المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌تعليق: إن ما انتهجه الأشاعرة في الاستدلال للمعاد؛ ليعد من المناهج - آراء الصاوي في العقيدة والسلوك

[أسماء بنت محمد توفيق بركات ملا حسين]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الباب الأول: حياة الشيخ الصاوى

- ‌الفصل الأول: عصر الصاوي

- ‌(المبحث الأول): الحالة السياسية

- ‌الاضطرابات والقلاقل السياسية:

- ‌ مذبحة المماليك بالقلعة سنة 1811 م:

- ‌محاربة الدعوة السلفية:

- ‌ القضاء على الزعامة الشعبية والدينية بنفى عمر مكرم:

- ‌(المبحث الثاني): الحالة الاجتماعية

- ‌(المبحث الثالث): الحالة العلمية والدينية

- ‌الفصل الثاني: حياة الصاوى

- ‌(المبحث الأول): سيرته الذاتية

- ‌1 - اسمه ونشأته:

- ‌2 - صفاته وأخلاقه

- ‌3 -‌‌ شيوخهوتلاميذه

- ‌ شيوخه

- ‌تلاميذه:

- ‌(المبحث الثاني): مكانته العلمية ومؤلفاته

- ‌مكانتها العلمية:

- ‌الحواشى العقدية:

- ‌الفصل الثالث: منهجه في تحري مسائل الاعتقاد

- ‌(المبحث الأول): مصادره في العقيدة

- ‌أولًا: مكانة العقل في التلقى:

- ‌ثانيًا: حجية الإلهام:

- ‌المناقشة:

- ‌أولًا: مصادر التلقى:

- ‌ثانيًا: نقض دعاويهم في تقديم العقل:

- ‌ثالثًا: التناقض لازم لهذا المسلك:

- ‌رابعًا: حجية الإلهام:

- ‌(المبحث الثاني): منهجه في الاستدلال

- ‌أولًا: الاستدلال بقياس الغائب على الشاهد:

- ‌مناقشة:

- ‌ثانيًا: الاستدلال بالسبر والتقسيم:

- ‌ثالثًا: الاستدلال بالقياس المنطقي:

- ‌المناقشة:

- ‌ثالثًا: منهجه في الاستدلال بالقرآن والسنة:

- ‌أولًا: الاستدلال بالنص:

- ‌ثانيًا: الاستدلال بالظاهر:

- ‌المناقشة:

- ‌مسلك التأويل والتفويض:

- ‌ أولًا المراد بالمتشابه:

- ‌ ثانيًا: المراد بالتأويل:

- ‌الباب الثاني: (آراؤه في العقيدة)

- ‌الفصل الأول: (آراؤه في معرفة الله والاستدلال على وجوده)

- ‌(المبحث الأول): معرفة الله تعالى

- ‌(تمهيد)

- ‌طرق المعرفة

- ‌رأى الشيخ الصاوى:

- ‌المناقشة:

- ‌التقليد وحكم المقلد

- ‌رأى الشيخ الصاوى:

- ‌المناقشة:

- ‌(المبحث الثاني): الاستدلال على وجود الله تعالى

- ‌ دليل حدوث الأجسام

- ‌رأي الشيخ الصاوي:

- ‌المناقشة:

- ‌دليل الإمكان

- ‌رأي الشيخ الصاوي:

- ‌المناقشة:

- ‌الفصل الثاني: (آراؤه في التوحيد)

- ‌تمهيد

- ‌(المبحث الأول): تعريف التوحيد

- ‌رأي الشيخ الصاوي:

- ‌المناقشة:

- ‌(المبحث الثاني): دليل التوحيد

- ‌رأي الشيخ الصاوى:

- ‌المناقشة:

- ‌(المبحث الثالث): شهادة التوحيد ونواقضها

- ‌رأى الشيخ الصاوى:

- ‌المناقشة:

- ‌الفصل الثالث: (آراؤه في الأسماء والصفات)

- ‌تمهيد

- ‌(المبحث الأول): المسائل المتعلقة بالأسماء الحسنى

- ‌أسماء الله تعالى كلها حسنى:

- ‌أسماء الله تعالى توقيفية:

- ‌أسماء الله تعالى غير محصورة بعدد:

- ‌ أسماء الله تعالى غير مخلوقة:

- ‌رأى الشيخ الصاوي:

- ‌المناقشة:

