لا يمكن بحال التفريق بين أفعال العبد الاختيارية والاضطرارية؛ إلا مع إثبات تأثير لقدرة العبد في وجود الفعل، وهذا ما عليه مذهب أهل السنة والجماعة، ومع ذلك فإن هذا التأثير ليس على جهة الخلق والإيجاد، التي تقضى بالاستقلال في وجود الفعل وإخراجه من حيز العدم، وإنما على جهة السببية التي ترجع إلى مسبب الأسباب وحده جل في علاه، وليس في هذا أي تناقض كما يتصور الأشاعرة، بل المناقضة في مخالفة ذلك، يقربه أنه كما أثبتم للعبد قدرة حادثة ليس في إثباتها منازعة للقدرة القديمة؛ فليس بممتنع أن يثبت لهذه القدرة تأثيرًا حادثًا في وجود الفعل، ليس له استقلال في ذلك، أما نفى التأثير عن القدرة فهو حكم بعدمها، فالمعقول من القدرة معنى به يفعل الفاعل، ولا تثبت قدرة لغير فاعل، ولا قدرة يكون وجودها وعدمها بالنسبة إلى الفاعل سواء" (1).
وأساس هذا إثبات السببية على جهة الحقيقة، وأن في الأسباب قوة أوجدها الله تعالى فيها، تستمد منها وجودها وفاعليتها، والمذهب الأشعري في نفيه للأسباب يغالط مبدأ من أسمى مبادئ التفكير الإنسانى، الذي وهبه الله تعالى للعقل البشرى، والذي يعد الدليل الأول، والمقدمة الأولى، التي لا نزاع في التسليم لها؛ للاستدلال على وجوده سبحانه.
وهذا ما قدمته سابقًا في الحديث عن أدلة إثبات وجود الله تعالى؛ لذا كان التشكيك في هذه المسلمة؛ من أهم ما يرمى إليه أعداء الدين من الملاحدة، وحتى لا يخرج بى الكلام عن المقام؛ أقول أن الطعن في هذا الأساس والركيزة الفطرية المسلمة ليس له أساس من الصحة يعتمد عليه، وكل ما هنالك أن هذا التصرف من الشيغ الأشعري - عليه رحمة الله تعالى -؛ كان من قبيل ردود الأفعال ضد الغلاة في مطالعة الأسباب من القدرية أو الفلاسفة المنتسبين؛ حتى أدى بهم ذلك إلى أن أثبتوا لها الإحداث على جهة الاستقلال، وهذا ما لا يقول به السلف الصالح - رضوان الله تعالى عليهم -، وكثيرًا ما يؤكد الإمام ابن تيمية وتلميذه الإمام ابن
(1) الفتاوى: (8468).
القيم على حقيقة السبب في المنظور الشرعي، وأنه غير كافٍ في ترتب مقتضاه على وجوده حتى تتحقق له الشروط وتنتفى الموانع، وكل ذلك لا يكون إلا بإرادة المولى ومشيئته النافذة.
وهذا ما يفسر به الأئمة ما حدث عند إلقاء الخليل - عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم - في النار؛ فإن النار سبب للإحراق، ولكن لما أن أراد المولى تعالى إبطال السبب لعدم توفر شرط إعماله من مشيئة الله تعالى النافذة، كان ما كان من تحويل النار بردًا وسلامًا على إبراهيم عليه السلام، وهذا ما يقال أيضًا في قصة الخليل مع ابنه إسماعيل عليه السلام، ولا داعى لمعارضة الأحكام الكونية بمثل هذه التأويلات المخالفة للعقل والشرع.
