الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وطريقه في نفي الحسد أن يعلم أن حكمة الله تعالى اقتضت جعل هذه الفضيلة في هذا، فينبغي أن لا يعترض عليها، ولا يكره حكمة أرادها الله تعالى" (1)
هذا والنصوص الدالة على حق الأخوة في الدين كثيرة، منها قوله صلى الله عليه وسلم:(مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد، بالسهر والحمى)(2)
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)(3)
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: (حق المسلم على المسلم ست. قيل ما هن؟ يا رسول الله! قال: إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فأنصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه)(4)
* * *
احترازات في التلقي:
ولمتابعة الصاوي نهج أسلافه من الصوفية؛ فقد وقع في عدد من المخالفات فيما يتعلق بالآداب المتعينة في حق الشيخ، ومناقشتها على النحو التالي:
فمع سلامة مبدئه في اختيار الشيخ، وذلك وفقًا لعرضه على منهج الكتاب والسنة، إلا أن في بعض ما ذكره الصاوي من الآداب المتعلقة به يكاد يكون على النقيض من هذا الذي ذهب إليه أولًا، وبيانه كالتالي:
أولًا: طاعة الشيخ:
إن أول ما يحسن مناقشة الصاوي فيه، هو محاولة استدلاله على الآداب المتعلقة بحق الشيخ على الطريقة الصوفية من الكتاب والسنة. والحق أن آيات الكتاب ليس
(1) آداب حملة القرآن: 42.
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الأدب - باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم: (18/ 140).
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الإيمان - باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، رقم الحديث:13.
(4)
أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب السلام - باب من حق المسلم للمسلم رد السلام: (14/ 143).
فيها دلالة إلا للطريقة النبوية السنية، وما خلا ذلك فيقبل منه ما وافق المنهج، ويرد ما خالفه، ففي الاستناد إلى قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1]. استدلالًا لآداب الصوفية خصوصًا صوفية المتأخرين مخالفة صريحة لكثير من الأسس الصحيحة.
ولعل في هذا متابعة لما درج عليه الكثير من الصوفية، حيث اعتمدوا حال الصحابة - رضوان الله عليهم - مع نبيهم صلى الله عليه وسلم في الاستدلال لما يجب أن يكون عليه حال الطالب مع الشيخ، ولا شك أن هذا اشتباه وإجمال يؤخذ منه ويرد، فعقد مقارنة بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين آحاد المسلمين مما لا دليل عليه يسنده في كل الأحوال، وذلك لأن المولى تعالى لم يتعبدنا باتباع أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم متابعة كاملة، يشير إلى هذا المعنى قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} .
يقول الإمام الشوكاني في تفسير الآية: "لما أمر سبحانه القضاة والولاة إذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالحق؛ أمر الناس بطاعتهم ها هنا، وطاعة الله عز وجل هي امتثال أوامره ونواهيه، وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي فيما أمر به ونهى عنه. وأولي الأمر: هم الأئمة والسلاطين والقضاة وكل من كانت له ولاية شرعية لا ولاية طاغوتية، والمراد طاعتهم فيما يأمرون به وينهون عنه ما لم تكن معصية، فلا طاعة لمخلوق في معصية الله، كما ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال جابر بن عبد الله ومجاهد: إن أولي الأمر: (هم أهل القرآن والعلم)، وبه قال مالك والضحاك. وروي عن مجاهد أنهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. وقال ابن كيسان هم أهل العقل والرأي، والراجح القول الأول"(1).
وبناء على ما تقدم فإن اعتماد هذه الآية في تحريم الاعتراض على الشيخ، والتزام عهده وميثاقه مهما كان من الباطل الذي ترده الآيات والأحاديث، وما
(1) فتح القدير: (1/ 720).
يقوله الصوفية من أن العلماء هم ورثة الأنبياء، وأن العالم هو المبلغ عن النبي ليس بحجة في الاقتداء الكامل التام إذا ورد منه ما يخالف هدي النبي صلى الله عليه وسلم.
فإن الطاعة المطلقة لا تكون إلا لله ورسوله مبلغًا عن ربه، أما الشيخ فطاعته تكون مقيدة بما يوافق أصل الطاعة المطلقة لله ولرسوله، لذا كانت طاعته الطاعة المطلقة حتى فيما خالف أمر الله وأمر رسوله نوعًا من أنواع الشرك الأكبر، وهو شرك الطاعة، ومما يدل على هذا الأصل الإيماني العظيم في وجوب صرف الطاعة المطلقة لله تعالى توحيدًا وتجريدًا، قوله تعالى:{وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} ، ففي هذه الآية دليل على أن من أحل شيئًا مما حرم الله، أو حرم ما أحل الله فهو مشرك (1).
