الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ}؛ يدل دلالة واضحة على أن ذلك العرض هو في البرزخ". (1)
وأدلة السنة في هذا الباب كثيرة، منها حديث عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله قال: (أنكم تفتنون في قبوركم كفتنة المسيح الدجال)(2)
وحديث عائشة رضي الله عنها: (أن يهودية دخلت عليها، فذكرت عذاب القبر، فقالت لها: أعاذك الله من عذاب القبر. فسألت عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عذاب القبر فقال: (نعم، عذاب القبر حق)، قالت عائشة رضي الله عنها: فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد صلى صلاة إلا تعوذ من عذاب القبر) (3).
الروح والموت
أولًا: الروح:
يعرف الصاوي الأرواح بأنها: "أجسام لطيفة، تبقى بعد فناء جسدها، وتذهب وتجئ، فإما في عليين، وإما في سجين". (4)
ما ذكره هو "قول جمهور المتكلمين" ويرى أنه "هو الأصح" فيما قيل في تعريفها، ولا يكتفى بهذا بل يعرض الآراء المتعددة فيها، فيقول:"وقيل: إن الروح عرض وهى الحياة التي صار الجسم بها حيًا، وقيل: إنها ليست بجسم ولا عرض، بل هي جوهر مجرد قائم بنفسه له تعلق بالبدن للتدبير والتحريك غير داخل فيه ولا خارج عنه، وهو قول الفلاسفة"(5)
(1) فتح القدير للشوكاني: (4/ 694).
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب العلم - باب من أجاب الفتيا بإشارة اليد والرأس، رقم الحديث:86.
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الجنائز - باب ما جاء في عذاب القبر، رقم الحديث:1372.
(4)
حاشية الخريدة: 35.
(5)
حاشية الجلالين: (3/ 340).
"وقال السادة الشافعية: إنها جسم لطيف شفاف، حى لذاته، مشتبك بالأجسام الكثيفة اشتباك الماء بالعود الأخضر على هيئة جسد صاحبها، واحتجوا لهذا بوصفها بالهبوط، والعروج، والتردد في البرزخ"(1).
وقال العز بن عبد السلام (2): إن في كل جسد روحين:
أحدهما: روح الحياة؛ التي أجرى الله العادة بأنها إذا كانت في الجسد كان حيًا، فإذا فارقته مات، فإذا رجعت إليه حيى، ولا يعلم مقرها إلا من أطلعه الله على ذلك.
والأخرى روح اليقظة؛ التي أجرى الله العادة بأنها إذا كانت في الجسد كان الإنسان متيقظًا، فإذا خرجت منه نام الإنسان، ورأت الروح المنامات" (3).
"ويشهد له آية الزمر، قال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر: 42]، ويقرب هذا أحوال الأولياء لأن لهم حالة تسرح فيها أرواحهم وترى العجائب كالنائم".
والمشهور أنها روح واحدة، ويكون معنى يتوفاكم؛ يذهب شعوركم، لأنهم عرفوا النوم؛ بأنه فترة طبيعية تهجم على الشخص قهرًا عليه، تمنع حواسه الحركة، وعقله الإدراك" (4).
وهو بهذا يرجح عدم تقسيم الروح، فيقول في موضع آخر "والروح شيء واحد
(1) المرجع السابق: (2/ 338).
(2)
هو عز الدين شيخ الإسلام وسلطان العلماء أبو محمد عبد العزيز بن عبد السلام بن الحسن الدمشقي المصري الشافعي، ولد سنة: 578 هـ تفقه على ابن عساكر وقرأ الأصول على الآمدي وبرع في هذين العلمين كما جمع بين علم التفسير والحديث، حتى بلغ رتبة الاجتهاد وقصده طلاب العلم من أقطار البلاد، صنف كتبًا عديدة في مختلف الفنون، منها: الإلمام بأدلة الأحكام، وقواعد الشريعة، وبداية السول في تفضيل الرسول، توفى رحمه الله سنة: 660 هـ، انظر: شذرات الذهب: (5/ 301)، وطبقات الشافعية لابن الصلاح:(1/ 549). والأعلام: (4/ 21).
(3)
حاشية الجوهرة: 58.
(4)
حاشية الجلالين: (2/ 19).
على التحقيق، وذلك القبض ظاهرًا بحيث ينعدم التمييز والإحساس، وباطنًا بحيث تنعدم الحياة والنفس والحركة" (1).
