الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قالوا: فما فضله على الأنبياء؟ قال: قال الله عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: 4]، وقال الله عز وجل لمحمد صلى الله عليه وسلم:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [سبأ: 28] فأرسله إلى الجن والإنس (1).
يقول القاضي عياض: "قال أهل التفسير أراد بقوله - تعالى- "{وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} [البقرة: 253] محمدًا صلى الله عليه وسلم، لأنه بعث إلى الأحمر والأسود وأحلت له الغنائم وظهرت على يديه المعجزات وليس أحد من الأنبياء أعطى فضيلة أو كرامة إلا وقد أعطى محمد صلى الله عليه وسلم مثلها -. . . ." (2)
قال صلى الله عليه وسلم: (فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهورًا ومسجدًا وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بى النبيون)(3).
وخصائصه عليه الصلاة والسلام كثيرة عظيمة وكلها "تدل على علو مرتبته، إذ لا معنى للتفضيل إلا التخصيص بالمناقب والمراتب"(4).
ثالثًا: الغلو فيه صلى الله عليه وسلم
-:
لقد كان الرجوع بما ورد في فضله عليه الصلاة والسلام إلى الكتاب والسنة كافٍ في بيان عظيم ما حباه الله تعالى من منزلة علية ورفيعة على جميع بنى آدم، ولما تأتت الحاجة إلى مثل هذه الروايات الواهية التي أكثر من الاستشهاد بها الصاوي على ما ذكر من خصائص لا أساس لها صحيح من كتاب ولا سنة، بل جل ما تحمله غلو صريح نهى عنه المصطفى وحذو منه أمته أيما تحذير.
(1) أخرجه الدارمي في مسنده - باب ما أعطى النبي من الفضل، رقمه: 46: (1/ 23)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: "رواه الطبراني ورجاله رجال الثقات غير الحكم بن أبان وهو ثقة: (8/ 255).
(2)
الشفا للقاضي عياض: (1/ 264).
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب المساجد ومواضع الصلاة: (5/ 5).
(4)
بداية السول في تفضيل الرسول، للعلامة العز بن عبد السلام السلمى، تحقيق: العلامة محمد ناصر الدين الألباني: 35. وانظر: في بيان خصائصه على جهة التوسع: غاية السول في خصائص الرسول لابن الملقن، تحقيق: عبد الله بحر الدين.
وقد سبق لي في مبحث متقدم أن أشرت إلى الكثير مما وقع به الصاوي في مسألة الغلو مع تقديم الأدلة والبراهين على انحرات مسلكه في تقرير ذلك عن المنهج الصحيح القويم. ولى مع هذا أن أضيف بعض التعليقات الهادفة هنا وذلك من خلال إبراز مواطن الغلو في تقرير نبوة المصطفى عليه الصلاة والسلام، والعمل على مناقشتها مناقشة علمية هادفة؛ حتى تتم الفائدة من عقد هذا المبحث، وهى بيان حقيقة الإيمان بنبوة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وما يقتضيه ذلك الإيمان وفق ما شرع الله على لسان رسوله، ورد الشبهات القادحة في هذه الحقيقة الإيمانية إفراطًا وتفريطًا.
أولًا: علم الغيب له عليه الصلاة والسلام ونسبة ذلك إليه دون استثناء حتى للأمور الخمسة التي اختص الله تعالى بعلمها دون خلقه، قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 34].
وقد ذكر هذا القول السيوطي بصيغة التمريض (1) وأتى تعليق العلامة الهراس عليه شديدًا فقال: "ولا دليل لهذا البعض - أي الذين ذهبوا إلى القول بعلم النبي لها - وهو مكذوب بصريح القرآن، نعوذ بالله من الغلو الذي يخرج من الإيمان". (2)
ثانيًا: وكان من جملة ما خرج به الصاوي عن المسلك الصحيح في تعظيم النبي عليه الصلاة والسلام تجويز القسم به والتوسل بمنزلته بعد وفاته واستخدام بعض الألفاظ الموهمة مما لا أصل لها في الشرع لتوجيه مثل هذه الآراء البعيدة، كقوله باتحاد الحضرة في عدة مواضع من كتبه.
