الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(المبحث الثاني): مكانته العلمية ومؤلفاته
الشيخ أحمد الصاوى فقيه مالكى معروف، تتلمذ على يد الشيخ أحمد الدردير، وهو إمام المالكية في عصره، ألف الصاوى شروحًا وحواشى على بعض الكتب الشهيرة في المذهب المالكى، والتى قرر تدريسها في الأزهر الشريف، وكانت لها الصدارة بين كتب المالكية عند كل طلاب الشريعة في البلاد الإسلامية.
وكما تمت له الإمامة في الفقه؛ فقد برز في مجال التفسير، حيث أثرت في موهبته العلمية تلك الدروس التي كان يحضرها لمشايخه، وعلى رأسهم شيخه الجمل، حتى تم له وضع حاشية على تفسير الجلالين، اتسمت بالعبارة المختصرة والتركيز في توضيح معنى الآية.
ومع تمكنه من تلك العلوم فقد كانت له مكانة معروفة في جانب العقائد، حيث عمل بعض الحواشى والشروح على كتب المتأخرين من الأشاعرة، كالدردير واللقانى، وقد اعتمد فيها أصول المذهب الأشعري، إلا أنه قد يخرج بعض الشيء عن تقارير المتكلمين تبعًا لشخصيته المتميزة في الفقه، والتى جعلت منه مجتهدًا متمكنًا لا يأبه لكلام من سبقه، إذا لم يكن له اقتناع كامل به، ونتيجة لهذا فقد يقع في نوع من التناقض والذي كثيرًا ما يحمله على عدم الترجيح البين، وهذا ما سيتضح في المبحث الثاني، بإذن الله.
أما عن موقفه من الحديث الشريف، فقد كان له اهتمام واضح به، يصدق هذا كثرة الأدلة التي يوردها في الاستدلال على المسائل الفقهية أو العقدية، إلا أن التدقيق من جهة السند يتسم عنده بالضعف، إذ يقتصر في الغالب على ذكر المتن، ولا يذكر المرجع الحديثى له إلا فيما ندر، كما أنه لا يشترط الصحة لما يستدل به، فقد يذكر الأحاديث الضعيفة والموضوعة.
ولما كان طريق التصوف باتباع الشيخ هو المسلك المعروف لترقيق القلوب في ذلك الوقت، فقد سار الصاوى على نهج شيخه الدردير في انتهاج طريقة الصوفية، وقد تعمق بها الصاوي حتى تم له وضع شرح على كتاب الدردير، هو أشبه ما يكون بخلاصة مركزة لعلوم التصوف؛ حيث وضح فيه المقامات والآداب، وعمد إلى تأصيلها من جهة العلوم الشرعية، وقد نقل في ذلك الكثير من أقوال أئمة التصوف، حتى الغلاة منهم، مما يشير إلى سعة اطلاعه في كتب القوم، ولكنه كان ينهج منهج المتأخرين من الأشاعرة في تأويل كلام أولئك الغلاة وحمله على محمل معتدل.
ولميله الشديد نحو المتصوفة ومحبته لهم؛ حيث يبعد ذكر واحد من كبارهم دون أن يعقبه بالترضى عنهم، فقد يقع في نوع من الغموض والتحيير، كما هو حال من وقع في الابتداع والخروج عن منهج السلف - رضوان الله عليهم -. وللحديث تتمة في المبحث القادم بإذن الله.
وكما تم له التمكن في العلوم الشرعية، كان له ذلك أيضًا في علوم الآلة، فقد برع في علم النحو، وعلم البلاغة والبيان، وتعد حاشيته على التفسير برهانًا يشهد له بهذه البراعة والتمكن، فالمتأمل لشروحاته على الآيات يلحظ هذا بوضوح، ولعلى أنقل بعض تلك النصوص في حديثى عن هذه الحاشية مفصلة القول، وذلك لأهميتها العلمية بين طلبة العلم.
وكان له في علم اللغة حواشى وضعها على بعض كتب الدردير.
وحتى يتم الحديث في حياة الصاوى العلمية؛ يحسن تناول أشهر مؤلفاته العلمية، بنوع من العرض والتحليل، كى يتسنى لنا الإحاطة الكافية لإدراك المكانة العلمية التي حازها الصاوى من جهة ما قدم من مؤلفات.
* * *
مؤلفاته:
تعددت مؤلفات الصاوى، كما تعددت الفنون التي برع فيها، فقد فاق أقرانه
بسعة علمه وحدة ذكائه، حيث ألف في التفسير والفقه وعلم الكلام والنحو والصرف والبلاغة وغيرها.
ولما كان هذا البحث مستندًا في بيان آراء الصاوى إلى الكتب التي اشتملت على المسائل العقدية دون غيرها، فقد عمدت عند عرضى لها إلى إعطاء صورة موجزة للقارئ عن أهم ما تتميز به ويدور عليه محور مواضيعها، مبرزة من ذلك الجانب العقدى؛ لأهميته المتعينة.