- ‌(المبحث الثاني): المسائل المتعلقة بصفات الله تعالى

- ‌أولًا: الصفات السلبية

- ‌ثانيًا: صفات المعاني

- ‌ثالثًا: الصفة النفسية

- ‌رابعًا: الصفات المعنوية

- ‌خامسًا: موقفه من الصفات الأخرى

- ‌ أولًا: صفة الرحمة والغضب والمحبة:

- ‌ ثانيًا الصفات الخبرية الذاتية:

- ‌الفصل الرابع: آراؤه في الإيمان

- ‌تمهيد

- ‌(المبحث الأول): حقيقة الإيمان

- ‌رأى الشيخ الصاوي:

- ‌المناقشة:

- ‌(المبحث الثاني): العلاقة بين الإسلام والإيمان

- ‌رأي الشيخ الصاوي:

- ‌المناقشة:

- ‌(المبحث الثالث): الأسماء والأحكام

- ‌أولًا: حقيقة الإيمان، وبيان ما يناقضه:

- ‌ثانيًا: تحقيق الوعد مع وجود مسببه من الإيمان:

- ‌ثالثًا: تحقق الوعيد مع وجود المقتضى من الكفر:

- ‌رابعًا: موانع إنفاذ الوعيد لأصحاب الكبائر من المسلمين:

- ‌خامسًا: الرد على شبه الوعيدية:

- ‌سادسًا: موقفه من مخالفيه (دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله:

- ‌الفصل الخامس: (آراؤه في الإيمان بالملائكة)

- ‌(المبحث الأول): الإيمان بالملائكة الأطهار

- ‌(المبحث الثاني) عالم الجن والشياطين

- ‌الفصل السادس: آراؤه في الإيمان بالكتب

- ‌تمهيد

- ‌(المبحث الأول): تعريف الوحي

- ‌رأي الشيخ الصاوي:

- ‌تعليق:

- ‌(المبحث الثاني): الإيمان بالكتب السابقة

- ‌رأي الشيخ الصاوي:

- ‌كلامه في التوراة:

- ‌كلامه في الإنجيل:

- ‌كلامه في الزبور:

- ‌مناقشة:

- ‌(المبحث الثالث): الإيمان بالقرآن الكريم

- ‌رأي الشيخ الصاوي:

- ‌المناقشة:

- ‌الفصل السابع: آراؤه في الإيمان بالنبوات

- ‌تمهيد

- ‌(المبحث الأول): مفهوم النبوة والرسالة

- ‌رأي الشيخ الصاوي:

- ‌تعليق:

- ‌(المبحث الثاني): الإيمان بالرسل والأنبياء

- ‌رأي الشيخ الصاوي:

- ‌التعليق:

- ‌أولًا: المفاضلة بين البشر والملائكة:

- ‌ثانيًا: عصمة الأنبياء:

- ‌ثالثًا: ما يتعلق بالأحوال البشرية:

- ‌(المبحث الثالث): خاتم الأنبياء عموم رسالته

- ‌رأي الشيخ الصاوي:

- ‌أسماؤه الشريفة:

- ‌مكانته بين الرسل:

- ‌خصائصه صلى الله عليه وسلم

- ‌مظاهر الغلو فيه صلى الله عليه وسلم

- ‌المناقشة:

- ‌أولًا: أسماؤه الشريفة:

- ‌ثانيًا: قضية التفضيل:

- ‌ثالثًا: الغلو فيه صلى الله عليه وسلم

- ‌(المبحث الرابع): دلائل النبوة

- ‌رأي الشيخ الصاوي:

- ‌تعليق:

- ‌الفصل الثامن: (آراؤه في الإيمان باليوم الآخر)

- ‌تمهيد

- ‌(المبحث الأول): تعريف اليوم الآخر، وأدلته

- ‌رأي الشيخ الصاوي:

- ‌تعليق:

- ‌(المبحث الثاني): الإيمان بأشراط الساعة

- ‌رأي الشيخ الصاوي:

- ‌تعليق:

- ‌(المبحث الثالث): الموت، وحياة البرزخ

- ‌الروح والموت

- ‌حياة البرزخ

- ‌(المبحث الرابع): حقائق يوم القيامة

- ‌ المحشر وعرضات يوم القيامة

- ‌الجنة والنار

- ‌الفصل التاسع: (آراؤه في الإيمان بالقضاء والقدر)

- ‌(المبحث الأول): القضاء والقدر (تعريفه ومراتبه)

