الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(المبحث الأول): القضاء والقدر (تعريفه ومراتبه)
أصل معنى القضاء في اللغة هو: إحكام الشيء وإتقانه، وإلى هذا أشار ابن فارس (1) حيث قال:"القاف والضاد والحرف المعتل أصل صحيح، يدل على إحكام أمره وإتقانه وإنفاذه لجهته"(2).
أما القدر فله معانٍ متعددة؛ كلها ترجع إلى مبلغ الشيء وكنهه ونهايته، يقول ابن فارس:"القاف والدال والراء أصل صحيح يدل على مبلغ الشيء وكنهه ونهايته"(3).
وفي الاصطلاح فإن مغنى القضاء والقدر هو تعلق علم الله تعالى بالكائنات، وإرادته لها أزلًا قبل وجودها، فلا حادث إلا وقد قدره، أي سبق علمه به، وتعلقت به إرادته (4).
أما عن مكانة الإيمان بقضاء الله وقدره: خيره وشره، فإنه ركن من أركان الإيمان، حيث إن حقيقة الإيمان به هي الإيمان بالله تعالى، فإن الباعث الحق على الإيمان بهما هو الموجب لذلك من الرضا بربوبيته تعالى متصفًا بأسمائه وصفاته الحسنى (5).
(1) هو أحمد بن فارس بن زكريا بن محمد بن حبيب القزوينى الشافعي المالكى، ولد سنة: 329 هـ، لغوى من مصنفاته: المجمل في اللغة، مقاييس اللغة، جامع التأويل في تفسير القرآن، توفى سنة: 395 هـ انظر: معجم المؤلفين: (2/ 40).
(2)
معجم مقاييس اللغة: (5/ 99). وانظر: لسان العرب: (6/ 3665). وللتوسع يوصى بالرجوع إلى: القضاء والقدر ل د/ عبد الرحمن المحمود.
(3)
معجم مقاييس اللغة: (5/ 62).
(4)
انظر: شرح العقيدة الواسطية، للشيخ صالح الفوزان:162. وانظر: القضاء والقدر د/ عبد الرحمن المحمود.
(5)
انظر: مدارج السالكين: (2/ 181).
- والأصل في عد الإيمان بالقضاء والقدر ركنًا من أركان الإيمان، لا يقبل الله تعالى إيمان عبد إلا بتحققه منه: الأدلة التي ردت في الكتاب والسنة، منها قوله تعالى:{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49]، فهذا نص من المولى تعالى على أن جميع المخلوقات إنما تحقق وجودها وفقًا لما قدره تعالى بشأنها (1).
أما الأدلة من السنة فأعظمها دلالة حديث جبريل عليه السلام المشهور الذي قال فيه المصطفى صلى الله عليه وسلم حين سئل عن الإيمان: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره)(2).
وقبل التطرق بالحديث عن الفرق التي ظهر عندها الانحراف في معتقد القدر داخل المجتمع المسلم؛ أود أن ألقى الضوء على بعض الحوادث، التي قد لا تكون يداية لخط الانحراف الذي داخل عقيدة المجتمع الإسلامى آنذاك، وإنما هي بمثابة الإرهاصات، أو بوادر الفتنة، التي ألمت بالمسلمين تجاه عقيدة القدر، وقد تعبر بشكل أو آخر عن شفافية هذا الموضوع، وارتباطه الوثيق بحقيقة الإيمان، الذي يعني التسليم التام لكل ما جاء به الشرع.
فقد وقعت أحداث متعددة، تمثل صورًا أو حالات فردية، لم تتبلور بعد من الانحراف العقدى في القدر، منها ما وقع في عهد عمر رضي الله عنه: فيحكى أن رجلًا سرق فقال له عمر: لم سرقت؟ فقال: سرقت بقضاء الله وقدره، فأجابه عمر رضي الله عنه بما يقطع عليه هذه الحجة، ويحسم مادة استشرائها في الأمة قائلًا: ونحن نقطع يدك بقضاء الله وقدره (3).
وإذا كانت الحادثة السابقة تمثل صورة من صور الغلو في الإيمان بالقدر، فهناك ما يمثل الجانب الآخر من الجفاء والتفريط في هذا الأصل الإيمانى، فعن أبي يحيى مولى ابن عفراء، قال: أتيت ابن عباس ومعى رجلان من الذين يذكرون القدر أو
(1) انظر: تفسير القرآن العظيم، لابن كثير:(4/ 339).
(2)
والحديث أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الإيمان - باب الإيمان والإسلام والإحسان: (1/ 157).
(3)
انظر: منهاج السنة: (3/ 234).
ينكرونه، فقلت: يا ابن عباس، ما تقول في القدر، لو أن هؤلاء أتوك يسألونك، وقال مرة يسألونك عن القدر، إن زنا وإن سرق أو شرب؟ فحسر عن قميصه حتى أخرج منكبيه، وقال: يا أبا يحيى لعلك من الذين ينكرون القدر ويكذبون به، والله لو أعلم أنك منهم، أو هذين معك لجاهدتهم، إن زنا فبقدر، وإن سرق فبقدر، وإن شرب الخمر فبقدر" (1).
- أما عن أرباب الفتنة، ومن قام بوضع بذورها واحتوائها؛ فيحكى المؤرخون (2) أن غيلان الدمشقى (3) ومعبد الجهني (4) هما أول من عرف عنه الخوض في القدر، وذلك في عهد المتأخرين من الصحابة الكرام، وقد أخذ عن معبد الجعد بن درهم الذي تولى كبر نشر هذه الفتنة بين المسلمين، وكان أن تصدى لهم جمع من الصحب الكرام يعلنون التبرؤ منهم، وتحذير الناس من ضلال ما أتوا به، حتى روى أن ذلك هو السبب في إخبار الصحابى الجليل عبد الله بن عمر بحديث جبريل عليه السلام (5).
هذا وتنقسم القدرية؛ بحسب موقفهم من القدر إلى: قدرية غلاة، وأخرى متوسطة:
- أما الغلاة منهم، فهم الذين أنكروا علم الله تعالى وكتابته ومشيئته وخلقه لأفعال العباد:"حتى قال فيهم الأئمة، كمالك والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم: إن المنكرين لعلم الله المتقدم يكفرون"(6).
(1) رواه عبد الله بن أحمد في كتاب السنة: (2/ 425).
(2)
انظر: الفرق بين الفرق للبغدادى: 39 والملل والنحل للشهرستانى: (1/ 30).
(3)
هو: غيلان بن مسلم، أبو مروان، أخذ القول عن معبد الجهني كما دلت على ذلك بعض النصوص التاريخية قتل صلبًا بفتوى من الإمام الأوزاعي على باب دمشق في عهد الخليفة الأموى: عبد الملك بن مروان انظر الملل والنحل للشهرستانى: (1/ 30)، الأعلام للزركلى:(5/ 124).
(4)
هو معبد بن خالد الجهني البصري أول من أظهر خبث المقالة في القدر، قال أبو حاتم:"قدم المدينة فأفسد فيها ناسًا" يقال أنه أخذ مذهبه عن رجل نصرانى يدعى سوسن أسلم ثم عاد إلى الكفر مرة أخرى، قيل في موته أن الحجاج قتله بعد خروجه عليه مع ابن الأشعث سنة: 80 هـ. انظر: تهذيب التهذيب: (10/ 225)، والأعلام (8/ 177). وشرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائى:(4/ 827).
(5)
انظر: جامع العلوم والحكم لابن رجب: (1/ 94).
(6)
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية: (8/ 450). وانظر: في حكاية تكفيرهم.