الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(المطلب الأول):
المحشر وعرضات يوم القيامة
تظهر عبارات المتكلمين في هذه المسائل الغيبية موافقة لما عليه السلف - رضوان الله عليهم -، حيث يقتصر مستند دلالتها عندهم على الوحى الصادق، ومع ذلك فقد تظهر بعض المخالفات التي تسربت إلى المعتقد، بسبب التصدى للرد على الفلاسفة؛ واعتمادهم في ذلك على المنهج العقلى، الذي قد يحيد بهم أحيانًا عن معين الوحى، كانت مسألة الإعادة وكيفيتها مما يظهر فيه اتباعهم ذلك المنهج؛ حيث تصدوا للرد على منكرى البعث من الفلاسفة، كما أن لهذه القضية ارتباطًا وثيقًا بمسألة الحدوث، وإن صح التعبير هي الوجه الثاني لها، وقد اشتهرت مخالفتهم فيها للمنهج الصحيح، وعند سبر أقوالهم فيها نجد أنها لا تخرج عن أحد قولين؛ يقول الرازي:"أما القائلون بالمعاد البدنى؛ منهم من زعم أن الله تعالى يعدم البدن ثم يعيده، ومنهم من زعم أنه يفرق الأجزاء ثم يجمعها". (1).
وكان لكلا الفريقين جمع من الأدلة، التي استند إليها في تقرير دعواه، والآن مع عرض أقوال الصاوي في هذه المسائل المتتالية.
* * *
رأي الشيخ الصاوي:
لقد تناول الصاوي في بيان حقائق الساعة في تفسيره، أو في حواشيه العقدية عددًا من المواضيع المرتبطة بها، وتظهر إرادته الترتيب جلية في عرضه لها، ويمكن ترتيبها كالتالى:
أولًا: ما يتعلق بالنفخ:
لقد كان النفخ أول ما تناول بحثه من تلك المواضيع المتعددة، فعند تعريفه للصور المعد للنفخ فيه، يقول: هو "القرن المستطيل".
(1) المحصل: للرازي: 223.
ويعرض ما ورد في بيانه عن السلف، يقول:"قال مجاهد: الصور كهيئة البوق وفيه جميع الأرواح، وفيه ثقب بعددها، فإذا نفخ خرجت كل روح من ثقبة ووصلت لجسدها فتحله الحياة".
ثم يوضح حقيقة الإحياء الحاصل عند النفخ، يقول:"فالإحياء يحصل بإيجاد الله عند النفخ لا بالنفخ فهو سبب عادى"(1).
ولما كانت النفخات متعددة في ذلك اليوم المهيب؛ نبه إلى أن هذه هي النفخة الثانية، و"أما الأولى؛ فعندها يموت كل ذى روح، قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر: 68] "(2)
أما عن متولى النفخ فيرى أن "النافخ هو إسرافيل (3) - حيث - يضع الصور على فيه، ويقف على صخرة بيت المقدس، ويقول: يا أيتها العظام البالية، والأوصال المتقطعة، واللحوم المتمزقة، إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء، فيقبلون عليه.
وقيل: المنادى جبريل، والنافخ إسرافيل" (4)
ثانيًا: كيفية البعث:
وفي حديثه عن كيفية هذا البعث، يقول:"ومما يجب اعتقاده أن الجسم يعاد بعينه عن عدم؛ فيصير الجسم معدومًا بالكلية كما كان قبل وجوده، قال تعالى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف: 29] ".
ويعرض مع ذلك رأى المخالف مرجحًا: "وقيل عن تفريق محضين؛ أي فلا يبقى جوهر مع جوهر أصلًا، والأول هو الحق".
(1) سيأتي الحديث عن الأسباب وموقف السلف منها فليراجع في فصل آراؤه في القدر: 594.
(2)
حاشية الجلالين: (2/ 23).
(3)
تقدم بحث تسمية الملك النافخ للصور بإسرافيل في فصل الملائكة والذي يظهر والله أعلم أنه لم يثبت في ذلك دليل يستند إليه: 341.
(4)
حاشية الجلالين: (3/ 60)(3/ 307) وهناك خبر طويل ذكر ضعفه الإمام البيهقي ورد فيه نداءه بهذه الكلمات التي ذكرها الصاوي، انظر: شعب الإيمان: الثامن من شعب الإيمان وهو باب في حشر الناس، رقم الحديث: 353: (1/ 312)، ولم أقف على خبر يفيد مكان النفخ لإسرافيل عليه.