وفي بيان حقيقتها نراه يتوقف مستدلًا بما ورد في القرآن الكريم، يقول:"اعلم أنه اختلف في الروح، فقال قوم: إنها سر من أسرار الله تعالى لم يطلع عليها أحدًا، قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85] وهذا القول هو الحق، فيكره الخوض في الروح"(2)
وعند تفسير هذه الآية الكريمة، يقول:"أي مما استأثر الله بعلمه وهذا هو الصحيح، وقيل: الروح هي الدم، وقيل: النفس، ونقل عن بعض أصحاب مالك أنها صورة كجسد صاحبها، وفي الآية اقتصار على وصف الروح كما اقتصر موسى في جواب قول فرعون: وما رب العالمين؟ على ذكر صفاته، فإن إدراكه بالكنه على ما هو عليه لا يعلمه إلا الله"(3)
وإذا كان الراجح لديه كما هو واضح من أقواله رد علمها حقيقة إلى الله تعالى في الأصل، فإنه يرى أن ذلك مما يدخل أيضًا في علم رسوله عليه الصلاة والسلام، يقول:"واختلف فيها على ثلاثمائة قول، والحق لا يعلمها غير الله ورسوله"(4)
أما عن مكانها في الجسم فقد يوافق ما قيل: في أن "مقرها القلب، وشعاعها مقوم للجسد كالشمعة الكائنة وسط آنية من زجاج، فأصلها في وسطه، ونورها سار في جميع أجزائه"(5)
وكان قبض الروح من المسائل التي اعتنى بها الصاوي، فيبين معنى القبض ومن المتكفل بهذا، فيقول: "ويقبض الروح أي يخرجها عزرائيل عليه السلام،
(1) حاشية الجلالين: (3/ 351).
(2)
المرجع السابق: (3/ 351).
(3)
حاشية الجلالين: (2/ 338).
(4)
حاشية الصلوات: 60.
(5)
المرجع السابق: (3/ 351).
ومعناه: عبد الجبار (1)، ملك عظيم هائل المنظر، مفزع جدًا، رأسه في السماء العليا، ورجلاه في تخوم الأرض السفلى". (2)
أما عن المقر الذي تستقر فيه الروح بعد مفارقتها الجسد فيذكر ما ورد في ذلك، يقول: "وورد أن ملك الموت يقبض الروح من الجسد، ويسلمها إلى ملائكة الرحمة إن كان مؤمنًا، أو إلى ملائكة العذاب إن كان كافرًا، ويقال: معه سبعة من ملائكة الرحمة وسبعة من ملائكة العذاب، فإذا قبض نفسًا مؤمنة دفعها إلى ملائكة الرحمة، فيبشرونها بالثواب ويصعدون بها إلى السماء.
وإذا قبض نفسًا كافرة دفعها إلى ملائكة العذاب، فيبشرونها بالعذاب ويفزعونها، ثم يصعدون بها إلى السماء ثم ترد إلى سجين، وروح المؤمن إلى عليين" (3).
يقول في تفسير قوله تعالى: {لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ} [الأعراف: 40]: "كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبض روح الكافر: (ويخرج معها ريح كأنتن جيفة وجدت على وجه الأرض فيصعدون بها فلا يمرون على ملأ من الملائكة إلا قالوا ما هذه الروح الخبيثة؟ فيقولون: فلان بن فلان بأقبح أسمائه التي يسمى بها في الدنيا إليه، حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا فيستفتحون فلا يفتح لهم، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ}) ". (4)
(1) هذه الأسماء التي ورد تسمية الملائكة بها أعجمية في الأصل، وقد فسرها بعض العلماء بأنها تعنى العبودية لله تعالى، ولكنهم اختلفوا في تعيين المعنى، وكان تفسير عزرائيل بعبد الجبار أحد الأقوال التي ذكرت في معنى أسمائهم، ذكر ذلك العينى في العمدة وعزاه لبعض الكتب ولم يسمها:(1/ 72).
(2)
حاشية الجوهرة: قد سبق التنبيه في مبحث الملائكة على عدم ورود ما يقطع بتسمية ملك الموت بعزرائيل ووصفه بهذه الأوصاف، بل الغالب فيها أنها من الإسرائيليات التي لا تصدق ولا تكذب، أما بالنسبة لوصف ملك الموت بهذه الصفة فهذا مما ورد بشأن إسرافيل وليس عزرائيل على فرض تسميته به، فقد ورد به الخبر عن ابن عباس رضي الله عنهما، فعن شهر عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه فقال: ما جمعكم؟ فقالوا: اجتمعنا نذكر ربنا ونتفكر في عظمته، فقال: ألا أخبركم ببعض عظمته؟ قلنا: بلى يا رسول الله، قال: إن ملكًا من حملة العرش يقال له إسرافيل راوية من روايا العرش على كاهله، قد مرقت قدماه في الأرض السفلى ومرق رأسه من السماء السابعة العليا: حلية الأولياء، أبو نعيم:(6/ 66). وانظر: كنز العمال: (6/ 137).
(3)
حاشية الجلالين: (2/ 20).
(4)
المرجع السابق: (2/ 69).
