الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومن هنا دخل الانحراف في الفكر الاشعرى وظهر التناقض ممثلًا بشخصية الغزالي الذي أغرق في الاحتجاج بالضروريات حتى عد منها ما ليس منها في الحقيقة وواقع الأمر، وخرج عن قوانين المتكلمين إلى مجاهيل الصوفية، حيث أغرق في اعتماد الإلهام وعده مصدرًا معتمدًا في تلقى العقائد والأحكام بلا ضابط أو حد. (1)
ويكشف لنا الغزالي بذلك سبب ميل الصوفية إلى العلوم الإلهامية، وإعراضهم عن تلقى العلم بطريق التحصيل والكسب، يقول:"اعلم أن ميل أهل التصوف إلى العلوم الإلهامية دون التعليمية فلذلك لم يحرصوا على دراسة العلم وتحصيل ما صنفه المصنفون، والبحث عن الأقاويل بل قالوا: الطريق تقديم المجاهدة ومحو الصفات المذمومة وقطع العلائق كلها، والإقبال بكنه الهمة على الله تعالى. . . . وإذا تولى الله أمر القلب، فاضت عليه الرحمة، وأشرق النور في القلب، وانشرح الصدر، وانكشف له سر الملكوت، وانقشع عن القلب حجاب العزة بلطف الرحمة، وتلألأت فيه حقائق الأمور الإلهية". (2)
وهذا بعينه ما قرره وهو يحكى قصة هدايته في كتابه المنقذ من الضلال، حيث قام بتصوير حاله أثناء تورطه بالشك الذي أوقعه فيه شبهات عرضت عليه في التسليم بالأوليات وكيف أن الهداية حصلت له لا بسبب واجتهاد، بل بنور قذفه الله تعالى في صدوره، يقول:"ولم يكن ذلك بنظم دليل وترتيب كلام بل بنور قذفه الله تعالى في الصدور، وذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف. . . فمن ظن أن الكشف موقوف على الأدلة المحررة؛ فقد ضيق رحمة الله تعالى الواسعة". (3)
* * *
رأى الشيخ الصاوى:
مما سبق اتضح لنا أن الصاوى عاش في عصر متأخر؛ وكان قد تتلمذ على عدد
(1) انظر: إحياء علوم الدين، للغزالى:(1/ 253).
(2)
المرجع السابق: (8/ 452).
(3)
المنقذ من الضلال: 22 - 23.
كبير من مشايخ الأشاعرة في عصره، على رأسهم شيخه: الدردير والجمل. لذا نجد أنه غالبًا ما يقرر مذهب أشياخه في المسائل التي يعرضها، ولعلو مكانته ورسوخ قدمه في المذهب الأشعرى لا يقتصر على ذلك، بل يرجح القول الذي يراه صوابًا وكثيرًا ما يدعم ذلك الترجيح بادلة واضحة الدلالة، بأسلوب معبر، وعبارة سلسة، وقد يظهر عليه خلال عرضه لمسائل العقيدة تأثره بنزعته الصوفية، فيذكر أقوال أهل التصوف إما على سبيل التقرير، أو عرض الرأى الآخر.
وتتلخص آراؤه في معرفة الله تعالى - بناء على ما تقدم - أن معرفة الله تعالى هي أول واجب على المكلف. وبما أنها كذلك فلا بد أن يكون الدليل الموصل إليها واجبًا بوجوبها، حيث يمثل النظر عنده وسيلة للمعرفة المقصودة أو المعتمدة، وبهذا الاعتبار كان حكمه واجبًا.
يقول: "ولما كان أول الواجبات المعرفة على الأصح، وكان النظر وسيلة لها كان واجبًا". (1)
ومع ذلك فإنه يرى أن أساس ذلك الوجوب هو الشرع. حيث إن الله تعالى لم يدع المكلفين موكولين إلى عقولهم في معرفته سبحانه، بل أرسل الرسل، وبين أن الحجة لا تقام، والعذاب لا ينزل بمن يستحقه، إلا بعد إرسالهم، يقول: فإن قلت: كيف يكون للناس حجة قبل الرسل، مع قيام الأدلة التي تدل على معرفة الله ووحدانيته، كما قيل:
وفى كل شيء له آية
…
تدل على أنه الواحد.
أجيب بأن الله لم يكلفنا بذلك بمجرد العقل، بل لا بد من ضميمة الرسل التي تنبه على الأدلة، وشاهده هذه الآية:{لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165] وقوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]. فلذلك قال أهل السنة: إن معرفة الله لا تثبت إلا بالشرع. خلافًا للمعتزلة". (2)
(1) حاشية جوهرة التوحيد: 15.
(2)
حاشية تفسير الجلالين: (2/ 244).