ولكنه يرى استثناء بعض من لا يجوز عليهم الإعادة من العدم؛ لورود الأدلة الثابتة بذلك، يقول في موضع آخر عن مفهوم الإعادة: "يصير الجسم معدومًا بالكلية، كما كان قبل وجوده، قال تعالى:{كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} .
وهذا القول هو المعتمد "أما من لا تأكل الأرض أجسامهم؛ فيصح فيهم اجتماع المتفرق:
لا تأكل الأرض جسمًا للنبي ولا
…
لعالم وشهيد قتل معترك (1)
ولا يعني - عنده - أن الخلق من العدم يتحصل به المغايرة في الأجساد أو الأرواح؛ لأن قوله تعالى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} يؤكد عدم اختلاف الماهية مع الإعادة، يقول في تفسير الآية:"يعيدكم أحياء بالأرواح والأجساد بعينها"(2).
ثالثًا: هيئات الناس عند البعث:
ومع مساواة الناس في تحقق الوعد عليهم بالحشر، إلا أنهم يختلفون في صفته أشد الاختلاف، يقول في تفسير:{يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا} [مريم: 85]: "ورد أن المؤمن إذا خرج من قبره استقبله أحسن شيء صورة وأطيبه ريحًا، فيقول هل تعرفنى؟ فيقول: لا، فيقول: أنا عملك الصالح، فاركبنى؛ فقد طالما ركبتك في الدنيا، فذلك قوله تعالى: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا} يعني ركبانًا، وأما الكافر، فيستقبله أقبح شيء صورة وأنتنه ريحًا، فيقول: هل تعرفنى؟ فيقول: لا، فيقول: أنا عملك الخبيث، طالما ركبتنى في الدنيا؛ فأنا أركبك، فذلك قوله تعالى: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ} [الأنعام: 31] "(3).
وتكون هيئة الناس عند حشرهم "حفاة عراة وذلك عند الحساب".
(1) حاشية الجرهرة: 60. وحاشية الخريدة: 105. وانظر: حاشية الجلالين: (3/ 85).
(2)
حاشية الجلالين: (2/ 66).
(3)
حاشية الجلالين: (2/ 10).
ويعرف هذه الألفاظ التي أتت بها الأحاديث (1)، فيقول:"غرلًا: جمع أغرل كحمر جمع أحمر، أي غير مقطوعين القلفة"(2)
* * *
رابعًا: ما يتعلق بالحساب:
ثم يشرع ببيان الحساب وما يتعلق به، يقول:"الحساب ثابت بالكتاب، والسنة، والإجماع؛ فمن أنكره كفر، ودليله من القرآن: {وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [البقرة: 202]، وأجمع المسلمون عليه". (3)
وعن مدة الحساب، يقول:"ورد أنه يحاسب الخلق في نصف يوم من أيام الدنيا"(4)، وفي رواية أنه تعالى يحاسب الكل في مقدار حلب شاة". (5)
- ويتناول بعد ذلك مجمل ما يحدث في يوم الحساب، يقول:"مما يجب اعتقاده ومن أنكره أو شك فيه فقد كفر؛ لوروده كتابًا وسنة وإجماعًا: تناول العباد الصحف أي الكتب التي كتب الملائكة فيها ما فعلوه في الدنيا، وكل العباد يأخذون صحائفهم إلا الأنبياء والسبعين ألفًا، الذين يدخلون الجنة بغير حساب، ومقدمهم ورئيسهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه"(6).
- كما "يجب الإيمان بأن العباد توزن أعمالهم خيرًا كانت أو شرًا، وبالميزان أي الآلة الحسية التي يوزن بها، قال تعالى:{وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} [الأعراف: 8]، {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47].
(1) حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تحشررن حفاة عراة غرلًا) أخرجه البخاري في صحيحه في عدد من المواضع منها: كتاب الأنبياء - باب قول الله: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} ، رقم الحديث:3349.
(2)
حاشية الجلالين: (2/ 30).
(3)
حاشية الجوهرة: 64.
(4)
حاشية الجلالين: (1/ 127).
(5)
حاشية الجلالين: (2/ 20).
(6)
حاشية الجوهرة: 64.
وهذا الوزن "لا يكون في حق كل واحد، لما ورد يا محمد أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن".
موضحًا العلة في ذلك: "فهو - الوزن - فرع الحساب، فكل من حوسب وزنت أعماله"(1).
ويؤقت للوزن زمانًا، فيقول:"الوزن بعد أخذ الصحف والحساب، ثم بعد الوزن يكون المرور على الصراط، وهو مختلف باختلاف أحوال العباد".