والصواب هنا أن استخدام مثل هذه الألفاظ يعد من ذرائع الشرك بالله تعالى لأنها:
(1) انظر: كلامه في ذلك في كتاب الخصائص الكبرى: (2/ 335)، وأنموذج اللبيب في خصائص الحبيب:23.
(2)
الخصائص الكبرى للسيوطي: تعليق الشيخ الهراس نقلًا عن مقدمة الألباني في تحقيقه لكتاب بداية السول.
أولًا: من البدع المحدثة التي حذر منها النبي أمته حيث كان يقول في الخطبة: (شر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة)(1)
ثانيًا: هذه الألفاظ تعد من الغلو المنهى عنه قال عليه الصلاة والسلام: (لا تطرونى كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم)(2)
فحقيقة الإطراء المنهى عنه، كما بين ذلك أهل العلم هو الخروج عما شرع الله تعالى في حقه من الإجلال والأدب، إلى ما هو من خصائص الربوبية التي لا تكون إلا لله تعالى، يقول الإمام البغوي:"الإطراء مجاوزة الحد في المدح، والكذب فيه، وذلك أن النصارى أفرطوا في مدح عيسى وإطرائه بالباطل وجعلوه ولدًا، فمنعهم النبي صلى الله عليه وسلم من أن يطروه بالباطل"(3)
مع ما فيها من مقاربة لألفاظ الشرك المحرمة فهذا النبي - عليه أفضل الصلاة والسلام - ينهى بعض أصحابه وبشدة فحين قيل له ما شاء الله وشئت رد تلك المقولة وأظهر بهتانها وقال: (أجعلتنى والله عدلًا؟ ما شاء الله وحده)(4)
- أما عن القسم به عليه الصلاة والسلام فقد وردت الأحاديث الصحيحة ببيان أن القسم حق لله تعالى فلا يجوز أن يتعداه العبد إلى غيره وأن من فعل ذلك فقد أشرك، قال عليه الصلاة والسلام:(من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك)(5)
(1) أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الجمعة - باب رفع الصوت في الخطبة.
(2)
سبق تخريجه: 72.
(3)
شرح السنة: (13/ 246).
(4)
أخرجه الإمام أحمد في مسند ابن عباس - رضى الله عنهما -: رقم الحديث: 1964، وصححه أحمد شاكر:(2/ 465)، ورواه ابن ماجه في سننه: كتاب الكفارات - باب النهى أن يقال ما شاء الله وشئت، رقم الحديث: 2117، وصححه الألباني في السلسلة:139.
(5)
أخرجه أبو داود في سننه: كتاب الأيمان والنذور - باب في كراهية الحلف بالآباء، رقم الحديث: 3246: (4/ 76). وصححه الألباني في صحيح ابن داود برقم: 2787: (2/ 627). وأخرجه الترمدى: كتاب النذور والأيمان - باب ما جاء في كراهية الحلف بغير الله، رقم الحديث: 1535، وقال الترمذي: حديث حسن: (4/ 93).
هذا وتعد قضية التوسل بذاته الشريفة من أهم مباحث هذا الباب لوقوع الكثير في اللبس والخلط فالحديث الذي ذكره الصاوي مستدلًا به على مشروعية التوسل به صلى الله عليه وسلم ودعاء الله بمنزلته كان قى حياته، إذ من المسلم مشروعية التوسل به عليه الصلاة والسلام، فقد أثر عن الشيخ العز بن عبد السلام أنه علق على الحديث الذي أورده الصاوي بقوله:"فإن صح فينبغى أن يكون مخصوصًا به فإنه سيد ولد آدم"(1)
أما بعد مماته - عليه صلوات ربي - فلم يثبت عن أحد من الصحابة الكرام أنه قام بهذا الفعل بل صح الخبر عن عمر- رضى الله عنه - أنه دعا الناس في عهده حين أقحطوا إلى التوسل بالعباس فكان يقول: (اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا)، وكان يتم لهم ذلك بفضل الله كما في تمام الرواية:(قال: فيسقون)(2).
وهذا الحديث فيه دلالة قطعية على توقف الصحابة الكرام - رضى الله عنهم - عن التوسل بالرسول بعد موته، كما هو ظاهر من كلام عمر رضي الله عنه وفيه أيضًا مشروعية التوسل بدعاء الصالحين عند اشتداد الكرب.