وهذا ما فسر به قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} ، يقول الإمام ابن كثير:"إنهم اتبعوهم فيما حللوا وحرموا، وقال السدي: استنصحوا الرجال ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، ولهذا قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا} أي الذي إذا حرم الشيء فهو الحرام، وما حلله فهو الحلال، وما شرعه اتبع وما حكم به نفذ"(2).
"ومن اتخاذ الأحبار والرهبان أربابًا؛ طاعة العلماء علماء الضلال فيما أحدثوه في دين الله من البدع والخرافات والضلالات؛ كإحياء أعياد الموالد والطرق الصوفية والتوسل بالأموات ودعائهم من دون الله"(3) وغير ذلك مما يناقض أصل الانقياد للشارع الحكيم في كل صغيرة وكبيرة كما يقتضيه حقيقة الإذعان والتسليم بنبوته صلى الله عليه وسلم.
(1) تفسير البغوي: (3/ 184). وانظر: تفسير القرطبي: (7/ 77).
(2)
تفسير ابن كثير: (2/ 459).
(3)
الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد، د/ صالح الفوزان:71.
ولا شك أن مناقضة هذا الأصل بصرف الطاعة لغير الله من أعظم ما يفسد معيشة الناس في الدنيا والآخرة، يقول الإمام ابن القيم في قوله تعالى:{وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} [الأعراف: 56]: قال أكثر المفسرين: لا تفسدوا فيها بالمعاصي والدعاء إلى غير طاعة الله بعد إصلاح الله إياها، ببعث الرسل، وبيان الشريعة، والدعاء إلى طاعة الله، فإن عبادة غير الله، والدعوة إلى غيره، والشرك به؛ هو أعظم فساد في الأرض، بل فساد الأرض في الحقيقة إنما هو بالشرك به، ومخالفة أمره. . . .
وبالجملة فالشرك والدعوة إلى غير الله وإقامة معبود غيره ومطاع متبع غير رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أعظم الفساد في الأرض ولا صلاح لها ولا لأهلها إلا أن يكون الله وحده هو المعبود والدعوة له لا لغيره والطاعة والاتباع لرسوله ليس إلا وغيره إنما تجب طاعته إذا أمر بطاعة الرسول فإذا أمر بمعصيته وخلاف شريعته فلا سمع له ولا طاعة فإن الله أصلح الأرض برسوله ودينه وبالأمر بتوحيده ونهى عن إفسادها بالشرك به وبمخالفة رسوله" (1).
ومن هنا علم أن تحريم الصاوي التقدم على الشيخ وتصريحه بمنع الاعتراض عليه؛ ولو ظهر منه ما هو حرام في الشرع، فيه مخالفة صريحة جريئة للحق الذي دلت عليه شرائع الدين، ومناقضة لما ذهب إليه أولًا من وجب التزام الشيخ بأوامر الشريعة، كما أن فيه إجحافًا بحق الشيخ، لأن النصح له المأمور به في حق كل مسلم، يقتضي نهيه عن المنكر إذا بدر منه، قال صلى الله عليه وسلم:(الدين النصيحة) قلنا: لمن؟ قال: (لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)(2).
قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح في معنى النصيحة: "النصيحة كلمة تتضمن قيام الناصح للمنصوح له بوجوه الخير إرادة وفعلًا".
والنصح للعالم ليس يقتصر نفعه عليه فقط كآحاد المسلمين، بل هو من حقيقة النصح لله تعالى وكتابه ورسوله، فـ "رد الأهواء المضلة بالكتاب والسنة على
(1) بدائع الفوائد: (3/ 525).
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الإيمان - باب بيان أن الدين النصيحة: (2/ 37).
مواردها، وبيان دلالتهما على ما يخالف الأهواء كلها، وكذلك رد الأقوال الضعيفة من زلات العلماء، وبيان دلالة الكتاب والسنة على ردها" (1) من أوجب أنواع النصح لهذا الدين.
ثم إن التقصير في واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب لحلول اللعنة وغضب الرب، قال تعالى:{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: 78، 79].
