الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(المبحث الأول): الحالة السياسية
لقد كان مولد الشيخ الصاوى سنة: خمس وسبعين ومائة وألف من الهجرة النبوية 1175 هـ، وكانت وفاته سنة إحدى وأربعين ومائتين وألف من الهجرة: 1241 هـ، الموافق سنة 1825 م. ويعنى ذلك أنه عاصر نهاية الدولة العثمانية حيث عاش في ظل حكمها نيفًا وخمسين عامًا، ونحو عشرين عاما في ولاية محمد على باشا الذي تولى حكم مصر سنة: 1805 م إلى سنة: 1849 م.
ولما كان الصاوى من جملة الأفراد الذين لم يكن لهم أثر يذكر في الحياة السياسية؛ فسأكتفى ببيان الخطوط العريضة التي يمكن من خلالها فهم الأوضاع في تلك الآونة.
ففى هذه الفترة كان العالم الإسلامى ممزقًا إلى عدد من الدول، ففى المشرق كانت تتزعمه ثلاث دول إسلامية؛ الدولة العثمانية في تركيا والجزيرة العربية، والدولة الصفوية في فارس، والدولة المغولية في الهند.
وكانت الدولة العثمانية هي أضخم الولايات الإسلامية وأهمها من حيث الموقع الدولى؛ حيث توسطت بين القارات الثلاث، فهى المشرفة على أهم الممرات التي تصل بين أقطار العالم، والمكانة الدينية؛ لما نالته من شرف حماية الاماكن المقدسة؛ مكة المكرمة، والمدينة النبوية، والقدس.
كما كانت تحتل جزءًا كبيرًا في شرق وجنوب شرق أوربا، إلى جانب ممتلكاتها في الشام وشمال إفريقيا والجزيرة العربية، فكانت تحكم مقاطعات أوربية مهمة كالمورة والبوسنة ومولوفا، أي على الخريطة الحالية اليونان وبلغاريا وصربيا وألبانيا والبوسنة والهرسك وبحر إيجه بالكامل، وقد وصل حجم هذه الممتلكات إلى قرابة (238000) ميل مربع من الأراضى الأوربية، بينما يبلغ حجم رعاياها الأوربيين ثمانية ملايين نسمة (1).
(1) المواجهة المصرية الأوربية، محمد عبد الستار بدوى:30.
ولما كانت الحقبة الزمنية الأخيرة من الحكم العثمانى هي محل الاهتمام والتحرى في هذا البحث فسأقتصر عليها لتوضيح هذا المبحث.
لقد كان في سيطرة العثمانيين، ومد زعامتهم على الأقطار الإسلامية توحيد لها بعد أن كانت كيانات متنافرة منذ أن سقطت الوحدة الإسلامية بسقوط الخلافة العباسية، وبصفة خاصة بعد أن تعرضت بغداد للتدمير المغولى الشامل في منتصف القرن الثالث عشر الميلادى الموافق منتصف القرن السابع الهجرى (1).
وهذه الوحدة الإسلامية التي حظيت بها الدول المسلمة تحت سيطرة الخلافة العثمانية كانت سببًا في حمايتها من أطماع الكثير، فقد حالت دون الصفويين الشيعة ودون السيطرة على العالم العربى، عندما اتجهت أطماعهم لضم العراق - أعادها الله لحوزة الإسلام والمسلمين - بحجة ضم مزارات الشيعة في النجف وكربلاء.
كما استطاع العثمانيون إيقاف توغل الاستعمار البرتغالى في البحار الإسلامية من البحر الأحمر والخليج العربى، بعد أن عجز المماليك وحلفاؤهم العرب من المغاربة وغيرهم من الوقوف أمام تهديدات البرتغال للأقطار المسلمة، حتى أنها أصدرت أمرًا بمنع المراكب المسيحية من دخول البحر الأحمر بحجة أنه يطل على الأماكن المقدسة، وقد كان لهذا العمل الجليل أهميته حيث حال دون الغزاة وتحقيق أطماعهم من الدولة المسلمة دهرًا من الزمن، إلى غير ذلك من الأعمال التي تمكنت بها الدولة العثمانية من فوض حمايتها على سائر الأقطار الإسلامية، وبقى الأمر على هذا إلى أن دب الضعف في كيان الدولة (2).
فمنذ أوائل القرن الثاني عشر الهجرى صارت الدولة العثمانية رهينة للزوال والانهيار وذلك بعد أن بلغت ذروة مجدها في القرن العاشر الذي بلغت فيه أقصى فتوحاتها في دولة أوربا، ولكن بعد أن تمكنت منها عوامل الضعف ونخرت فيها
(1) في تاريخ العرب الحديث، الدكتور/ رأفت الشيخ:34.
(2)
انظر: الدولة العثمانية والشرق العربى، د. محمد أنيس: 128، نقلًا عن المصدر السابق.