ويقول في موضع آخر: "أما بعد الموت فأرواح الأنبياء في الجنة، وأرواح الشهداء في حواصل طيور خضر في الجنة، وأرواح المطيعين غير الشهداء بأفنية القبور في البرزخ، وحده من أفنية القبور إلى باب الجنة، وأرواح الكفار ببئر برهوت بحضرموت"(1)
وفى بيان علاقة الروح في الجسد بعد مفارقتها إياه، يقول:"وأما أجسادهم فمحلها القبور، غير أن الأرواح لها تعلق بها، فلذلك لا يحصل لأجسادهم بلاء، فأرواحهم لها جولان عظيم من البرزخ إلى أعلى السموات إلى داخل الجنان والطيور الخضر لها كالهوادج مع كونها متصلة بجسم صاحبها وما وصل للروح من النعيم يحصل للجسم أيضًا، وذلك نظير النائم، فإن النائم يرى أن روحه في المشرق أو في المغرب مع كونها متصلة بجسمه، وكالأولياء الذين أعطاهم الله التصريف، فإن الواحد منهم يكون جالسًا في مكان، وروحه تسرح في أمكنة متعددة، وربك على كل شيء قدير"(2)
* * *
ثانيًا: الموت:
كان قبض الروح ومفارقتها الجسد هو حقيقة الموت الذي أخبر المولى تعالى عنه بالخلق، لذا فإن الصاوي يفصل القول في بيان معناه، ففى تفسير قوله تعالى:{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} [الملك: 2] يعرض الصاوي ما قيل في تعريفه على جهة التحقيق، يقول: اختلف في الموت والحياة، فحكى عن ابن عباس، والكلبى، ومقاتل أن الموت والحياة جسمان، فالموت على هيئة كبش أملح لا يمر بشيء ولا يجد ريحه إلا مات، وخلق الحياة على صورة فرس أنثى بلقاء، وهى التي كان جبريل عليه السلام والأنبياء عليهم السلام يركبونها، خطوتها مد البصر
(1) حاشية الجوهرة: 58.
(2)
حاشية الجلالين: (1/ 179). وقد تقدم بيان بطلان هذا الذي وصف به أرواح الأولياء من حيث التصريف في مبحث التوحيد، انظر: 169، كما أنه سيأتي القول فيه أيضًا في مبحث الولاية بإذن الله:778.
فوق الحمار ودون البغل، لا تمر بشيء ولا يجد ريحها إلا حيى، وهى التي أخذ السامرى من أثرها ترابًا فألقاه على العجل فحيى، فعلى هذا الحياة والموت أمران وجوديان وتقابلهما من تقابل الضدين، وقيل: الموت عدم الحياة، فتقابلهما من تقابل العدم والملكة" (1).
وكان هذا منه عند سبر ما قيل فيه من أقوال، أما عند تعريفه فيرى أن الموت:"عرض يضاد الحياة ليس بعدم محض، وإنما هو انتقال من دار إلى دار، فكل من مات فقد انتقل من عالم الدنيا إلى عالم البرزخ"(2).
ولما كان الحديث عن الموت من جملة ما ورد خبره في الكتاب المبين الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، يقرر الصاوي أن "التصديق بالموت واجب" مستدلًا بقوله تعالى: " {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30].
وقوله: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185] " (3)
ويبقى معرفة مكانه وما يقع عليه، فإذا تقرر وجوب حكمه فعلى أي الأجزاء يقع؟ أعلى الروح؟ أم الجسم؟ وللإجابة على هذا السؤال المتبادر إلى الأفهام:"يقول: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} المعنى كل روح ذائقة الموت لجسمها، وإلا فالروح لا تموت، وعموم الآية يشمل حتى الشهداء والأنبياء والملائكة".
وتأكيدًا لما سبق بيانه فإنه يورد اعتراضًا مع الإجابة عليه، قد يفهم من نفى حكم الموت على من مات شهيدًا، كما صرحت بذلك الآيات الكريمة، يقول:"وأما قوله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] فمعناه ترد بعد خروجها لهم وكذلك الأنبياء والملائكة، وأما ما عداهم فلا ترد لهم إلا عند النفخة الثانية". (4)
(1) المرجع السابق: (4/ 214).
(2)
حاشية الجوهرة: 56.
(3)
المرجع السابق: 56.
(4)
حاشية الجلالين: (1/ 182).
ولكن في تعميمه هذا نظر؛ حيث يرى أن الخضر عليه السلام حى ولا يزال حيًا إلى يوم القيامة، يقول في ذلك:"والجمهور على أنه حى إلى يوم القيامة - لشربه من ماء الحياة - يجتمع به خواص الأولياء ويأخذون عنه"(1)
وعودًا إلى ما سبق بيانه من تأكيد الحياة البرزخية وإحقاقها لكل نفس، يقول: وإذا ثبت عود الروح إلى الجسد بعد مفارقتها إياه فإن "الأموات لا تعود أجسامهم في الدنيا بأرواحهم كما كانوا أبدًا، وإنما يبعثون يوم القيامة لا فرق بين الأنبياء وغيرهم، وما ورد عن بعض الصالحين من أنهم يجتمعون بالنبي صلى الله عليه وسلم يقظة، فالمراد أن روحه الشريفة تشكلت بصورة جسده الشريف، وكذا يقال في الأولياء والشهداء، لان أرواح المطيعين مطلقة غير محبوسة، وأما الكفار فأرواحهم محبوسة لا تسعى في الملكوت"(2)
ويذكر حال الكافر عند نزع روحه، فيقول في تفسير قوله تعالى:{وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 55] إشارة إلى أنهم يعلمون كفرهم قبل موتهم ويشاهدون الأماكن التي أعدت لهم في نظيره، فمن حيث تلك المشاهدة تزهق أرواحهم وهم كافرون كارهون، بخلاف المؤمن فإنه يشاهد مقعده من الجنة، ولا تخرج روحه إلا وهو كاره للدنيا محب للآخرة". (3)
* * *
تعليق:
أولًا: حقيقة الروح:
لقد كانت معرفة الروح معرفة حقيقية تجلو ما يحيط حول حقيقتها من استفسار، مما قد استأثر الله تعالى بعلمه، وهذا ما دل عليه قوله تعالى:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} ، يقول الإمام ابن كثير
(1) المرجع السابق: (3/ 19).