يقول الإمام الشوكاني بعد تفصيل القول في التفريق بين التوسل المشروع والتوسل المنهى عنه: "والحاصل أن طلب الحوائج من الأحياء جائز إذا كانوا يقدرون عليها، ومن ذلك الدعاء، فإنه يجوز استمداده من كل مسلم، بل يحسن ذلك. . ولكن ينبغى أن يعلم أن دعاء من يدعو له لا ينفع إلا بإذن الله وإرادته ومشيئته، كما ورد بذلك القرآن العظيم، فهذه تقييد للمطلق لا ينبغى عنه العدول بحال"(3).
(1) غاية السول في خصائص الرسول، للإمام ابن الملقن:297.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الاستسقاء باب سؤال الناس الإمام الاستسقاء إذا قحطوا، رقم الحديث:1010.
(3)
الرسائل السلفية: 170.
ثالثًا: وما ذكره الصاوي من أنه يجب ملاحظة الرسول عليه الصلاة والسلام في كل عمل لأن الله تعالى قال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} [آل عمران: 31] حقيقته من الألفاظ المجملة التي تحتمل حقًا وباطلًا، فإن كان يقصد بالملاحظة التوجه إليه عليه الصلاة والسلام بالقلب فهذا مما لا يجوز قطعًا ودلالته على الشرك واضحة، لأن توحيد الإرادة والقصد قد أنيط به قبول الأعمال فلا يصح شيء من العبد مع الإخلال به، حتى أن العبد إذا وفق للإخلاص وإرادة الله في جميع أعماله ووقع عنده خلل في عمل واحد أحبط ذلك العمل، كما قال تعالى في الحديث القدسى:(أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملًا أشرك فيه معى غيرى تركته وشركه)(1).
وإن كان يقصد بالملاحظة المتابعة، فلا يعبد الله تعالى إلا وفق ما شرع لنا على يد المصطفى عليه الصلاة والسلام فهذا حق لا مراء فيه بل هو عين ما يقتضيه الإيمان برسالة الرسول عليه الصلاة والسلام، والشهادة العظمى على محبة الله ورسوله.
وبهذا المعنى يصح التعبير عن الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه واسطة ووسيلة أما بما سبق بيانه من اعتقاد نفعه، أو ضره بغير اتباعه، أو التوجه إليه بالدعاء بعد مماته فلا، وهذا هو عين الإفراط الذي حذر منه المصطفى صلى الله عليه وسلم أمته.
رابعًا: وكان من جملة الخلط الذي وقع فيه الصاوي أن عطف شعر اللاحقين من أهل الغلو في مدحه عليه الصلاة والسلام بشعر الصحابة الكرام الذين فاض قريظهم فيه عذوبة وطهارة، فلم يحيدوا عما أخبر الله تعالى عنه قيد أنملة، وكان جمعه بينهم محض وهم وضلال، فالبوصيرى الذي نطقت قصيدته بالغلو في كثير من أبياتها، لتحكم بعظيم البون وبعد المسافة، فمن نسبة علم الغيب له إلى تفريج الكرب إلى غير ذلك، مما يطول بى المقام في استقصاء ما أتى بها من غلو بصريح العبارة، كل هذا مما لا يدع مجالًا للشك في تغاير المفاهيم، وتباعد الحقائق المعتقدة حول ما تقتضيه محبة المصطفى عليه الصلاة والسلام.
(1) أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الزهد والرقائق - باب من أشرك في عمله غير الله.