1 -
حاشية الصاوى على تفسير الجلالين: وقبل أن أتحدث عن ما حوته هذه الحاشية من المعارف والعلوم المتعددة، يحسن بى أن أعرف بهذا المؤلف العلمى ذى المكانة المتميزة بين كتب التفسير.
فتفسير الجلالين. هو التفسير الذي قام بتأليفه عالمان جليلان هما: جلال الدين السيوطي (1)، وجلال الدين المحلى (2)، حيث ابتدأ التفسير جلال الدين المحلى من سورة الكهف إلى آخر سورة الناس، ثم ابتدأ بسورة الفاتحة، فوافته المنية ولما يكمل التفسير بعد، فقام الحافظ السيوطي بإكمال ما شرع به المحلى، فكان تفسيره من أول سورة البقرة إلى سورة الإسراء.
(1) هو الحافظ جلال الدين أبو الفضل عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي الشافعي، المسند المحقق، ولد في رجب سنة: 849 هـ، وتوفى والده وله من العمر خمس سنوات وسبعة أشهر، وأسند وصايته إلى جماعة من أهل العلم، ختم القرآن في الثامنة من عمره، حفظ كثيرًا من المتون، وتلقى العلم على يد علماء كثر، كما أخذ عنه الكثير من طلاب العلم، برع في الكثير من العلوم والفنون خصوصًا علم الحديث، حتى صار أعلم أهل زمانه به، له مؤلفات كثيرة نالت شهرة كبيرة بين المسلمين في شتى البلاد، كان عابدًا ورعًا انقطع للعبادة عندما بلغ الأربعين من عمره، توفى رحمه الله ليلة الجمعة في التاسع عشر من جمادى الأولى سنة: 911 هـ. انظر في ترجمته: شذرات الذهب: (8/ 51).
(2)
هو جلال الدين محمد بن أحمد بن إبراهيم المحلى الشافعي، ولد بمصر سنة: 797 هـ، برع في الفنون: فقهًا وكلامًا وأصولًا، ونحوًا ومنطقًا، وغيرها، أخذ عن البدر محمود الأقصرائى، والبرهان البيجورى، والشمس البساطى، وغيرهم بلغ مبلغًا عظيمًا من الصلاح والورع، ألف كتبًا كثيرة هي في غاية الدقة والاختصار وسلامة العبارة، ومنها: شرح جمع الجوامع في الأصول، وشرح المنهاج في فقه الشافعية، وشرح الورقات في الأصول، ومنها هذا التفسير، توفى رحمه الله سنة: 864 هـ. انظر في ترجمته: شذرات الذهب: (7/ 303).
وهذا التفسير من المؤلفات العلمية، التي حازت شهرة واسعة في البلاد الإسلامية، فقد تميزت عبارته بالدقة والاختصار غير المخل، كما اشتمل على أهم العلوم التي يستعان بها في فهم كلام الله تعالى، من أسباب النزول والإعراب، وأيضًا التنبيه على بعض القراءات المختلفة المشهورة.
ومع دقة عباراته وقوتها العلمية؛ فقد استخدم في تأليفه الأسلوب الدمجى، وهذا النوع من الشروح يعد في الحقيقة من أصعب المناهج المتبعة في توضيح النصوص وتفسير ما أغلق منها، لذلك فقد حاز هذا التفسير إعجاب الكثير من أهل العلم فاشرأبت الأعناق إلى خدمته، فقامت عليه الكثير من الحواشى العلمية، وكان من أشهرها حاشية الشيخ الجمل وحاشية الشيخ الصاوى، والتى نحن الآن بصدد الحديث عليها.
هذا وقد طبع الكتاب مرات عديدة، وكان يطبع في هامش القرآن الكريم (1).
أما عن حاشية الصاوى فتقع هذه الحاشية في أربعة مجلدات من القطع الكبير، وقد طبعت عددًا من المرات، وكانت هذه الحاشية اختصارًا اختصره المؤلف لحاشية شيخه الجمل، وقد ذكر سبب اختصاره لها في أول التفسير، يقول: "لما كان علم التفسير أعظم العلوم مقدارًا وأرفعها شأنًا ومنارًا، إذ هو رئيس العلوم الدينية، ورأسها، ومبنى قواعد الشرع وأساسها، وكان كتاب الجلالين من أجل كتب التفسير، وقد أجمع على الاعتناء به الجم الغفير من أهل البصائر والتنوير، جاءنى الداعى الإلهى بقراءته، فاشتغلت به على حسب عجزى، ووضعت كتابة مخلصة من حاشية شيخنا العلامة المحقق المدقق الورع الشيخ سليمان الجمل، مع زوائد فتح بها مولانا من نور كتابه.
وإنما اقتصرت على تلخيص تلك الحاشية؛ لكونى وجدتها ملخصة من جميع كتب التفسير التي بأيدينا، تنسب لنحو عشرين كتابًا منها البيضاوي وحواشيه، ومنها الخازن والخطيب والسمين وأبو السعود والكواشى والبحر والنهر والساقية والقرطبى
(1) انظر: كشف الظنون: (1/ 445)، والتفسير والمفسرون، للذهبى:(1/ 233).