- ‌رأي الشيخ الصاوي:

- ‌أولًا: تعريف القدر:

- ‌ثانيًا: تعريف القضاء:

- ‌ثالثًا: مراتب القدر:

- ‌مرتبة العلم:

- ‌مرتبة الكتابة:

- ‌مرتبة المشيئة:

- ‌مرتبة الخلق:

- ‌المناقشة:

- ‌(المبحث الثاني): الحكمة والتعليل في أفعال الله تعالى

- ‌رأي الشيخ الصاوي:

- ‌موقفه من الظلم:

- ‌المناقشة:

- ‌حقيقة الظلم:

- ‌(المبحث الثالث): أفعال العباد

- ‌أدلة القدرية والجبرية:

- ‌رأي الشيخ الصاوي:

- ‌أولًا: أفعال العباد وحقيقتها القدرية:

- ‌ثانيًا: الأسباب، وموقف الناس منها:

- ‌ثالثًا: أدلة رجح بها مذهب الأشعري، ورد بها على مخالفيه:

- ‌الأدلة السمعية:

- ‌الأدلة العقلية:

- ‌رابعًا: حقيقة القدر في الفكر الصوفي:

- ‌المناقشة:

- ‌ نظرية الكسب في الفكر الأشعري

- ‌الفصل العاشر: آراؤه في الصحابة والإمامة

- ‌تمهيد

- ‌(المبحث الأول): الصحابة الكرام

- ‌أولًا: تعريف الصحابة:

- ‌ثانيًا: فضائل الصحابة:

- ‌ثالثًا الدفاع عن الصحابة:

- ‌التعليق:

- ‌ تعريف الصحابة:

- ‌فضل الصحابة:

- ‌الدفاع عن الصحابة:

- ‌(المبحث الثاني): الإمامة

- ‌تعليق:

- ‌أولًا: حكم تنصيب الوالي:

- ‌ثانيًا: ما تنعقد به البيعة:

- ‌صفات الوالي:

- ‌تعدد الولاة:

- ‌حق الإمام:

- ‌الباب الثالث: (آراؤه في باب السلوك)

- ‌الفصل الأول: (التصوف وآدابه)

- ‌تمهيد

- ‌(المبحث الأول): مفهوم التصوف

- ‌(المبحث الثاني): آداب التصوف

- ‌رأي الشيخ الصاوي:

- ‌أهمية اختيار الشيخ:

- ‌صفات الشيخ:

- ‌آداب السلوك:

- ‌أولًا: ما يتعلق بآداب اختيار العلم:

- ‌ثانيًا: الآداب المتعلقة بحق الشيخ:

- ‌الآداب المتعلقة بجماعة الطلاب:

- ‌المناقشة:

- ‌أولًا: مكانة علم التصوف بين العلوم:

- ‌ثانيًا: صفات الشيخ:

- ‌آداب التلقي:

- ‌احترازات في التلقي:

- ‌أولًا: طاعة الشيخ:

- ‌ثانيًا: التبرك بالشيخ:

- ‌ثالثًا: ملاحظة الشيخ:

- ‌رابعًا: الاستغناء بالشيخ:

- ‌الفصل الثاني: (المقامات والأحوال)

- ‌تمهيد

- ‌تعريف المقام:

- ‌تعريف الحال:

- ‌(المبحث الأول): أقسام المقامات (عند الصوفية)

- ‌الفناء والبقاء:

- ‌الجمع والفرق:

- ‌أحكام البقاء:

- ‌مقام الجمع:

- ‌مقام الفرق:

- ‌(المبحث الثاني): منهج الصوفية في التأصيل للمقامات

- ‌رأي الشيخ الصاوي:

- ‌المناقشة:

- ‌(المبحث الثالث): وحدة الوجود ووحدة الشهود

- ‌أولًا: وحدة الوجود:

- ‌ثانيًا: وحدة الشهود:

- ‌المناقشة:

- ‌أولًا: نقض وحدة الوجود:

- ‌موقف الصاوي:

- ‌ثانيًا: حقيقة وحدة الشهود:

- ‌(المبحث الرابع): الترقي في المقامات

- ‌رأي الشيخ الصاوي:

- ‌أولًا: عقبات الترقي:

- ‌ثانيًا: طريق الخلاص:

- ‌المناقشة:

- ‌الفصل الثالث: (الولاية والكرامة)