أما عن كيفية الوزن وماهية الموزون، فيقول:"والوزن يكون إما للأعمال أو لصحائفها، فعلى الأول تصور الأعمال الصالحة بصورة نيرة حسنة، وتوضع في كفة الحسنات، وتصور الأعمال السيئة بصورة مظلمة قبيحة، وتوضع في كفة السيئات"(2).
"وبقى قول ثالث وهو؛ أن الوزن للذوات لما في الحديث: "إنه ليأتى الرجل العظيم السمين يوم القيامة، لا يزن عند الله جناح بعوضة" (3)
ويبعد عن الذهن استحالة هيئات الوزن، يقول:"لا يقال أن فيه قلبًا للحقائق، لأنه مثال ولأن قدرته تعالى صالحة لذلك؛ فإنه من جملة الممكنات"(4)
وعند تفسير قوله تعالى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} يفصل القول في حال الناس مع الميزان، يقول: "اعلم أن الناس في القيامة ثلاث فرق؛ متقون لا كبائر لهم، ومخلطون، وكفار؛ فأما المتقون؛ فإن حسناتهم توضع في الكفة النيرة، وصغائرهم إن كانت لهم في الكفة الأخرى، فلا يجعل الله لتلك الصغائر وزنًا، وتكفر صغائرهم باجتنابهم الكبائر، ويؤمر بهم إلى الجنة، وينعم كل حسب أعماله.
(1) المرجع السابق.
(2)
المرجع السابق. وانظر: حاشية الخريدة: 106.
(3)
حاشية الجلالين: (2/ 95).
(4)
حاشية الخريدة: 107.
وأما الكفار؛ فإنه يوضع كفرهم في الكفة المظلمة، ولا توجد لهم حسنة توضع في الكفة الأخرى، فتبقى فارغة فيأمر الله بهم إلى النار.
وهذان الصنفان هما المذكوران في القرآن صراحة في آيات الوزن.
وأما الذين خلطوا، فقد ثبت في السنة أن حسناتهم توضع في الكفة النيرة، وسيئاتهم في الكفة المظلمة، فإن كانت الحسنات أثقل ولو بأقل قليل، أو ساوت أدخلوا الجنة.
وإن كانت السيئات أثقل ولو بأقل قليل أدخلوا النار إلا أن يعفو الله، هذا إن كانت كبائرهم فيما بينهم وبين الله، وأما إن كانت عليهم تبعات وكانت لهم حسنات كثيرة، فإنه يؤخذ من حسناتهم فيرد على المظلوم، وإن لم يكن لهم حسنات أخذ من سيئات المظلوم؛ فتحمل على الظالم من أوزار من ظلمه، ثم يعذب إلا أن يرضي الله عنه خصماءه" (1).
* * *
خامسًا: الحوض:
ومن جملة ما أخبرت به الشريعة من أمور الغيب الحوض، يقول:"يجب علينا الإيمان بحوض نبينا صلى الله عليه وسلم، من أنكره فسق وبدع، وهو كبير متسع طوله شهر وعرضه كذلك، وزواياه سواء، ففى الحديث: (حوضى مسيرة شهر وزواياه سواء ماؤه أبيض من الورق وريحه أطيب من المسك وكيزانه كنجوم السماء فمن شرب منه فلا يظمأ بعده أبدًا) (2) "
وعن زمان الشرب منه، يقول:"واختلف هل هو قبل الصراط أو بعده".
وفى بيان هيئته، يقول:"وقيل له حوضان".
وكل هذا في رأيه لا يؤثر جهله في الاعتقاد، يقول:"وفى الحقيقة الواجب علينا اعتقاد ثبوته وجهل تقدمه على الصراط، أو تأخره لا يضر في الاعتقاد".
(1) حاشية الجلالين: (2/ 59).
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الفضائل - باب حوض نبينا صلى الله عليه وسلم وصفاته: (15/ 55).
أما عن رواده، فيقول:"ويشرب منه من آمن وصدق باليوم الآخر، واتبع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومات على ذلك، ولم يغير ولم يبدل، ولم يتخذ عقيدة غير ما عليه النبي وأصحابه، ويطرد عنه من غير وبدل في عقيدته، فالكافر بعقيدته لا يشرب منه، والمبتدع يشرب منه بعد الرد". (1)
خامسًا الشفاعة:
وكان الحديث عن الشفاعة من أهم ما تناوله من المسائل المتعلقة بأخبار يوم القيامة، يقول:"مما يجب اعتقاده أن النبي صلى الله عليه وسلم شافع مشفع".