(2)
المرجع السابق: (3/ 117).
(3)
حاشية الجلالين: (2/ 151).
- رحمه الله في معنى الآية الكريمة: "أي من شأنه ومما استأثر بعلمه دونكم، ولهذا قال: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}؛ أي وما أطلعكم من علمه إلا على القليل، فإنه لا يحيط أحد بشيء من علمه إلا بما شاء تبارك وتعالى، والمعنى أن علمكم في علم الله قليل، وهذا الذي تسألون عنه - أمر الروح - مما استأثر به تعالى ولم يطلعكم عليه، كما أنه لم يطلعكم إلا على القليل من علمه تعالى"(1).
وهذا الاستئثار الذي تكلم عنه الإمام ابن كثير يعني أن علمها مما انفرد الله تعالى به، فليس باستطاعة أحد من البشر الإحاطة به، وعليه فلا يصح بحال نسبة هذا العلم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس في هذا ما يخل بمنزلته، بل هو وقوف عند حدود الشرع، وإعمال لنهى المصطفى عليه الصلاة والسلام عن الغلو والإطراء المنهى عنه.
وحقيقة ذلك أن ما أخفاه المولى تعالى من العلوم التي انفرد بها تختلف علة ذلك الإخفاء، إذ من المعلوم أن كل ما يقدره المولى فهو لحكمة بالغة، وكانت الروح من جملة ما أخفاه المولى لحكمة يعلمها، قد تكون لانعدام المستقبل لإدراكها في المقدور البشرى، ويلفت الانتباه شيخ الإسلام رحمه الله إلى هذه الحقيقة، وذلك في تعليقه على سبب نزولها (2)، يقول رحمه الله:"فبين بذلك أن ملك الرب عظيم، وجنوده وصفة ذلك وقدرته أعظم من أن يحيط به الآدميون، وهم لم يؤتوا من العلم إلا قليلًا، فلا يظن من يدعى العلم أنه يمكنه أن يعلم كل ما سئل عنه، ولا كل ما في الوجود، فما يعلم جنود ربك إلا هو". (3)
ومع كل ما تقدم، فليس الخبر معناه أن كل ما يتعلق بالروح مما لا يمكن إدراكه، ولكن الخبر هنا متجه إلى ما أخفاه الشارع الحكيم، أما ما دلت عليه نصوص
(1) تفسير القرآن العظيم، لابن كثير:(3/ 85).
(2)
وذلك أنه كما ورد في الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام مر بنفر من اليهود فسألوه عن الروح فنزلت عليه هذه الآية. انظر: الحديث في صحيح البخاري: كتاب العلم - باب قوله الله تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} ، رقم الحديث:125.
(3)
مجموع الفتاوى: (4/ 231).
الكتاب والسنة فحقيق أن يفهم ما أتت به في معرفة حقيقة الروح، يقول شيخ الإسلام رحمه الله:"وليس في الكتاب والسنة أن المسلمين نهوا أن يتكلموا في الروح بما دل عليه الكتاب والسنة، لا في ذاتها ولا في صفاتها، وأما الكلام بغير علم فذلك محرم في كل شيء"(1).
وبناء على ما تقدم، فيصح تعريف الروح بما ورد فيها من الأخبار الصحيحة. يقول الإمام ابن القيم في كتابه الروح بعد عرض أبرز ما قيل في تعريفها:"إنها جسم مخالف بالماهية لهذا الجسم المحسوس، وهو جسم نورانى علوى خفيف حى متحرك، ينفذ في جوهر الأعضاء ويسرى فيها سريان الماء في الورد، وسريان الدهن في الزيتون، والنار في الفحم، فما دامت هذه الأعضاء صالحة لقبول الآثار الفائضة عليها من هذا الجسم اللطيف بقى ذلك الجسم اللطيف مشابكًا لهذه الأعضاء، وأفادها هذه الآثار من الحس، وإذا فسدت هذه الأعضاء بسبب استيلاء الأخلاط الغليظة عليها، وخرجت عن قبول تلك الآثار فارق الروح البدن، وانفصل إلى عالم الأرواح، وهذا القول هو الصواب في المسألة، وهو الذي لا يصح غيره، وكل الأقوال سواه باطلة وعليه دل الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وأدلة العقل والفطرة"(2).
وكان هذا من جملة ما ذكره الصاوي من الأقوال وعزاه لأئمة الشافعية.