وهاك بعض ما نقلة الصاوي عنه من بردته:
يا أكرم الرسل ما لي من ألوذ به
…
سواك عند حلول الحادث العمم
فإن من جودك الدنيا وضرتها
…
ومن علومك علم اللوح والقلم (1)
فعلى ضوء ما سبق بيانه يبدو الغلو صريحًا واضحًا، فإن كل بيت من الأبيات السابقة ينطق بلون من ألوان الغلو المنهى عنه، يقول الشوكانى بعد أن بين حقيقة ما يقتضيه الإيمان برسالته عليه الصلاة والسلام:"فانظر - رحمك الله تعالى - ما وقع من كثير من هذه الأمة من الغلو المنهى عنه، المخالف لما في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كما يقول صاحب البردة - رحمه الله تعالى - وذكر الأبيات السابقة - فانظر كيف نفى كل ملاذ ما عدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وغفل عن ذكر ربه ورب رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا لله وإنا إليه راجعون"(2)
ومن العجيب أن يجمع هذا مع مخالفته لصريح ما أنزل الله على رسوله إلى شعر حسان رضي الله عنه الذي دعا له الرسول بتأييد جبريل عليه السلام، يقول رضي الله عنه:
أغر عليه للنبوة خاتم
…
من الله مشهود يلوح ويشهد
وضم الإله اسم النبي إلى اسمه
…
إذا قال في الخمس المؤذن أشهد
وشق له من اسمه ليجله
…
فذو العرش محمود وهذا محمد
نبى أتانا بعد يأس وفترة
…
من الرسل والأثان في الأرض تعبد
فأمسى سراجًا مستنيرًا وهاديًا
…
يلوح كما لاح الصقيل المهند
وأنذرنا نارًا وبشر جنة
…
وعلمنا الإسلام فالله نحمد
وأنت إله الخلق ربي وخالقي
…
بذلك ما عمرت في الناس أشهد
(1) استشهد الصاوي بها في أماكن متعددة في حاشيته على الصلوات الدرديرية: انظر: ديوان البوصيرى: 166 - 170، تحقيق أحمد بسج.
(2)
الرسائل السلفية: كتاب الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد: 171.
تعاليت إله الناس عن قول من دعا
…
سواك إلهًا أنت أعلى وأمجد
لك الخلق والنعماء والأمر كله
…
فإياك نستهدى وإياك نعبد (1)
* * *
خامسًا: كما أن لا يخفى ما وقع فيه من انحراف بين عندما عبر عن المولى تعالى بالمقصد وعن النبي بالوسيلة، ثم وحد بينهما وجعل أعظم الطرق الموصلة إلى هذه الحضرة على - حد تعبيره - هي المحبة التي عبر عنها بالغزل، فمن أين له أن التغزل هو أعظم طرق الوصل؟ ومن أين له أن التغنى بالأوصاف والتعلق بها هو من أعظم دلائل المحبة؟
- ثم إن في تعبيره عن المحبة الصادقة بالغزل ما يخل بمقتضى التعظيم والإجلال الواجبين في حق الله تعالى وحق رسوله عليه الصلاة والسلام، فالطريق إلى الله تعالى واحد لا سبيل إليه سواه، وهو عبادته بإخلاص ومتابعة، قال عز وجل:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] وإنما عرف تعالى عباده بأسمائه وصفاته حتى يعرفوه فيعبدوه حق عبادته.
قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 180] وإلا فإن معرفة الله تعالى بماله من الكمال المطلق مما فطر العباد عليه وإنما أتى العبد من جانب ما تقتضيه هذه المعرفه. (2)
وكذلك الطريق إلى المحبة المصطفى صلى الله عليه وسلم لا تسلك إلا بصدق المتابعة والتقرب إلى الله تعالى، قال الصحابى الجليل عبد الله بن مسعود:(لا يسأل أحد عن نفسه إلا القرآن فإن كان يحب القرآن فهو يحب الله ورسوله) فإن "من أحب شيئًا آثره وآثر موافقته، وإلا لم يكن صادقًا في حبه وكان مدعيًا، فالصادق في حب النبي صلى الله عليه وسلم من
(1) ديوان حسان بن ثابت رضي الله عنه: 47.
(2)
انظر: المبحث المتعلق بالتوحيد: 169.
تظهر علامة ذلك عليه، وأولها: الاقتداء به، واستعمال سنته، واتباع أقواله وأفعاله، وامتثال أوامره واجتناب نواهيه، والتأدب بآدابه، وشاهد هذا قوله تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} " (1)
ويقول الإمام ابن القيم في بيان حقيقة محبته عليه الصلاة والسلام: "إن تعظيم الرسول وإجلاله ومحبته تابع لتعظيم مرسله سبحانه وإجلاله ومحبته وطاعته، فمحال أن تثبت المحبة والطاعة والتعظيم والإجلال للرسول صلى الله عليه وسلم دون مرسله، بل إنما يثبت ذلك له تبعًا لمحبة الله وتعظيمه وإجلاله، ولهذا كانت طاعة الرسول طاعة الله، فمن يطع الرسول فقد أطاع الله، ومحبته محبة لله. ."(2)
كما أن تقديم العمل بسنته على هوى النفس وآراء الرجال من براهين صدق مدعى محبته عليه الصلاة والسلام، لذا علق المولى تعالى صدق الإيمان بالتحاكم لشرعه:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36].
