الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد يأتى في موضع آخر فيميل إلى آراء أسلافه، فيقصر التوحيد على مفهومه العلمى دون العملى، وذلك في تفسير قوله تعالى:{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36]. يقول: "الخطاب للمكلفين لأن العبادة تتوقف على معرفة المعبود والنية، ولكن المراد ما يشمل القربة التي هي ما تتوقف على معرفة المتقرب إليه والطاعة التي لا تتوقف على شيء".
ويرى أن تفسير العبادة بالتوحيد، كما هو قول المحلى يجعل النهى عن الإشراك مؤكدًا للأمر السابق، وهذا خلاف الأولى، بل الأولى - عنده - أن يكون قوله:{وَلَا تُشْرِكُوا} هو الأساس وما بعده أمر بلازمه. (1)
* * *
المناقشة:
من خلال عرض أقوال الصاوى ومن قبله الأشاعرة؛ تبين أن مفهوم التوحيد - عندهم - قد داخله انحراف خطير وذلك من عدة أبواب:
الأول: اعتقاد الوحدانية في الذات، وذلك بنفى التركيب، ونفى المثيل والنظير.
- أما التركيب ففيه إجمال، حيث أرادوا به حقًا وباطلًا: فنفى تركيب الذات من أجزاء متعددة، حق لا مرية فيه؛ فالله تعالى صمد غنى عما سواه. أما إذا أرادوا به نفى ما يلزم منه التركيب - عندهم - كالصفات الخبرية مثل الوجه واليدين؛ فهذا باطل مخالف لما هو مقرر في الكتاب والسنة، وليس في إثباته ما يلزم منه التركيب كما زعموا. (2)
- وأما إثبات وحدانية الذات بنفى النظير والمثل، فهذا حق، ولكنهم غلوا في هذا الجانب حتى زعموا أن هذا هو المراد الأسمى من التوحيد، إلى أن قصروا الاستدلال على إثباته.
(1) المرجع السابق: (1/ 205).
(2)
سيأتي بأنه في الفصل التالى بإذن الله: 121.
الثاني: اعتقاد الوحدانية في الأفعال: وأرادوا به إثبات ربوبية الله تعالى ووحدانيته في التصرف، لكنهم مع ذلك أرادوا به نفى التأثير عن فعل غير الله تعالى، وهو ما يعرف بإبطال الأسباب، وقد أدخلهم هذا الاعتقاد في نطاق الجبر. (1)
الثالث: اعتقاد الوحدانية في الصفات؛ واشتمل هذا الاعتقاد على حق وباطل، حيث أرادوا به تنزيه الله تعالى عن مشابهة صفات المخلوقين؛ فوقعوا في شر مما فروا منه، حيث عطلوه عما ورد به وصفه في الكتاب والسنة.
وهذا المعنى الذي ذهبوا إليه قد ثبت بطلانه من جهات متعددة، منها مخالفته للغة العربية (2) - لغة القرآن الكريم - كباقى مصطلحات المتكلمين التي قال فيها شيخ الإسلام:"إن عامة ألفاظهم الاصطلاحية لا يريدون بها ما هو المعروف في اللغة من معناها، بل معانى اختصوا بالكلام فيها نفيًا وإثباتًا؛ ولهذا قال الإمام أحمد فيهم: "يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويلبسون على جهال الناس بما يشبهون عليهم". (3)
فعارضوا بذلك ما ورد في الكتاب والسنة، ومما يدل عليه أنه قد ورد لفظ الواحد والوحيد في كتاب الله تعالى، وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام بخلاف ما زعموا من نفى التركيب والتبعيض، فقد روى عن الإمام أحمد أنه حاج أحد المتكلمين في ذلك المعنى، حيث قال:"قد سمى الله رجلًا كافرًا اسمه الوليد بن المغيرة المخزومى، فقال: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} [المدثر: 11] وقد كان هذا الذي سماه الله وحيدًا له عينان وأذنان ولسان وشفتان ويدان ورجلان وجوارح كثيرة، فقد سماه وحيدًا بجميع صفاته، فالله - وله المثل الأعلى - هو بجميع صفاته إله واحد". (4)
(1) سيتم بحثه في باب القدر بإذن الله: 560.
(2)
جميع المعاجم اللغوية القديمة لا يوجد فيها هذا المعنى الذي ذهبوا إليه، وإنما وجد في بعض المتأخر منها كالمفردات ولسان العرب تأثرًا بآراء المتكلمين في هذا الباب.
(3)
بيان تلبيس الجهمية: (1/ 474).
(4)
الرد على الجهمية والزنادقة: 134.