أما ما أورده من بقية الأقوال في معنى الروح، فغاية ما هنالك أنه جمع لآراء متعددة بل ومتباينة، دون نقد أو توجيه كافٍ لها، فقد أورد كلام الفلاسفة في أن الروح جوهر قائم بنفسه، وحقيقة هذا القول أن الروح قديمة وليست بمربوبة، وهذا ما رده عليهم أهل الإسلام قاطبة.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله حين سئل عن الروح: "الحمد لله رب العالمين روح الآدمى مخلوقة مبدعة باتفاق سلف الأمة وأئمتها وسائر أهل السنة، وقد حكى إجماع العلماء على أنها مخلوقة غير واحد من أئمة المسلمين"(3).
(1) المرجع السابق.
(2)
الروح لابن القيم: (2/ 179).
(3)
المرجع السابق: (4/ 216).
أما عن تسمية الروح بالنفس، فالحق في هذا ما بينه شيخ الإسلام بوجود نوع اشتراك بينهما؛ يؤيده إطلاق النفس على الروح في عدد من المواضع التي وردت في حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، "ودلائل هذا الأصل، وبيان مسمى الروح، والنفس، وما فيه من الاشتراك كثير"(1) في القرآن والسنة، وقد أوضح هذه المسألة الإمام ابن كثير؛ من أنها "ذات لطيفة كالهواء، سارية في الجسد كسريان الماء في عروق الشجر، وقرر أن الروح التي ينفخها الملك في الجنين هي النفس بشرط اتصالها بالبدن واكتسابها بسببه صفات مدح أو ذم، فهى إما نفس مطمئنة أو أمارة بالسوء، كما أن الماء هو حياة الشجر ثم يكسب بسبب اختلاطه معها اسمًا خاصًا، فإذا اتصل بالعنبة وعصر منها صار إما مصطارًا أو خمرًا، ولا يقال له ماء حينئذ إلا على سبيل المجاز، وكذا لا يقال للنفس روح إلا على هذا النحو، وكذا لا يقال للروح نفس إلا باعتبار ما تؤول إليه، فحاصل ما نقول: إن الروح هي أصل النفس ومادتها، والنفس مركبة منها ومن اتصالها بالبدن، فهى هي من وجه لا من كل وجه وهذا معنى حسن، والله أعلم"(2).
أما عن علاقة الروح بالجسد بعد الموت، فالعلماء على أن لها اتصالًا به بعد مفارقتها إياه؛ فالنعيم والعذاب يقع على الروح مع الجسد بيان ذلك "أن الله سبحانه جعل الدور ثلاثًا: دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار القرار، وجعل لكل دار أحكامًا تختص بها، وركب هذا الإنسان من بدن ونفس، وجعل أحكام دار الدنيا على الأبدان، والأرواح تبعًا لها، لهذا جعل أحكامه الشرعية مرتبة على ما يظهر من حركات اللسان والجوارح؛ وإن أضمرت النفوس خلافه، وجعل أحكام البرزخ على الأرواح، والأبدان تبعًا لها؛ فكما تبعت الأرواح الأبدان في أحكام الدنيا؛ فتألمت بألمها والتذت براحتها، وكانت هي التي باشرت أسباب النعيم والعذاب، تبعت الأبدان الأرواح في نعيمها وعذابها، والأرواح حينئذ هي التي تباشر العذاب
(1) مجموع الفتاوى: (4/ 230).
(2)
عزاه ابن كثير إلى السهلي، انظر: تفسير القرآن العظيم، لابن كثير:(3/ 85).
والنعيم، فالأبدان هنا ظاهرة، والأرواح خفية، والأبدان كالقبور لها، والارواح هناك ظاهرة، والأبدان خفية في قبورها تجرى أحكام البرزخ على الأرواح، فتسرى إلى أبدانها نعيمًا أو عذابًا؛ كما تجرى أحكام الدنيا على الأبدان، فتسرى إلى أرواحها نعيمًا أو عذابًا"
فالصاوى هنا يوافق القول الراجح في المسألة، وقد ضرب لذلك الاتصال الغيبى مثالًا باتصال مشاهد حسى، "فقد أرانا الله سبحانه بلطفه ورحمته وهدايته من ذلك أنموذجًا في الدنيا من حال النائم؛ فإن ما ينعم به أو يعذب في نومه يجرى على روحه أصلًا والبدن تبع له، وقد يقوى حتى يؤثر الروح على البدن تأثيرًا مشاهدًا؛ فيرى النائم في نومه أنه ضرب؛ فيصبح وأثر الضرب في جسمه، ويرى أنه قد أكل أو شرب؛ فيستيقظ وهو يجد أثر الطعام والشراب في فيه، ويذهب عنه الجوع والظمأ.
