الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فيصل بذلك إلى صحة المقدمة الأولى: "فينتج العالم حادث". (1)
وأما دليل القضية الكبرى: "كل حادث له محدث "فيستند إلى وجوب إثبات المرجح الذي كان به ترجيح الوجود على العدم، يقول:"وإلا لزم الترجيح من غير مرجح وهو محال، فينتج العالم لا بد له من محدث"(2).
* * *
المناقشة:
لقد وجه شيخ الإسلام عددًا من النقوض لمسلك الاستدلال الأرسطى كشف فيها عن الكثير من ضلالات معتقدهم في الإلهيات، والتى بنى على أساسها قواعد المنطق ونظرياته، ولعلى أشير إلى أهمها على ما يسمح به الحال مع التأكيد أننى هنا لست بصدد مناقشة هذه القضية بذاتها لأن النقاش سيأتي بها لاحقًا بإذن الله (3)، وإنما يهمنى إعطاء فكرة نقدية لهذا المنهج الذي تأثر بها المتكلمون كثيرًا في المسائل الأصولية.
لقد كان من أهم النقود التي وجهها شيخ الإسلام رحمه الله للمنطق الأرسطى، ما أسندوه إلى القياس المنطقي من مصداقية في تقرير الحقائق، حتى جزموا بأنه لا يعلم شيء من التصديقات إلا بالقياس، إذ لا مستند لهم في هذا الحصر إلا ادعاء لا بينة لهم عليه، ومع عدم موافقة المتكلمينن لهم على هذا الادعاء بالكلية، إلا أن اعتمادهم عليه في تقرير أصول الدين يعد دليلًا على موافقتهم في كونه دليلًا يتوصل به إلى تقرير الحقائق، وهذا ما يرد عليهم.
بيان ذلك أن الأساس في القياس وجود القضية الكلية كقول المتكلمين كل ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث، فإن استنادهم في هذا التعميم إنما يتحقق بالاستقراء الذي لا تكون نتائجه قطعية الدلالة لتطرق الاستثناء إليها؛ بسبب نقصانه وعدم
(1) حاشية الجوهرة: 15.
(2)
حاشية جوهرة التوحيد: 15، 16. وانظر: حاشية الخريدة البهية: 48، 49.
(3)
انظر: مبحث الاستدلال علي وجود الله: 143.
الجزم بشموله مما يقضى بظنية تعميمه على المجموع، ومن هنا فإن الأساس الذي أقاموا عليه برهان القياس المنطقى مهدد بالنقض من أساسه عند وجود المعارض المقتضى لذلك.
إذ الاستقراء ينقسم إلى نوعين بحسب ما يستند إليه من مرجعية الحكم، فقد يكون استقراءً تامًا بحيث تصدق لفظة (كل) على جميع أفراد الموضوع: المحكوم عليه، كقول النبي صلى الله عليه وسلم:(كل مسكر خمر، وكل خمر حرام)(1)، وقد حكم عليه بأنه استقراء تام لأنه وحى معصوم، فتصديقه من تصديق المرسل سبحانه وتعالى.
أما الاستقراء الناقص فهو كل حكم على الموضوع كان أساسه التجربة، ومن المعلوم أن التجربة الحسية دلالة تعميمها ظنية، إذ الحكم على الأفراد إنما يتحقق صدقه على من وقعت عليه التجربة حقًا، أما ما خلا ذلك فهو قياس ذهنى قد يتعرض لنقض من فرد واحد، ققول القائل: كل نار محرقة، إنما توصل إليه بما شاهده من النيران التي جربها بحواسه، أما ما خلا ذلك فهو قياس توصل إليه بالأفراد الذين تحقق من صدق الحكم عليهم، لذا فإن هذا الحكم قد يتطرق إليه النقصان بمخالفة فرد من أفراد النيران لهذا التعميم، كالنار التي ألقى فيها إبراهيم عليه السلام فإنه تخلف إحراقها بأمر الله تعالى، والذي أريد أن أتوصل إليه هنا أن كل تعميم بنى على الاستقراء التجريبى فهو استقراء ناقص، إذ أساس تحكيمه إعمال قياس الغائب على الشاهد وقد علم إمكان تطرق المنع إليه والذي يقضى بانتقاضه من أصله.
- ومن جهة أخرى فإذا كان العلم بصدق هذه القضية الكلية ضروريًا أو كما يعبر عنه بالبدهى امتنع وجود الحاجة إليها، ومثال ذلك قول المتكلمين كل حادث له محدث فإن هذه القضية الكبرى التي هي مقدمة البرهان يمكن الاستغناء عنها
(1) أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الأشربة - باب بيان أن كل مسكر خمر، رقم الحديث:5189.
لبداهتها، فلا يكون هناك حاجة لذكرها ويكتفى بالنتيجة لظهور هذه المقدمات وبداهتها وهى: العالم له محدث، يقول شيخ الإسلام رحمه الله في بيان هذا: "فما من قضية من هذه القضايا الكلية التي تجعل مقدمة في البرهان، إلا والعلم بالنتيجة ممكن بدون توسط ذلك البرهان، بل هو الواقع كثيرًا.
فإذا علم أن كل واحد فهو نصف كل اثنين، وأن كل اثنين نصفهم واحد فإنه يعلم أن هذا الواحد نصف هذين الاثنين، وهلم جرًا في سائر القضايا المعينة من غير استدلال على ذلك بالقضية الكلية. . .
وكذلك إذا قيل: هذا محدث، فلا بد له من محدث، فتلك القضية الكلية وهى قولنا: كل محدث لا بد له من مُحْدِث، وكل ممكن لا بد له من مرجح يمكن العلم بأفرادها المطلوبة بالقياس البرهانى عندهم، بدون العلم بالقضية الكلية التي لا يتم البرهان عندهم إلا بها، فيعلم أن هذا المحدَث لا بد له من محدِث، وهذا الممكن لا بد له من مرجح" (1).
- ثم إن ما اشترطوه لصحة القياس من وجود مقدمتين، وإذا زاد الأمر لحاجة الاستدلال سموه مركبًا وردوه مع تعدده لبيان المقدمتين، لحصول النتيجة المطلوبة لا يصح لهم، وذلك لأن "الدليل قد يكون مقدمة واحدة، وقد يكون مقدمتين، وقد يكون مقدمات بحسب حاجة الناظر المستدل، إذ حاجة الناس تختلف، فقد يصل المستدل إلى المطلوب بمقدمة واحدة وقد يحتاج لأكثر، إذ المقصود هنا أن وجه الدليل: العلم بلزوم المدلول له - أي العلم بوجه دلالة الدليل على ما يدل عليه -، سواء سمى استحضارًا أو تفطنًا أو غير ذلك، فمتى استحضر في ذهنه لزوم المدلول له علم أنه دال عليه. وهذا اللزوم إن كان بينًا له، وإلا فقد يحتاج في بيانه إلى مقدمة أو ثنتين أو ثلاثة أو أكثر (2)
دل على ذلك نهج من وجب اتباعهم والتزام سبيلهم من المهاجرين والأنصار
(1) الرد على المنطقيين: (1/ 121).
(2)
الرد على المنطقيين: (1/ 123).