وبذلك تنتفى حجة الأشاعرة في نفى التأثير عن قدرة العبد؛ فمع الأخذ بمفهوم السببية كما قرره السلف - رضوان الله عليهم -، وما يترتب عليه من نسبة التأثير على جهة الحقيقة الحادثة لا على جهة الخلق والإحداث؛ لم يعد للأشعرية حجة في نفى السبب عقلًا ولا شرعًا.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله مفصلًا منهج السلف الكرام في قضية السبب: "الذي عليه السلف وأتباعهم، وأئمة أهل السنة وجمهور الإسلام المثبتون للقدر المخالفون للمعتزلة إثبات الأسباب، وأن قدرة العبد مع فعله لها تأثير كتأثير سائر الأسباب في مسبباتها، والله تعالى خلق الأسباب والمسببات، والأسباب ليست مستقلة بالمسببات، بل لا بد لها من أسباب أخر تعاونها، ولها مع ذلك أضداد تمانعها، والمسبب لا يكون حتى يخلق الله جميع أسبابه، ويدفع عنه أضداده المعارضة له، وهو سبحانه يخلق جميع ذلك بمشيئته وقدرته، كما يخلق سائر المخلوقات، فقدرة العبد سبب من الأسباب، وفعل العبد لا يكون بها وحدها، بل لا بد من الإرادة الجازمة مع القدرة. ."(1).
(1) مجموع الفتاوى: (8/ 487).
أما المحور الثاني في مناقشتهم؛ وهو عدم تفريقهم بين الخلق والمخلوق والفعل والمفعول؛ فهذا أيضًا مما لبس عليهم فيه، وخلطوا نتيجة لذلك بين حق وباطل، فالله تعالى خالق لأفعال العباد، موجد لها من العدم؛ فتنسب إلى أفعاله من جهة الخلق كباقى المخلوقات، ولا تنسب إلى أفعاله من حيث قيام الوصف به.
ولذا كان الصحيح في المسألة ما ذكره شيخ الإسلام في التفريق بين الفعل والمفعول، فالفعل للعبد وهو الانفعال في المراد، والمفعول بمعنى المخلوق هو لله تعالى، يقول:"وأما الجمهور الذين يفرقون بين هذا وهذا، فيقولون هذه مخلوقة لله مفعولة لله ليست هي نفس فعله، وأما العبد فهى فعله القائم به، وهى أيضًا مفعولة له إذا أريد بالفعل المفعول"(1) وهذا "إجماع من أهل السنة حكاه الحسين بن مسعود البغوي (2) وغيره، فالعبد فعله حقيقة، والله خالقه وخالق ما فعل به من القدرة والإرادة وخالق فاعليته"(3).
وبهذا يتضح معنى الكسب المذكور في قوله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286] ويكون المعنى الذي أراده الأشعرية للكسب من جملة المستحيلات، لأنه لا يعقل فرق بين الفعل الذي نفاه والكسب الذي أثبته" لذا قال الناس:"عجائب الكلام ثلاثة: طفرة النظام، وأحوال أبى هاشم، وكسب الاشعرى"(4).
وكان هذا الضلال الذي وقع في الأشعرية نتيجة لهذا الخلط المشين بين فعل الله تعالى وفعل العبد أساسًا اعتمده المتصوفة في التفريق بين الحقيقة والشريعة، والذي
(1) مجموع الفتاوى: (8/ 122).
(2)
هو الإمام الهمام أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد بن الفراء البغوي الفقيه الشافعي المحدث المفسر، صنف في التفسير وروى الحديث وأبان المشكلات ومن كتبه: معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم، وشرح السنة وغيرهما، توفى سنة: 510 هـ. انظر: وفيات الأعيان: (2/ 136)، وسير أعلام النبلاء:(19/ 439).
(3)
شفاء العليل: 223.
(4)
النبوات لشيخ الإسلام: 199.
سوغ لغلاتهم التشدق بمذهب الجبر دون تورع ووجل، ويظهر من خلال ما ذكرت من كلام الصاوي في نقله لعباراتهم شناعة ما توصلوا إليه نتيجة لذلك: فنسبة القبيح إلى الله تعالى واستحسانه لذلك، والجهر بعذر الخلق طائعهم وفاجرهم؛ لأنهم مظاهر لأفعال الله، كل هذا كان محصلة تلك الأهواء الفاسدة هي نفى الفعل عن العبد حقيقة.