- ‌تمهيد

- ‌(المبحث الأول): حقيقة الولاية

- ‌ تعريف الولاية:

- ‌ حقيقة الولي

- ‌رأي الشيخ الصاوي:

- ‌صفات الولي:

- ‌شرط الولاية:

- ‌الفرق بين الولي والدعي:

- ‌جزاء الأولياء:

- ‌طرق الولاية:

- ‌فضائل الأولياء:

- ‌زمن الولاية:

- ‌المناقشة:

- ‌حقيقة الولاية:

- ‌ معرفة الولي:

- ‌طرق الولاية:

- ‌فضائل الأولياء:

- ‌مدة الولاية:

- ‌المبحث الثاني: حقيقة الكرامة

- ‌رأي الشيخ الصاوي:

- ‌المناقشة:

- ‌الخاتمة

- ‌المصادر والمراجع

الفصل: ‌ ‌تعليق: إن ما انتهجه الأشاعرة في الاستدلال للمعاد؛ ليعد من المناهج

‌تعليق:

إن ما انتهجه الأشاعرة في الاستدلال للمعاد؛ ليعد من المناهج غير البرهانية، وبالتالى فكل ما يتوصل إليه من نتائج، فإنه لا يحمل طابع الحجية المقنعة.

وذلك لأن الاستدلال بالإمكان الذهنى، حقيقته أن الذهن لا يمنع حصول ما يراه ممكنًا؛ فتصبح الحقيقة المبنية عليه مجرد توقعات ذاتية لا مستند لها من أرض الواقع، وهذا ما نقضه عليهم شيخ الإسلام رحمه الله، يقول: إن "الإمكان الذهنى حقيقته عدم العلم بالامتناع، وعدم العلم بالامتناع لا يستلزم العلم بالإمكان الخارجى، بل يبقى الشيء في الذهن غير معلوم الامتناع، ولا معلوم الإمكان الخارجى"(1)

وحاصل ما ذكر أن الأمر يصبح مجرد دعوى، تفتقر إلى دليل يعضد ما يقوم بالذهن من احتمالات، لا يجد ما يدفع إمكان وجودها، ومن هذه الحيثية فإن هذا المسلك يفقد طابع البرهانية؛ ويبقى في جملة الدعاوى التقريرية، التي يضعف الاستدلال بها، ولو توقفوا عن القول به وتابعوا الصاوي في حصر حجيته بطريق النقل والإجماع لكان أفضل.

ومع ذلك فإن في غياب هذا الأصل - وهو إثبات حجية البعث بالمسلك العقلى - مخالفة لصريح ما أنزل الله تعالى في كتابه، فقد أتى به التصريح في كثير من الآيات الكريمة على إمكان الاستدلال للمعاد استدلالًا ذهنيًا برهانيًا؛ يستند في حجيته إلى القياس، بحيث يخرج الاستدلال له عن دائرة الإمكان الذهنى إلى دائرة الإمكان الخارجى، والذي يجعل من الوقائع المشاهدة على أرض الواقع مسلكًا يصل منها إلى إمكان حصوله مرة أخرى.

وكل ما ذكره الصاوي من طرق في الاستنباط العقلى؛ لا تخرج في حقيقتها عن مسلك القياس المذكور أعلاه، وعند تحقيق الأمر في هذه المهمة نجد أن طرق القياس

(1) الفتاوى: (3/ 298).

ص: 478

التي دار حولها حديث القرآن الكريم لإثبات قضية المعاد، لا تخرج عن أحد مسلكين اثنين: هما قياس الشاهد على الغائب، وقياس الأولى.

- أما قياس الأولى؛ فقد ورد الاستدلال به كثيرًا في كتاب الله تعالى، وهو كما قال الصاوي: خطاب للفطرة بما استقر فيها أن من قدر على إيجاد الشيء ابتداءً؛ قدر على إعادته من باب أولى، فحقيقة المعاد إعادة للخلق الأول الذي كانت نسبة إيجاده للبارى تعالى من الحقائق الفطرية التي يعدم الشك إليها سبيلًا، مع سلامة الفطرة وبعدها عن شبهات الهوى، وهذا مصداق قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ. . .} .