وأعجب من ذلك أنك ترى النائم يقوم في نومه ويضرب ويبطش ويدافع كأنه يقظان وهو نائم لا شعور له بشيء من ذلك، وذلك أن الحكم لما جرى على الروح استعانت بالبدن من خارجه، ولو دخلت فيه لاستيقظ وأحس؛ فإذا كانت الروح تتألم وتتنعم ويصل ذلك إلى بدنها بطريق الاستتباع، فهكذا في البرزخ بل أعظم فإن تجرد الروح هنالك أكمل وأقوى، وهى متعلقة ببدنها لم تنقطع عنه كل الانقطاع". (1)
ومع ذلك فقد وقع الصاوي في خطأ جسيم؛ حين مثل لتلك العلاقة أيضًا بحال الولى الذي يكون في مكان فتجوب روحه في الكون تصريفًا وتدبيرًا، فإن هذا محض وهم لا حقيقة له أفرزه غلو المتصوفة في مشايخهم، وهو أساس انحرافهم في مقتضيات الولاية، حيث بنوا على مثل هذه الأوهام صرف أنواع من العبادة التي لا تجوز إلا لله تعالى كالتوسل والدعاء والملاحظة، وقد أسلفت الحديث في مبحث التوحيد، وللأهمية هنا؛ فإنه يحسن التأكيد على ما سبق من أن اعتقاد التصريف لغير الله تعالى فيه قدح في الإيمان بربوبية الله تعالى، فالله عز وجل وحده الذي يدبر أمر العباد ويصرف شؤونهم لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه فهو الرب القيوم،
(1) الروح: 63 - 64.
"القيوم بنفسه القيم لغيره؛ فجميع الموجودات مفتقرة إليه وهو غنى عنها ولا قوام لها إلا به ولا قوام لها بدون أمره، كما قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِه} وهو القائم على كل شيء والقائم بجميع أمور عباده والقائم على كل نفس بما كسبت"(1).
ولو اعترض على هذا بأنه قد أرجع تصريفهم لأمر الله تعالى وإذنه، فحينها يطالب بالدليل على هذا الأذن، ومن أين له أن الله تعالى أوكل تصريف بعض شؤون العباد لبعضهم من الأولياء في حالة يعلم بالضرورة أنه من غير المقدور الكونى للبشر أن يكون لهم أثر في حقيقة الأمر، ولا شك أن هذه الأوهام مماثلة لأوهام المشركين من قبل في آلهتهم التي اعتقدوا أنها تنفع وتضر فتشفع بما لها من منزلة أعطاها الله إياها.
فيقال هنا أن كل أمر لم يثبت في نفعه أو ضره أو تصريفه كما ذكر الصاوي هنا سبب كونى أو شرعى يعد اعتقاد نفعه وضره واتخاذه سببًا شركًا بالله تعالى، يقول الشيخ العثيمين رحمه الله في قوله تعالى:{قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ} : "الشاهد من هذه الآية: أن هذه الأصنام لا تنفع أصحابها لا بجلب نفع ولا بدفع ضر، فليست أسبابًا لذلك، فيقاس عليها كل ما ليس بسبب شرعى أو قدرى، فيعتبر اتخاذه سببًا إشراكًا بالله". (2).
* * *
ثانيًا: مستقر الروح:
لقد فصل الصاوي القول في هذه القضية بما لا مزيد عليه، ولكن كان ينقصه الاستدلال الكافي بما ورد من الأحاديث الشريفة في هذا الباب، ومع وجود بعض الملاحظات على ما ذكر كان يظهر فيها تأثره بنزعته الصوفية، التي كانت تخرج به في بعض الأحيان عن حد الاعتدال.
(1) معارج القبول: (1/ 208).
(2)
القول المفيد: (1/ 166).
أما عن مستقر أرواح المؤمنين، فقد ورد في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الشهداء:(أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت ثم تأوى إلى تلك القناديل)(1).
كما ورد في الحديث الشريف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنما نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجع إلى جسده يوم يبعث)(2).
وما أخبر به من أن أرواح الكفار ببئر برهوت بحضرموت؛ فهذا ما ورد به الخبر عن عبد الله بن عمرو، حيث قال:"أرواح المؤمنين تجمع بالجابيتين، وأرواح الكفار تجمع ببرهوت: سبخة بحضرموت"(3).
والكلام في هذه الجزئية من مسائل الروح لا يخرج عن وصف مستقر روح المؤمن بالثواب والنعيم، ومستقر روح الكافر بالعذاب والجحيم، أما على جهة التفصيل فـ "الأرواح متفاوتة في مستقرها في البرزخ أعظم تفاوت، فمنها أرواح في أعلى عليين في الملأ الأعلى، وهى أرواح الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم -، وهم متفاوتون في منازلهم، كما رآهم النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء.
ومنها أرواح في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت، وهى أرواح بعض الشهداء لا جميعهم، بل من الشهداء من تحبس روحه عن دخول الجنة لدين عليه، أو غيره، كما في الحديث الشريف أن رجلًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله: مالى إن قتلت في سبيل الله؟ قال: (الجنة فلما ولى، قال: إلا الدين! سارنى به جبريل آنفًا). (4)
(1) أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الإمارة - باب بيان أن أرواح الشهداء في الجنة: (13/ 31).