مقتضيات الانهزام حيث انهمك غالب الأمراء والأجناد في جمع الأموال والانغماس في الشهوات وضعف التمسك بهدى الإسلام وتعاليمه الوضاءة، طمع الأوربيون المستعمرون بإزالتها واتفقوا على اقتسام ثرواتها، وأطلقوا عليها مسمى: الرجل المريض (1).
وفى تلك الأثناء وقبل أن يتحقق حلم المستعمرين استبد كثير من الولاة والأمراء وبعض الوجهاء بالحكم في مناطق نفوذهم، وذلك نتيجة لانشغال الدولة العثمانية بالحروب التي انهكتها ضد أعدائها من الروس، وعلى صعيد مصر ظهر على بك الكبير كصاحب السلطان الأكبر، وقد استطاع الانفراد بالسلطة في ظل تلك الأجواء التي كانت تعيشها الدولة العثمانية، وقد كان على بك أحد المماليك، ولكنه تفوق على جميع منافسيه بما أوتى من شجاعة وقوة وطموح وقسوة، حتى تقلد عددًا من الإمارات إلى أن عين أميرًا للحجيج وكبيرًا للمماليك عام: 1177 هـ.
ولما أرد على بك أن يصطفى مصر لنفسه قتل منافسيه من الرؤساء والأقران، وباقى الأعيان، وفرق جمعهم في القرى والبلدان، وتتبعهم خنقًا وقتلًا، وأبادهم فرعًا وأصلًا وأفنى باقيهم بالتشريد، وجلوا عن أوطانهم إلى كل مكان بعيد، واستأصل كبار خشداشينة وقبيلته، وأقصى صغارهم عن ساحته وسدته، وأخرب البيوت القديمة، وأخرم القوانين الجسيمة والعوائد المرتبة والرواتب التي من سالف الدهر كانت منظمة، وقتل الرجال واستصفى الأموال وحارب كبار العربان والبوادى وعرب الجزيرة والهنادى وأعاظم الشجعان ومقادم البلدان، وشتت شملهم وفرق جمعهم واستكثر من شراء المماليك وجمع العسكر من سائر الأجناس، واستخلص بلاد الصعيد وقهر رجالها الصناديد ولم يزل يمهد لنفسه حتى خلص له ولأتباعه الإقليم من الإسكندرية إلى أسوان (2).
ولما علمت الدولة العثمانية بهذا الاستقلال أزعجها ذلك فأرسلت إلى رجالها
(1) انظر: حاضر العالم الإسلامى، لوثروب:(1/ 22).
(2)
عجائب الآثار: (1/ 432).
بمصر أمرًا بقتل على بك، إلا أن على بك كان مترقبًا لتحركات الدولة حيث علم بما تكنه من عداء لشخصه الطموح، لذلك فقد علم بحال الرسول وما أرسل به، فكلف رجاله بقتله، وأعلن أمام المماليك أن الدولة تأمر بقتلهم جميعًا، ولما تمتع به من فصاحة وقدرة على التأثير فقد استطاع أن يجلب المماليك لصفه، حينها أعلن استقلال مصر عن الدولة العثمانية وكان هذا أول انفراد حكمى يحظى به حاكم في مصر (1).
وعاشت مصر في ذلك الوقت في شبه استقلال من سيطرة العثمانيين، ولكن طموحات على بك لم تتوقف عند هذا الحد، فقد حملته أطماعه في احتلال عدد أكبر من الولايات على خوض عدد من المعارك والحروب كان لها أثر سيئ في إرهاق اقتصاد البلد، ولدفع هذه الاحتياجات عمد إلى فرض الضرائب الباهظة على قرى مصر فوق ما كانت تنوء به من نفقات الخراج، ولكل هذا فقد كان من الطبيعى أن تتصاعد صيحات الجماهير وتكثر شكاواها من ظلم النظام الحاكم (2).
وفى سبيل تحقيق أطماعه التوسعية "فقد تخابر على بك مع قائد الدونانمة الروسية بالبحر المتوسط ليمده بالذخائر والأسلحة حتى يتم له استقلال مصر، فساعده القائد الروسى رغبة في وجود الحروب الداخلية في الدولة، وبذلك أمكن على بك فتح مدائن غزة ونابلس وأورشليم ويافا ودمشق"(3).
ولكن تلك الأطماع لم تتوقف عند هذا القدر بل أخذ بالاستعداد للسير إلى حدود بلاد الأناضول وهناك أفل نجمه، إذ ثار عليه أحد بيكاوات المماليك وهو محمد بيك الشهير بأبى الذهب، فعاد على بك إلى مصر لمحاربته فانهزم، حيث وقع في الأسر مع أربعة من ضباط الروس، ثم لقى حتفه إثر ما أصابه من الجراح، وقطع رأسه وسلم مع الأربعة الضباط إلى الوالى العثمانى: خليل باشا (4).
(1) انظر في تاريخ العرب الحديث: 168.
(2)
انظر موسوعة تاريخ مصر، أحمد حسين:(3/ 860).
(3)
تاريخ الدولة العلية العثمانية، محمد فريد بك:159.
(4)
انظر المرجع السابق: 159.