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله في الاستدلال بهذه الآية على ما سبق بيانه: "فلستم ترتابون في أنكم مخلوقون، ولستم ترتابون في مبدأ خلقكم من حال إلى حال إلى حين الموت والبعث، الذي وعدتم به نظير النشأة الأولى، فهما نظيران في الإمكان والوقوع؛ فإعادتكم بعد الموت خلقًا جديدًا، كالنشأة الأولى التي لا ترتابون فيها، فكيف تنكرون إحدى النشأتين مع مشاهدتكم لنظيرها"(1).

وكذلك قوله تعالى ردًا على منكرى البعث: {وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا} [الإسراء: 49 - 51].

وكان استفسارهم عن موعد البعث بعد إقامة الحجة عليهم في إمكان وجوده؛ دليلًا على إقرارهم بإمكانه، وإن لم يصرحوا بذلك؛ نتيجة لما أعمل في قلوبهم من أدواء الكبر والبغى بغير الحق، وإنما أعرضوا عن الإذعان لهذه الحقيقة، كما أعرضوا عن الإيمان بصدق المصطفى عليه الصلاة والسلام مع كونهم قد أطبقوا على أحقية ذلك في قرارة أنفسهم.

(1) إعلام الموقعين، لابن القيم، (1/ 140).

ص: 479

ومن هنا تتجلى واحدة من أهم أسباب الجمع بين ذكر الإيمان بالله تعالى والإيمان باليوم الآخر في كثير من آيات الكتاب العزيز؛ فإن حقيقة التكذيب باليوم الآخر تكذيب بربوبية الله تعالى، وقدح في كمال قدرته، وتمام عدله في تصرفه، وقد جاء هذا المعنى في الحديث القدسى:(كذبنى ابن آدم ولم يكن له ذلك وشتمنى ولم يكن له ذلك، أما تكذيبه إياى فقوله: لن يعيدنى كما بدأنى، وليس أول الخلق بأهون على من إعادته. وأما شتمه إياى فقوله: اتخذ الله ولدًا، وأنا الأحد الصمد، لم ألد ولم أولد، ولم يكن لي كفوًا أحد). (1)

وكانت هذه الحقيقة وهى فطرية الإيمان بربوبية الله تعالى، وتسليمهم لها في قرارة أنفسهم؛ مستند الاحتجاج عليهم في إنكارهم مبدأ البعث، ومن ذلك قوله تعالى:{فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الواقعة: 86، 87].

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله موضحًا المراد من هذا التحدى وانهزامهم السافر في المقابل، كل ذلك من أجل إقامة الحجة عليهم بوجود البعث والجزاء: "أي هلا تردون الروح إلى مكانها إن كنتم غير مدبورين ولا مقهورين ولا مجزيين، وهذه الآية تحتاج إلى تفسير؛ فإنها سيقت للاحتجاج عليهم في إنكارهم البعث والحساب، ووجه الاستدلال أنهم إذا أنكروا البعث والجزاء؛ فقد كفروا بربهم وأنكروا قدرته وربوبيته وحكمته، فإما أن يقروا بأن لهم ربًا قاهرًا متصرفًا فيهم، يميتهم إذا شاء، ويحييهم إذا شاء، ويأمرهم وينهاهم، ويثيب محسنهم، ويعاقب مسيئهم، وإما ألَّا يقروا برب هذا شأنه، فإن أقروا آمنوا بالبعث والنشور، والدين الأمرى والجزائى، وإن أنكروه وكفروا فقد زعموا أنهم غير مربوبين، ولا محكوم عليه، ولا لهم رب يتصرف فيهم كما أراد، . . . . .، وهذه غاية التعجيز لهم؛ إذا تبين عجزهم عن رد نفس واحدة إلى مكانها ولو اجتمع على ذلك الثقلان، فيالها من آية دالة على وحدانيته وربوبيته سبحانه، وتصرفه في عباده، ونفوذ أحكامه

(1) أخرجه البخاري في: كتاب التفسير - باب قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، رقم الحديث:4974.

ص: 480

فيهم، وجريانها عليهم، والدين دينان؛ دين شرعى أمرى، ودين حسابى جزائى، وكلاهما لله وحده" (1)

وكان من جملة مسالك قياس الأولى: الاستدلال بخلق السموات والأرض على إمكان البعث، ومستند هذه الدلالة كما تقدم هو الاستدلال على العظيم الممكن بوجود ما هو أعظم منه؛ مع تحقق وجوده على أرض الواقع، وهذا الاستدلال كما ذكر الصاوي استدلال بعين قدرة الباري تعالى، والتى ينسب إليها الإبداع؛ فإذا دخل ما هو أعظم مما يجحده الكافرون في إمكانها مع إقرارهم بذلك؛ فمن باب أولى أن تدخل إعادتهم يوم البعث في مقدورها، مع وجود المقتضى لذلك من إحقاق الجزاء العادل الذي توجبه حكمة المولى تعالى، وانتفاء الموانع لتمام قدرة الرب تبارك وتعالى كما تقدم.