ثم إن في تفسير ما ورد في القرآن من لفظ الواحد أو الأحد، وفقًا لما ذهب إليه المتكلمون؛ إثبات للتناقض في كتاب الله تعالى، ويضرب شيخ الإسلام رحمه الله مثالًا لذلك بسورة الإخلاص، التي ورد فيها نفى مكافأة أحد لله تعالى مهما كان، فلو طبق هذا المعنى الذي ذهب إليه المتكلمون على الأحد المنفى هنا في قوله:{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} ، للزم منه مكافأة جميع الأجسام لله تعالى، وهذا محال، (1) وبطلان اللازم دليل على بطلان ملزومه.
ومما يدل على بطلان هذا المعنى، قصوره - عند الصاوى ومن سبقه من المتكلمين - عن تحقيق المراد الأسمى من التوحيد: إفراد الله تعالى بالعبادة، ودلالة هذا الأصل مستمدة من الكتاب والسنة، حيث دلت نصوص القرآن الكريم على تقسيم التوحيد إلى أقسام ثلاث: توحيد الربوبية، والألوهية، والأسماء والصفات (2)، كما سبقت الإشارة إلى ذلك في بدء الحديث عن التوحيد، فمن تلك النصوص، ما يثبت ربوبية الله تعالى على خلقه، وذلك ببيان انفراده في التدبير والتصريف، ومنها ما يدعو إلى إفراد الله بالعبادة وحده لا شريك له، وهذا هو توحيد الألوهية، ومنها ما يدل على إثبات صفات الكمال لله تعالى تعظيمًا وتنزيهًا، وهذا هو توحيد الأسماء والصفات.
وكل هذه الاقسام ترتبط؛ لتدل على معنى التوحيد كما هو مستمد من الكتاب والسنة، فتوحيد الألوهية يدل على الربوبية بالتضمن؛ فما من محقق له إلا وهو محقق لتوحيد الربوبية من باب أولى، ومن ادعى خلافه فقد ادعى الجمع بين النقيضين.
أما توحيد الربوبية؛ فإنه يدل على الألوهية بالالتزام، بمعنى أن من أقر بأنه لا يستحق صفات الربوبية إلا الله تعالى؛ لزم ألا يعبد أحدًا سواه، وأى مخالفة لذلك
(1) انظر: بيان تلبيس الجهمية: (1/ 494).
(2)
والذي ينبغى أن يعلم أن هذا التقسيم قد عرف منذ القدم عن السلف الصالح منهم الإمام الطحارى حيث ذكره في متنه المشهور، حيث قال: لا شيء مثله، ولا شيء يعجزه، ولا إله غيره، انظر: أصول العقيدة الإسلامية التي قررها الإمام أبو جعفر الطحاوي: 23 - 26، تحقيق عبد المنعم العزى.
تدل على خلل في الإقرار بتوحيد الربوبية، وقد روى الإمام ابن جرير الطبري هذا المعنى عن ابن عباس رضي الله عنهما حيث قال في تفسير قوله تعالى:{فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22]"أي لا تشركوا بالله غيره من الأنداد التي لا تنفع ولا تضر وأنتم تعلمون أنه لا رب لكم يرزقكم غيره، وقد علمتم أن الذي يدعوكم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم من توحيده هو الحق الذي لا شك فيه". (1)
أما توحيد الأسماء والصفات؛ فإنه يدل على الربوبية بالتضمن؛ لدلالة أسمائه الحسنى على ذلك، وعلى الألوهية بالالتزام. (2)
وبهذا يدرك أن المراد من التقسيم الذي ذكره العلماء هو توضيح المعتقد؛ وفقًا لما جاء في الكتاب والسنة، ومن ثم التأكيد على توحيد الألوهية الذي جحده الكثير ممن أقر بربوبية الله على خلقه، فمعرفة الله ربًا منعمًا متصفًا بصفات الكمال والعظمة، مما قد فطرت النفوس على الإقرار به، وإنما وقع الخلل فيما يجب اتجاه من وصف بذلك واستحقه، حيث عبدت الأصنام وصرفت الصالحات لغير الله تعالى؛ إما جهلًا أو عنادًا واستكبارًا، وأدلة الشرع في هذا المعنى كثيرة متضافرة، لا يعرض عنها إلا جاهل أو صاحب هوى.
قال شيخ الإسلام: "التوحيد الذي أمر الله به العباد هو توحيد الألوهية المتضمن لتوحيد الربوبية، بأن يعبد الله وحده لا يشركون به شيئًا؛ يكون الدين كله لله. . كما قد بين القرآن هذا التوحيد في غير موضع، وهو قطب رحى القرآن الذي يدور عليه القرآن". (3)
* * *
(1) تفسير القرآن العظيم: (1/ 164).
(2)
انظر: تيسير العزيز الحميد، للشيخ سليمان بن عبد الله:33. وانظر دعوة التوحيد للشيخ محمد خليل هراس: 83، 85.
(3)
منهاج السنة النبوية: (3/ 290).