ومهما تستروا بستار الكسب؛ فإن ألفاظهم تدل صراحة على اعتناق الجبر، والمتأمل لكلام الرازي يجد صراحة الإقرار بهذا، وعليه فلا سبيل بين الجبر والاختيار، فمن أثبت الاختيار بحال لا يمكن أن يقر بمذهب الجبر إطلاقًا والعكس صحيح، ومن رام خلافه وقع في التناقض؛ كما هو واضح في موقف الصاوي من التشديد في الحكم على الجبرية، ثم حكاية كلام المتصوفة الصريح في اعتناق مذهب الجبر.
وحقيقة ما تكلم فيه هؤلاء المتصوفة من عذر الخلق بفعل الرب، والتفريق بين الشريعة والحقيقة؛ هو الاحتجاج بالقدر على معصيته تعالى، وقد بين شيخ الإسلام رحمه الله ضلالهم، فقال: وهولاء الذين يشهدون الحقيقة الكونية وهى ربوبيته تعالى لكل شيء، ويجعلون ذلك مانعًا من اتباع أمره الدينى الشرعي على مراتب في الضلال.
فغلاتهم يجعلون ذلك مطلقًا عامًا؛ فيحتجون بالقدر في كل ما يخالفون فيه الشريعة، وقول هؤلاء شر من قول اليهود والنصارى، وهو من جنس قول المشركين الذين قالوا:{لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 148].
وهؤلاء من أعظم أهل الأرض تناقضًا، بل كل من احتج بالقدر فإنه متناقض، فإنه لا يمكن أن يقر كل آدمى على ما فعل إلى أن قال: "فيقال له إن كان القدر حجة؛ فدع كل أحد يفعل ما يشاء بك وبغيرك، وإن لم يكون حجة بطل أصل قولك حجة.
ومنهم صنف يدعون التحقيق والمعرفة؛ فيزعمون أن الأمر والنهى لازم لمن شهد لنفسه فعلًا، وأثبت له صنعًا، أما من شهد أن أفعاله مخلوقة، أو أنه مجبور على ذلك، وأن الله متصرف فيه كما تحرك سائر المتحركات، فإنه يرتفع عنه الأمر والنهى والوعد والوعيد. . ." إلى أن قال رحمه الله:"وهذه المقالات هي محادة لله ورسوله، ومعاداة له، وصد عن سبيله، ومشاقة له، وتكذيب لرسله، ومضادة له في حكمه"(1).
ومن خلال النص السابق يظهر أن أقوى دليل في إبطال الاحتجاج بالقدر هو ما لا يمكن دفعه من إرادة العبد وقدرته على الاختيار، وهذا ما يقتضيه التكليف الشرعي، فالله تعالى قد كلف عباده ما في وسعهم وتحت تصرفهم، وفى ذلك مقولة أهل العلم: إذا سلب ما وهب؛ أسقط ما أوجب، وعليه فلا تناقض بين الشرع والقدر حتى يحتج هؤلاء على معارضة الشرع بالقدر، فأساس ما يبطل به الاحتجاج بالقدر على المعصية إثبات التكليف، وقد علم أن المكلف لا تقام عليه الحجة بالتكليف حتى تقام عليه الحجة من إرسال الرسل وإبلاغه بذلك، وتحقق الشروط فيه من البلوغ والعقل، وانتفاء الموانع؛ فأى عذر بعد هذا للمحتج بالقدر على معصية الله تعالى!
ومن كل ما سبق؛ نرجع إلى التأكيد على الحقيقة السابقة الذكر، من أن أساس الضلال في كل المسائل المتعلقة بالقدر، ومن جملتها مسألة الاحتجاج به، هو اعتقاد التناقض بين الشرع والقدر، وكانت هذه الألفاظ كلفظ الحقيقة والشريعة والظاهر والباطن من المتصوفة تعبيرًا ناطقًا عن هذا التناقض، الذي لا أساس له صحيح من عقل ولا نقل.
* * *
(1) الفتاوى: (10/ 166).