ومما ورد في ذلك، قوله تعالى:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا} [الإسراء: 99].

وكذلك قوله تعالى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} [يس: 81]

وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأحقاف: 33].

يقول شيخ الإسلام مبينًا أهمية هذا المسلك لتحقق البعث: "فإنه من المعلوم ببداهة العقول أن خلق السموات والأرض أعظم من خلق أمثال بنى آدم والقدرة عليه أبلغ، وأن هذا الأيسر أولى بالإمكان والقدرة من ذلك"(2).

- أما قياس الغائب على الشاهد في الاستدلال على البعث فهو على ضربين:

(1) الجواب الكافى، لابن القيم:(1/ 146).

(2)

مجموع الفتاوى: (3/ 299).

ص: 481

إما بقياس ما غاب عنا من البعث العام على المشاهد من البعث الخاص، فهو استدلال بحصول المثيل المشاهد على حصول مثيله الغائب.

وإما استدلال بما غاب عنا من البعث على المشاهد في حصول نظيره.

وكلا هذين الضربين ورد الاستدلال بهما في كتاب الله العزيز في عدد من المواضع.

وترجح حجية هذا الضرب من القياس في الاستدلال للبعث؛ لوجود القاسم المشترك، وهو ما يسمى بجامع الحقيقة عند المتكلمين (1) والذي أرشد إليه ابن رشد وأوقف عليه حجية الاستدلال بهذا الضرب من القياس:"التيقن باستواء طبيعة الشاهد والغائب"(2)

فإن حقيقة ما غاب عنا من بعث الأجساد يتفق في طبيعته مع ما يشاهد من بدء الخلق، أو ما يماثله مما وقع للأمم قبلنا، أو نظيره من إحياء موات الأرض بعد فنائها.

وترجع أهمية قياس ما غاب عنا من البعث بالمشاهد منه؛ إلى كونه مما يحيل العقل امتناعه بعد وجوده على أرض الواقع؛ إذ يصبح لمن شاهده أمرًا محسوسًا، القدح فيه قدح بالمسلمات الضرورية التي لا يمكن بحال الشك فيها أو ردها.

أما من غابت هذه الوقائع عنه، فيكون مستند هذه الدلالة حينئذ هو الوحى الصادق؛ حيث أخبر عنه بعثة جميع الأموات: آحاد ومتفرقين، كما يرجع إلى الخبر المقطوع به من جهة تواتر مقتضاه، فقد كانت هذه القصص مما تواتر سماعها في جهات الأرض، وكان لأهل الكتاب في هذا المضمار حكايات معروفة، يقصونها على العرب قبل البعثة؛ حتى حمل بعضهم التعنت وطلب التعجيز على سؤال النبي عليه الصلاة والسلام عن قصة أصحاب الكهف، كما هو معلوم في كتب التفسير المشهورة. (3)

(1) انظر: الإرشاد للجوينى: 154.

(2)

الكشف عن مناهج الأدلة: 109.

(3)

انظر: تفسير البغوي: (5/ 146 - 147).

ص: 482

ومن ذلك قصة الرجل الذي مر على قرية وهى خاوية على عروشها: أي خربة قد تهدمت، فلم يبق من معالمها سوى أسقف منازلها، التي عبر عنها بالعروش؛ فاستبعد حين رأى ذلك المنظر الموحى بالفناء والزوال أن تعود الحياة لها مرة أخرى، فأتته الإجابة على استبعاده بما لا يملك له ردًا، حيث توفاه الله مائة عام ثم بعثه، قال تعالى في حكاية ذلك:{أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 259].

وكان أيضًا مما ورد في الاستدلال على البعث بوقوعه في هذه الدنيا ما ورد في حكاية خبر إبراهيم عليه السلام عند سؤاله المولى عز وجل مشاهدة بعث الأموات؛ فأراه الله ذلك بأن أمره أن يقطع أربعة من الطير قطعًا متفرقة، ثم يضع كل مجموعة منها على رأس جبل، ثم يعلن نداءه لهن فيجبن لذلك النداء بأمر الباري تعالى، وكان هذا المشهد الحسى لإبراهيم عليه السلام نقلة ابتغاها من علم اليقين الذي لا شك فيه بوجه من الوجوه، إلى عين اليقين بحيث يصبح مستند الدلالة إيمانًا بالشهادة مع الإيمان بالغيب.