(2)
سنن ابن ماجه: كتاب الزهد - باب ذكر القبر والبلى، رقم الحديث: 4271: (2/ 1428). وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه: برقم: 3446: (2/ 423).
(3)
صحيح ابن حبان: كتاب الجنائز - فصل في الموت وما يتعلق به، رقم الحديث: 3013: (7/ 283). وصححه الألباني في السلسلة، برقم: 995: (2/ 729).
(4)
أخرجه النسائي في المجتبى: كتاب الجهاد - باب من قاتل في سبيل الله تعالى وعليه دين، رقم الحديث: 3155: (6/ 33). وصححه الألباني في صحيح النسائي برقم: 2957، وقال: حسن صحيح: (2/ 663).
ومنهم من يكون محبوسًا على باب الجنة؛ كما في الحديث الآخر رأيت صاحبكم محبوسًا على باب الجنة.
ومنهم من يكون محبوسًا في قبره، كحديث صاحب الشملة التي غلها ثم استشهد، فقال الناس: هنيئًا له الجنة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفسى بيده إن الشملة التي غلها لتشتعل عليه نارًا في قبره. (1)
والنفس التي لم تكتسب في الدنيا معرفة ربها ومحبته وذكره والأنس به والتقرب إليه، بل هي أرضية سفلية، لا تكون بعد المفارقة لبدنها إلا هناك" (2)
* * *
الموت:
لقد تناول الصاوي في تحريره للمسائل المتعلقة بالموت مسألتين هما:
الأولى: حقيقة الموت:
فالكلام عن حقيقة الموت مما كثر الحديث فيه. والصحيح فيه كما ذكر الصاوي أنه أمر وجودى لدلالة الحديث الصحيح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح، فينادى منادٍ: يا أهل الجنة، فيشرئبون وينظرون، فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت، وكلهم قد رآه. ثم ينادى: يا أهل النار، فيشرئبون وينظرون، فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت، وكلهم قد رآه، فيذبح. ثم يقول: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت. ثم قرأ: وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضى الأمر وهم في غفلة - وهؤلاء في غفلة أهل الدنيا - وهم لا يؤمنون)(3).
ولا يمنع من كونه عرضًا كما عرفه الصاوي متابعة لأسلافه من المتكلمين أن
(1) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب المغازي - باب غزوة خيبر، رقم الحديث:4234.
(2)
الروح: لابن القيم: 115.
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب التفسير - باب وأنذرهم يوم الحسرة، رقم الحديث:4730.
يصير له وجودًا مجسدًا يوم القيامة (1)، كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن البقرة، وآل عمران يجيئان يوم القيامة كأنهما غمامتان". (2)
وشيخ الإسلام رحمه الله عند عرضه لحقيقة العلاقة بين الموت والحياة لم يرجح أحد القولين على الآخر؛ في كون الموت وجوديًا، أو عدميًا، واكتفى بإثبات أنه مقابل للحياة، حيث أرجع النزاع الوارد إلى نوع من النزاع اللفظي الذي لا ثمرة له حقيقية، وذلك لأنه يمكن القول بأن الموت أمر وجودى لتعلق صفة الخلق به، ويمكن أن يكون أمرًا عدميًا فيكون خلقه بمعنى خلق الأعراض المضادة للحياة، يقول: "فإنا نعلم بالحس أن الحركة أمر وجودى، كما نعلم أن الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر أمر وجودى، وأما كون ما يقابل ذلك هو ضد ما ينافيها أو عدمها من محلها فهذا فيه نظر، ولهذا تنازع العقلاء في هذا دون الأول، وكثير من النزاع في ذلك يكون لفظيًا، فإنه قد يكون عدم الشيء مستلزمًا لأمر وجودى، مثل الحياة مثلًا، فإن عدم حياة البدن مثلًا مستلزمًا لأعراض وجودية.
والناس تنازعوا في الموت: هل هو عدمى أو وجودى؟ ومن قال: إنه وجودى، احتج بقوله تعالى:{خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} [الملك: 2] فاخبر أنه خلق الموت، كما خلق الحياة، ومنازعه يقول: العدم الطارئ يخلق كما يخلق الوجود، أو يقول: الموت المخلوق هو الأمور الوجودية اللازمة لعدم الحياة، وحينئذ فالنزاع لفظي" (3)
* * *
الثانية: حكم الموت:
فقد أفاد تقريره بوجوب الإيمان بالموت أنه لا يستثنى من عمومه أحد، حتى
(1) انظر: شرح الحديث السابق لابن حجر في فتح الباري: (11/ 421).
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب صلاة المسافرين وقصرها - باب فضل قراءة القرآن وسورة البقرة: (6/ 90).
(3)
درء التعارض: (1/ 411).
الأنبياء والمرسلين، ولكنه عند حكايته لقصة موسى مع الخضر عليهما السلام خالف ما ذهب إليه آنفًا، وحكى إجماع الجمهور على بقاء الخضر حيًا، بل واجتماع الأولياء معه، وقد اعتمد في سبب خلوده أنه شرب من ماء الحياة، والصحيح في هذه المسألة أنه لم يثبت في شربه خبرًا صحيحًا يسلم له (1).
