الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(المبحث الأول): تعريف اليوم الآخر، وأدلته
إن حقيقة الإيمان باليوم الآخر؛ هي التصديق الجازم بأن الله تعالى سيعيد العباد مرة أخرى إلى الحياة بعد موتهم؛ وذلك لمحاسبتهم، وإقامة العدل في شأنهم، وهذا يستلزم الإيمان بكل تفاصيل الإعادة والجزاء، التي أخبر بها المولى تعالى في كتابه، والتى دلت عليها السنة المطهرة، كالحساب والصحف والميزان والصراط والجنة والنار وغير ذلك.
ولا بد لمعرفة هذا الأصل العظيم من أصول الدين؛ أن نقف على أهم الأسس التي ينبنى عليها الإيمان الحق به، وذلك أن وقوع اليوم الآخر كما أخبر به المولى تعالى هو الحقيقة التي يقتضيها ما يتصف به عز وجل من صفات الكمال والعظمة، حيث يعتمد في حجية تحققه كما سبقت الإشارة إليه على الحكمة الثابتة في كل ما يكون منه سبحانه، قال تعالى:{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون: 115، 116].
فقد أناط المولى تعالى في هذه الآية الكريمة إرادته للبعث وإرجاع الناس إليه يوم القيامة؛ بنفى إرادة العبث منه سبحانه، وتعليقه هذا يقضى بأن تصرفه في جميع مخلوقاته إنما يتأتى من جهة إرادته لتمام الحكمة، الدائرة بين العدل والفضل.
وإذا تقرر هذا الأصل وهو الإيمان بحكمة الله تعالى، المقتضية لإحقاق الجزاء العادل منه سبحانه في اليوم الآخر، فلا بد من معرفة أن تحقق الجزاء في الآخرة متوقف لإثباته على حقيقة أخرى، تمثل في مكانتها الوسيلة التي يرتكز عليها إثبات ذلك الأصل، وهذه الحقيقة هي التي كثر إنكار الجاحدين لها من أهل الكفر والمراء؛ إذ في إنكارهم لها هدف لجحد ما يترتب عليها من إثبات الجزاء العادل المرتبط
بحقيقة الحكمة، فلا يمكن بحال انفصالها عنه، تلكم هي حقيقة البعث بعد الموت، وإعادة الحياة إلى الأجساد بعد مفارقتها لها، والتى تستند في إثباتها إلى اتصاف الله تعالى بالقدرة التامة المتعلقة بكل ما هو من شأنه الإمكان.
وإلى هذا المعنى يشير قول المولى تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن: 7].
وقد كانت العناية بشأن هذه الحقيقة تأصيلًا ودفاعًا؛ بإبطال شبه المنكرين لها ظاهرة في كتاب الله تعالى، هذا وقد تنوعت دلالته في إثباته لها؛ فمرة يتجه في تأصيلها إلى تنبيه وازع الإيمان، الذي يقضى بالتسليم لكل ما أخبر به المولى تعالى من أمور الغيب، ومرة يتجه إلى الغريزة الفطربة بما هو مغروس فيها من مبادئ أولية مسلمة، لا يمكن بحال أن يقف المتجرد أمامها موقف الإنكار، فتحمله بما غرس فيه على التسليم لها، والإذعان التام بوجوب تحققها (1).
ومع وضوح هذا المراد في كتاب الله تعالى، إلا أن الكثير من المتكلمين وقف أمامه موقف المنكر، وأحال أن يكون مستند إثبات البعث والجزاء الاستدلال العقلى النابع من التسليم للمسلمات الفطرية، وأرجعه على جهة الجزم إلى مقتضى التسليم بالغيب الموحى به من الله تعالى، والذي يسنده في كل ما أخبر به من حقائق محجوبة عدم خروجه عن الممكنات، التي تعلقت بها قدرة الباري تعالى.
يقول الإيجى في ذلك: "وهى جائزة عندنا، خلافًا للفلاسفة، والتناسخية، لأنه لا يمتنع وجوده الثاني لذاته ولا للوازمه، وإلا لم يوجد ابتداءً"(2).
ويذكر هذا القسم من أصول العقائد الجويني فيما لا يدرك إلا بالسمع، يقول:"وأما ما لا يدرك إلا سمعًا؛ فهو القضاء بوقوع ما يجوز في العقل وقوعه، ولا يجب أن يتقرر الحكم بثبوت الجائز ثبوته فيما غاب عنا إلا بالسمع"(3).
(1) وسيأتي الحديث عنه مع مناقشة آراء الصاوي في هذا الباب إن شاء الله.
(2)
المواقف: 371.
(3)
الإرشاد للجوينى: 358 - 371.