- أما الاستدلال على البعث بوجود نظيره فتتجلى صورته في إحياء موات الأرض بإنزال الغيث من السماء بإذن الله، فإن مقتضى إعادة الحياة إلى ما اندثرت فيه معالمها كما هو الحال في إحياء الأرض بعد موتها أن ينسحب حكم الإمكان على كل ما يماثلها من هذه الحيثية، وهذا ما دل عليه قول المولى تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فصلت: 39].

والحديث في استقصاء ما ورد في ذلك من القرآن والسنة يطول، ومستند هذه

ص: 483

الدلالة كما تقدم الإشارة إليه أن "حكم الشيء حكم نظيره، وأنه سبحانه إذا كان قادرًا على شيء؛ فكيف تعجز قدرته عن نظيره ومثله".

وورود هذا المسلك كثيرًا في الآيات الكريمة، مما يدل على "إثبات القياس في أدلة التوحيد والمعاد"(1)

والصاوى في هذا المبحث يظهر اعترافه جليًا بحكمة الباري تعالى وإرادته العدل بين العباد، كما هو واضح من خلال كلامه المنصوص عليه سابقًا وكان هذا منه بمثابة الاعتراف بصحة مذهب السلف - رضوان الله تعالى عليهم - في إثباتهم الحكمة، وأن نفيها عنه يقضى بنسبة الظلم له تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا.

ولعل هذا من جملة ما وقع فيه من تناقض؛ نتيجة لموقفه المتميز في تحرير المذهب الأشعري بالجملة.

وعلى كل فإن الارتباط بين واضح بين إرادة البعث؛ وبين إثبات حكمة المولى تعالى، التي تتجلى في إلحاق الجزاء العادل بكل المكلفين، فقد أشرت سابقًا إلى أن إرادة المولى تعالى للبعث إنما تأكدت لأن به يكون إحقاق الحق، الذي قامت به السموات والأرض، وهذا مقتضى اتصاف الباري تعالى بالكمال المطلق، ثم إن دلالة الكتاب والسنة في إثبات ذلك ظاهرة صرحت بها الآيات في عدد من المواضع، قال تعالى:{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص: 27].

هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن في تكذيب الكافرين لحقيقة البعث دلالة أخرى على هذا الارتباط؛ ذلك أن الكافرين ما أنكروا البعث حقيقة لشكهم في قدرة الباري تعالى على ذلك مع إقرارهم بأنه خالق السموات والأرض وخالق أنفسهم، وإنما كان منهم ذلك لعلمهم بالتلازم الذي بين البعث، وبين الجزاء

(1) مدارج السالكين، لابن القيم:(3/ 681) بتصرف بسيط. ولمزيد من التوسع يوصى بالرجوع إلى رسالة المعرفة في الإسلام لشيخنا الفاضل الدكتور: عبد الله القرنى، مبحث: دلالة العقل على البعث والجزاء.

ص: 484

العادل، الذي تقتضيه حكمة الباري تعالى، أو بعبارة أخرى لعلمهم بأن ذلك البعث لم يكن إلا لمجازاتهم على ما قدموه في الحياة الدنيا، وإلى هذا المعنى دل قوله تعالى آمرًا نبيه عليه الصلاة والسلام أن يتحدى اليهود على محبتهم الآخرة بتمنى الموت؛ فإنهم لما أيقنوا بالبعث ضرورة يعلمها أهل الكتب السماوية؛ علموا أنهم مجازون على أعمالهم الشريرة، والتى من أعظمها جرمًا عداء المصطفى عليه الصلاة والسلام، وتكذيبهم إياه، بل ومحاولة قتله - صلوات ربي وسلامه عليه -، فكرهوا من أجل ذلك الموت، وكانوا أحرص الناس على حياة، قال تعالى:{قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 94 - 96].

بل وأظهر من هذا دلالة ما ذكرته سابقًا، من إبطال الباري تعالى لزعم الذين كفروا، بقوله:{زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن: 7].

وكذلك قوله: {فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} .

* * *

ص: 485