أما عن اجتماعه بالأولياء فهذا من ترهات الصوفية، وقد سئل شيخ الإسلام رحمه الله عن ذلك فقال لا يبعد أن يكون شيطانًا، وسيأتي بيانه.
وعليه فلا حجة للقائلين ببقائه، بل هناك نصوص كثيرة تناقض ما ذهبوا إليه، منها ما أورده البخاري في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال:(أرأيتكم ليلتكم هذه، فإن رأس مائة، لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد)(2)
وعند شرح الحافظ ابن حجر رحمه الله للحديث، أورد كلام من احتج به، وشبهة المخالف لذلك، حيث قال:"قال النووي وغيره: احتج البخاري ومن قال بقوله بهذا الحديث على موت الخضر، والجمهور على خلافه، وأجابوا عنه بأن الخضر كان حينئذ من ساكنى البحر، فلم يدخل في الحديث"(3)
وهذه الشبهة التي يستند إليها من ذهب إلى بقائه لا أصل لها من عقل ولا نقل، إذ البحر كما هو معلوم لا يخرج عن كونه فوق ظهر الأرض لذا فإن "الذي عليه أهل التحقيق أن الخضر قد مات قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، لأدلة كثيرة معروفة في محلها، ولو كان حيًا في حياة نبينا لدخل في هذا الحديث، وكان ممن أتى عليه الموت قبل رأس المائة"(4)
وهذا ما ذهب إليه شيخ الإسلام رحمه الله حيث قال: "الذي عليه أكثر الناس أن جميع الخلق يموتون حتى الملائكة وحتى عزرائيل ملك الموت"(5)
(1) انظر: ما أورده الحافظ ابن حجر، وعزاه إلى خيثمة بن سليمان من طريق جعفر الصادق عن أبيه، وقد عرف بانقطاعه:(6/ 434).
(2)
أخرجه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة - باب السمر في الفقه والخير بعد العشاء، رقم الحديث:601.
(3)
فتح الباري: (2/ 75).
(4)
المرجع السابق: تعليق الشيخ عبد العزيز بن باز على الحديث في فتح الباري.
(5)
مجموع الفتاوى (4/ 259). وانظر: الجواب الصحيح: (2/ 335). وانظر: منهاج السنة: (4/ 64).
أما عن اجتماع الخضر بالأولياء؛ فهذا مما لا شيء يسنده سوى ترهات الصوفية، وإن كان مما اشتهر عنه الحديث بين العوام وكثير من العباد، (1) وقد قال الإمام أحمد رحمه الله حين سئل: عن تعمير الخضر وإلياس وأنهما باقيان يريان ويروى عنهما: من أحال على غائب لم ينصف منه، وما ألقى هذا إلا شيطان" (2)
وهذا ما رده أيضًا ابن حزم رحمه الله وبين مخالفته للثابت من نصوص الكتاب والسنة، يقول:"وسلك هذا السبيل بعض الصوفية فزعموا أن الخضر وإلياس عليهما السلام حيان إلى اليوم، وادعى بعضهم أنه يلقى إلياس في الفلوات والخضر في المروج والرياض، وأنه متى ذكر حضر على ذكراه".
قال أبو محمد: فإن ذكر في شرق الأرض وغربها وشمالها وجنوبها وفي ألف موضع في دقيقة واحدة كيف يصنع؟
ولقد لقينا من يذهب إلى هذا خلقًا وكلمناهم منهم المعروف بابن شق الليل المحدث بطلبيره، وهو مع ذلك من أهل العناية وسعة الرواية، ومنهم محمد بن عبد الله الكاتب، وأخبرني أنه جالس الخضر وكلمه مرارًا، أو غيره كثير.
هذا مع سماعهم قول الله تعالى: {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40].
وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا نبى بعدى)(3) فكيف يستجيزه مسلم أن يثبت بعده عليه السلام نبيًا في الأرض حاشا ما استثناه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الآثار المسندة الثابتة في نزول عيسى بن مريم عليه السلام في آخر الزمان (4).
(1) انظر: ما رواه اللالكائي في كرامات الأولياء، حيث ذكر في:"سياق ما روى في كرامات أبي حفص عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه رؤيته للخضر عليه السلام، يقول: عن رياح بن عبيدة قال: رأيت رجلًا ماشى عمر بن عبد العزيز معتمدًا على يديه فقلت في نفسي: إن هذا الرجل جافٍ قال: فلما انصرف من الصلاة قلت: من الرجل الذي كان معتمدًا على يدك آنفًا قال: فهل رأيته يا رياح قلت: نعم قال: ما أحسبك إلا رجلًا صالحًا ذاك أخى الخضر بشرني أنى سألى وأعدل": 168 - 169.
(2)
مجموع الفتاوى: (4/ 337).
(3)
أخرجه البخاري: كتاب الأنبياء - باب ما ذكر عن بني إسرائيل، رقم الحديث:3268.
(4)
الفصل في الملل: (4/ 138).