الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
دليل الإمكان
يستند اعتقاد الفلاسفة في وحدانية الله تعالى إلى نفى شبهة التركيب، إذ الواحد يمتنع عليه التعدد، واعتقدوا أن في إثبات الصفات ما يخالف ذلك الأصل الذي بنو عليه توحيد الله وتنزيهه، حيث وصفوه بأنه عاقل لا يعقل إلا نفسه، ليس له إرادة ولا قدرة ولا أي صفة سوى العقل.
وعند التساؤل عن وجود هذه المفعولات الكثيرة المشاهدة، فإنهم يرجعون الإجابة إلى نظرية الفيض والصدور، فأبطلوا دلالة العالم على وجود فاعله من جهة الحدوث؛ لأن في إثبات حدوث المخلوقات استلزامًا لقيام صفة حادثة بالرب، يتعلق بها وجود الحوادث، وهذا ما يمتنع - عندهم - بناء على شبهة التركيب التي ينبنى عليها التفريق بين الواجب والممكن؛ وبذلك ينتفى إمكان الاستدلال على واجب الوجود - عندهم - إلا بطريق التصور المحض للوجود. (1)
ويعتمد هذا الاستدلال على تضمن الوجود المطلق للوجود الواجب والممكن، يقول ابن سينا:"لا شك أن هناك وجودًا، وكل وجود إما واجب وإما ممكن؛ فإن كان واجبًا فقد صح وجود الواجب وهو المطلوب، وإن كان ممكنًا فإنا نوضح أن الممكن ينتهى وجوده إلى واجب الوجود". (2)
وتستند دلالة الوجود الممكن على الوجود الواجب إلى استحالة ترجح وجود الممكن على عدمه بلا مرجح (3)؛ فإن واجب الوجود هو من يرجح الوجود على العدم، وإلا لزم الدور أو التسلسل الممتنعين (4).
(1) انظر: الإشارات والتنبيهات: (3/ 54).
(2)
النجاة: 383.
(3)
انظر: نهاية الإقدام في علم الكلام، الشهرستانى:99.
(4)
انظر المواقف: 266. ولزيادة التوسع انظر: الأصول التي بنا عليها المبتدعة مذبهم في الصفات، ومبحث دلالة العقل على وجود الله في كتاب المعرفة في الإسلام.
وقد تأثرت المعتزلة بهذا المسلك الذي سلكه الفلاسفة والتزموا بلوازمه؛ فقاموا بنفى الصفات موافقة لهم في اعتقاد أن إثباتها يوجب التعدد وينفى الوحدانية؛ لأن انتفاء التركيب يعد في حق الواجب من أخص ما يميز به عن الممكن، وأقاموا على ذلك أصلهم المبتدع في إثبات التوحيد. (1)
وانتقلت هذه الشبهة لأكابر الأشاعرة ممن تأثروا بالفلسفة، وأصبح الاستدلال بهذا الدليل أمرًا مستساغًا عندهم (2)، بل وجد بعضهم في الدليل ما يفى بالمقصود، بعيدًا عن التكلف واصطناع المقدمات، حيث كثرت اعتراضات المخالفين عليها، وقام بدمجه مع دليل الحدوث، كتطوير أو دعم لهذا الدليل، فخالفوا بذلك مسلك الفلاسفة في الاستدلال به، وجعلوه مما يدل على سبق الممكنات بالعدم، مما يقضى بإثبات حدوثها. (3)
ويشكك البعض في نسبة هذا الاستدلال إلى الفلاسفة؛ للمخالفة الظاهرة في طريقة الاستدلال به، حتى حكم البعض بخلافه، وزعم أن هذا الدليل قد عرف عن الباقلانى الذي توفى قبل ابن سينا بربع قرن، (4) ولكن لا يزال الاعتراض قائمًا؛ لأن ابن سينا لم يكن هو الذي أحدث الطريقة، بل استفاد منها وعدل عنها إلى طريقة أحدثها، على غرار طريقة المتكلمين في دليل الحدوث. (5).
ويمكن التوفيق بين الرأيين، فيقال: إن الدليل قد انتقل من الإمكان الذهنى الافتراضى إلى الإمكان الحقيقى على يد المتكلمين، كالباقلانى، والجوينى؛ بمعنى: أنه انتقل من التصور المحض للوجود، والاستدلال به على وجود الواجب والممكن إلى تعيين الممكنات، والاستدلال على وجود واجب أبدعها؛ لما كانت عليه من العدم، وما آلت إليه من الوجود.
(1) انظر: نهاية الإقدام في علم الكلام: 90.
(2)
انظر: المحصل للرازي: 66.
(3)
انظر: المواقف للإيجى: 266.
(4)
ابن رشد وفلسفته الدينية، محمود قاسم: 92، 94.
(5)
انظر: الدرء: (3/ 334).