يقول الإمام السعدي رحمه الله في السكوت عن المنكر، وذلك في تفسيره لهذه الآية الكريمة: "فلو كان لديهم تعظيم لربهم لغاروا لمحارمه، ولغضبوا لغضبه، وإنما كان السكوت عن المنكر مع القدرة موجبًا للعقوبة، لما فيه من المفاسد العظيمة:
منها: أن مجرد السكوت، فعل معصية وإن لم يباشرها الساكت، فإنه كما يجب اجتناب المعصية، فإنه يجب الإنكار على من فعل المعصية.
ومنها: أنه يدل على التهاون بالمعاصي، وقلة الاكتراث بها.
ومنها: أن ذلك يجرئ العصاة والفسقة، على الإكثار من المعاصي
ومنها: أنه بترك الإنكار للمنكر يندرس العلم ويكثر الجهل، فإن المعصية مع تكررها وصدورها من كثير من الأشخاص، وعدم إنكار أهل الدين والعلم لها، يظن أنها ليست بمعصية، وربما ظنها الجاهل أنها عبادة مستحسنة، وأي مفسدة أعظم من اعتقاد ما حرم الله حلالًا وانقلاب الحقائق في نفوس الناس.
ومنها: أن بالسكوت على معصية العاصين، ربما تزينت المعصية في صدور الناس، واقتدى بعضهم ببعض، فالإنسان مولع بالاقتداء.
فلما كان السكوت على الإنكار بهذه المثابة، نص الله تعالى أن بني إسرائيل الكفار منهم، لعنهم بمعاصيهم واعتدائهم، وخص من ذلك هذا المنكر العظيم" (2).
(1) جامع العلوم والحكم: 129.
(2)
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان: 237.
وعليه فإن منهجه في الاستدلال على وجوب التزام عهد الشيخ بالآيات الكريمة مما لا يسلم له، ومع أنه قد سبقت الإشارة إلى بيان عدم مشروعية هذا الضرب من التفسير (1)، وذلك لعدم استناده إلى الأسس الصحيحة التي يجب على المفسر اعتمادها في تفسير كلام المولى تعالى، إلا أن المقام هنا يستوجب مزيدًا من المقال، فإذا كان كلامه في الجملة في هذا الباب باطلًا، لأنه من التقول على الله تعالى بغير علم، فإنه يتأكد بطلانه عند وصفه لمن عارض الشيخ في ترديد أوراده بالضلال المبين، وذلك عند تفسير قوله تعالى:{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} ، فمن المعلوم أن أوراد مشايخ الصوفية يغلب عليها في الجملة الابتداع إن لم يكن مما يعمها من جهة الحكم، وهذا في حالة خلوها من الشرك، أما مع احتوائها عليه، فإن اتباع الشيخ عندئذ ليس من الضلال فقط، بل هو في الحقيقة من الكفر المخرج من الملة.
ولعل للاختلاف الواقع بين السلف الصالح وبين الأشاعرة في فهم حقيقة التوحيد أثرًا كبيرًا في استساغة مثل هذه البدع الشركية، التي تحوى على الاستغاثات والابتهالات المحرمة، ويؤكد هذا أنه لم ير في هذه الأوراد ما ينافي ذلك القيد الذي اشترطه في اتباع الشيخ، وهو التزامه بالمنهج الصحيح المستمد من الكتاب والسنة.
هذا ولم يكن حكمي على تلك الأوراد بالابتداع وعلى كثير منها بالشرك محض افتراء وتوهم، بل هذه حقيقة يشهد بها كل متجرد يتأمل تلك الأوراد، ولعل حاشيته على الصلوات الدرديرية أكبر شاهد على هذا، وسأنقل منها بعض الأوراد لكبار الصوفية حتى يزداد الأمر وضوحًا، فهذه إحدى الصلوات الدرديرية، يقول فيها الدردير؛ ناقلًا صلاة إبراهيم الدسوقي:"اللهم صل على الذات المحمدية اللطيفة الأحدية، شمس سماء الأسرار، ومظهر الأنوار، ومركز مدار الجلال، وقطب فلك الجلال، بسره لديك، وبسيره إليك، آمن خوفي وأقل عثرتي".
فهذه الصلاة تشتمل على أنواع الضلالات من الغلو بالنبي إلى درجة تقدح في اعتقاد عبوديته، وكذلك التوسل به بعد مماته وغير ذلك مما يجزم ببدعيتها، بل
(1) انظر: آراءه في القرآن: 275.