والكشاف وابن عطية والتحبير والإتقان، ولم أنسب العبارات لأصحابها غالبًا اكتفاءً بنسبة الأصل، والله على ما أقول وكيل، وهو حسبى وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى.
وقد تلقيت هذا الكتاب من أوله إلى آخره مرتين على العلامة الصوفية سيدى الشيخ سليمان الجمل، وعن الإمام أبى البركات العارف بالله تعالى، أستاذنا الشيخ أحمد الدرديرى، وعن أستاذنا العلامة الشيخ الأمير، وكل من هؤلاء الأئمة تلقاه عن تاج العارفين شمس الدين سيدى محمد بن سالم الحفناوى، وعن الإمام أبى الحسن سيدى الشيخ على الصعيدى العدوى" (1)
ومع كون هذا النص يوحى بأن هذه الحاشية مجرد اختصار، لم يخرج به المؤلف عن الأصل، إلا أن الحقيقة العلمية تكشف عن تحرر الصاوى في الكثير من المواضع، بذكر فوائد وتعليقات تفرد بها عن شيخه الجمل.
أما عن منهجه في التفسير فقد اعتمد في الغالب منهج التفسير بالمأثور، يؤيد هذا كثرة الأحاديث التي يستدل بها في تفسيره الآية الكريمة، مما يدل على اهتمامه بالحديث الشريف، كما اهتم بذكر أسباب النزول وفضائل السور، إلا أنه لم يكن يتحرى الصحة فيها، ولم يعتمد المنهج الصحيح في الاستدلال بها، وذلك من حيث العزو والتوثيق، فمثلًا قد يذكر الحديث دون أن يذكر مرجعه وهذا هو الغالب، ثم كثيرًا ما يذكره بصيغة لا تفرق بينه وبين الأثر؛ فلا يدرى القارئ من أيهما يكون، فيقول في بدايته: كما ورد؛ ويذكر الحديث أو الأثر.
ولى أن أورد بعض الأمثلة لإبراز هذا الجانب، فعند قوله تعالى:{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة: 16]، يقول السيوطي شارحًا الآية: أي استبدلوها به، ويعلق الصاوى على ذلك، فيقول: "أشار بذلك إلى أن المراد بالشراء مطلق الاستبدال، والباء داخلة على الثمن، والمراد بالضلالة الكفر، وبالهدى الإيمان.
(1) حاشية الجلالين: (1/ 2).
وكلامه يقتضى أن الهدى كان موجودًا عندهم ثم دفعوه وأخذوا الضلالة، وهو كذلك، لقوله صلى الله عليه وسلم:(كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه، كمثل البهيمة تنتج البهيمة، هل ترى فيها جدعاء)(1) " (2)
وهذا نموذج يدل على استدلال الصاوى بالحديث الصحيح وابتدائه بما يدل على ذلك.
ومن أمثلة استدلاله بالحديث الضعيف، ما ذكره في فضل سورة الإخلاص، حيث يقول:"قال صلى الله عليه وسلم: (من أراد أن ينام على فراشه فنام على يمينه ثم قرأ: سورة الصمد مائة مرة، فإذا كان يوم القيامة يقول له الرب عز وجل: يا عبدى أدخل بيمينك الجنة) (3) "(4)
وهذا الحديث ضعيف؛ لأن في رجاله حاتم بن ميمون الكلابى، فقد قال عنه ابن حجر:"ضعيف، من الثامنة"(5)
كما يكثر استدلاله بالأخبار الإسرائيلية، والآثار الغريبة دون أن يذكر لها مرجعًا، ومن ذلك ما ذكره في أول سورة الأنعام بيانًا لفضلها، يقول:"ورد أنها فاتحة التوراة، وخاتمتها قبل آخر هود، وقبل آخر الإسراء"(6).
وكان هذا الأثر من جملة الآثار الضعيفة، فقد أخرجه الطبري في تفسيره عن كعب بن الأحبار، وفى سنده: سفيان بن وكيع بن الجراح: ذكر علماء الجرح في ترجمته أنه كان صدوقًا، إلا أنه ابتلى بوراقة فأدخل عليه ما ليس من حديثه، فنصح فلم يقبل فسقط حديثه. (7)
(1) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الجنائز - باب ما قيل في أولاد المشركين، رقم الحديث:1385.
(2)
حاشية الصاوى: (1/ 11).
(3)
أخرجه الترمذي: كتاب فضائل القرآن - باب ما جاء في سورة الإخلاص: (5/ 168)، رقم الحديث:2898.
(4)
الحاشية: (4/ 346).
(5)
تقريب التهذيب: 208، ترجمة رقم:1007.
(6)
الحاشية: (2/ 2).
(7)
تقريب التهذيب، لابن حجر: 395، ترجمة رقم: 2469 وميزان الاعتدال: (2/ 363)، ترجمة رقم:3334.