فإن صدق الاتباع أعدل الشهود، وأقواهم بينة على محبة من اتصف به، وقد كان القرآن الكريم يتعهد دومًا من تربى في مدرسة النبوة بغرس فضيلة الأدب معه عليه الصلاة والسلام، فمرة يوجههم إلى وجوب اتباعه، ومرة يخصص من هذا الاتباع أولوية التحاكم لشرعه المطهر، والتسليم لما يقضى به بينهم، ومرة يحذرهم من مغبة الالتفات عن أمره، كما قال:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63].
إن النداء الربانى لأهل الإيمان حقيقة باقية تهيب بكل من دخل في عموم هذا الجمع بأن يحسنوا اتباعهم له، وأن لا يقدموا شيئًا على سنته مهما حسنته العقول والأهواء أو ارتأت أولويته.
(1) الشفا للقاضي عياض (3/ 561).
(2)
جلاء الأفهام: 304.
وقد كان حال الصحابة رضي الله عنهم مع عظيم محبتهم له عليه الصلاة والسلام، لأعظم شاهد يشهد بمخالفة ما ذكر الصاوي، فهذا الصحابى الجليل الذي يطلب مصاحبة الرسول في الجنة، يحثه عليه الصلاة والسلام على كثرة السجود، ففى الحديث الصحيح أن ربيعة بن كعب الأسلمي، قال: كنت أبيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فآتيه بوضوئه وحاجته، فقال لي: سل. فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة، قال: أو غير ذلك؟ قلت: هو ذاك. قال: فأعنى على نفسك بكثرة السجود) (1)
وكانت الصلاة عليه من جملة الأعمال الموجبة لنيل القرب منه عليه الصلاة والسلام، فقد ورد في الحديث الشريف أنه قال:(أولى الناس بى يوم القيامة أكثرهم على الصلاة)(2)
- وما ذكره من أن الكمل هم الذين لا يبتغون بصلاتهم عليه صلى الله عليه وسلم الأجر والمثوبة، فحقيقته متابعة للصوفية في ادعاءاتهم الباطلة، وتظهر مخالفته للمعلوم من كلام الله ورسوله من عدة وجوه؛ كان منها ما دل عليه حديث المصطفى عليه الصلاة والسلام الذي أخبر فيه عن شكره لله تعالى بأداء السجود على ما جعل من ثواب الصلاة عليه، فعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال:(خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتبعته حتى دخل نخلًا فسجد فأطال السجود حتى خفت أو خشيت أن يكون الله قد توفاه أو قبضه قال: فجئت أنظر فرفع رأسه فقال: مالك يا عبد الرحمن؟ قال فذكرت ذلك له. قال: فقال: (إن جبريل قال لي ألا أبشرك؟ إن الله عز وجل يقول: من صلى عليك صليت عليه ومن سلم عليك سلمت عليه). (3)
(1) أخرجه مسلم في: كتاب الصلاة - باب فضل السجود والحث عليه: (4/ 206).
(2)
أخرجه الترمذي في: كتاب الوتر - باب ما جاء في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، رقم الحديث: 484 وقال: حديث حسن غريب: (2/ 354).
(3)
أخرجه أحمد في المسند من حديث عبد الرحمن بن عوف، رقمه:1662. وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح: (2/ 308).
ومنها أن كان عليه الصلاة والسلام كثيرًا ما يحض أصحابه على الإكثار من الصلاة عليه بمالهم من الأجر، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة. (1)
- ثم إن في استشهاده ببيت الفارض على عدم إرادة الثواب في حق العارفين محض وهم وضلال؛ فما هذا هدى الأنبياء وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، بل رجاء ما عند الله تعالى والخوف من عقابه هو دين الرسل وأتباعهم.
قال تعالى بعد حكاية فضله على أنبيائه ورسله - عليهم الصلاة والسلام -: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90].
* * *
(1) منها ما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة - رض الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من صلى على واحدة صلى الله عليه عشرًا): كتاب الصلاة - باب استحباب القول مثل قول المؤذن: (4/ 85).