ويعرف الشفاعة بأنها "لغة: الوسيلة والطلب، وشرعًا سؤال الخير للغير"
وعن مكانة الرسول بين الشافعين، يقول:"ومما يجب اعتقاده أن النبي مع كونه شافعًا ومقبول الشفاعة، مقدم على غيره من الأنبياء والمرسلين والملائكة المقربين".
ويستطرد في الحديث عن أنواع شفاعته عليه الصلاة والسلام، وما يختص به منها، يقول: "وله شفاعات أعظمها الشفاعة في فصل القضاء، وهى مختصة به قطعًا؛ لأن الناس في ذلك الوقت يذهبون إلى الرسل من آدم إلى عيسى فردًا فردًا؛ فيسألونهم الشفاعة في الانصراف من ذلك الموقف، فكل يبدى حجة إلى أن يذهبوا إليه صلى الله عليه وسلم يسألونه الشفاعة، فيقول: أنا لها أنا لها، فيسجد تحت العرش، فيقول الله له: ارفع رأسك واشفع تشفع، فيرفع رأسه وهذا هو المقام المحمود؛ لأنه من حينها يكثر حمد الناس له، فينصب له لواء له ثلاث زاويات، زاوية بالمشرق، وأخرى بالمغرب، وأخرى بالوسط، والأنبياء ومن دونهم تحت ذلك اللواء. (2)
وثانى الشفاعات في إدخال قوم الجنة بغير حساب، وهى مختصة به أيضًا. (3)
(1) حاشية الجوهرة: 64.
(2)
وقد صح هذا الخبر بروايات عدة في كتب الصحاح منه ما أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء - باب قول الله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} : برقم: 3162: (3/ 1215).
(3)
وهذا ما دلت عليه الأحاديث الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أخرج البخاري في صحيحه ما ورد في (يا محمد أدخل من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب): كتاب التفسير - باب ذرية من حملنا مع نوح، رقم الحديث:4435.
ثالثها: فيمن استحق دخول النار؛ أن لا يدخلها وليست مختصة به صلى الله عليه وسلم (1).
رابعها: في إخراج الموحدين من النار وليست مختصة به أيضًا (2).
خامسها: في زيادة الدرجات في الجنة لأهلها (3).
سادسها: في جماعة من صلحاء أمته؛ ليتجاوز عنهم في تقصيرهم في الطاعات (4).
سابعها: فيمن خلد في النار من الكفار؛ أن يخفف عنهم العذاب في أوقات مخصوصة (5).
ثامنها: في أطفال المشركين أن لا يعذبوا (6).
(1) وهذا مما يندرج في شفاعته لأهل الكبائر من أمته، أخرج البخاري في صحيحه أنه عليه الصلاة والسلام قال:(أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة، من قال لا إله إلا الله، خالصًا من قلبه، أو نفسه): كتاب العلم - باب الحرص على الحديث، رقم الحديث:99.
وقد صرحت أحاديث بشفاعته لمن استحق النار أن لا يدخلها ولكنها لم تثبت من حيث الإسناد، انظر: الشفاعة، لأبي عبد الرحمن مقبل الوادعى:110. وقد صرح الإمام ابن القيم رحمه الله بالتوقف فيها، فقال في حاشيته على سنن أبي داود ما نصه: "ويبقى نوعان يذكرهما كثير من الناس: أحدهما: في قوم استوجبوا النار فيشفع فيهم أن لا يدخلوها، وهذا النوع لم أقف إلى الآن على حديث يدل عليه، وأكثر الأحاديث صريحة في أن الشفاعة في أهل التوحيد من أرباب الكبائر إنما تكون بعد دخولهم النار، وأما أن يشفع قبل الدخول، فلا يدخلون، فلم أظفر فيه بنص" انتهى كلامه، ولعله أراد بعدم الوقف على نص صحيح يعتمد إليه في مثل هذه المسائل العظيمة: (13/ 78).
(2)
وهذا ما ورد في عدد من الأحاديث الصحيحة، أخرج البخاري في صحيحه: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يخرج قوم من النار بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم فيدخلون الجنة، يسمون الجهنميين): كتاب الرقاق - باب صفة الجنة والنار، رقم الحديث:6198.
(3)
ومما يدل على ذلك دعاؤه صلى الله عليه وسلم لأحد الصحابة برفعة الدرجات فقد أخرج البخاري في حديث مطول أنه صلى الله عليه وسلم قال يدعو لصحابى جليل يدعى أبو عامر (اللهم اجعله يوم القيامة فوق كثير من خلقك من الناس): كتاب المغازى - باب: غزوة أوطاس، رقم الحديث:4068.
(4)
وهذه مما يندرج في التي قبلها.
(5)
وذلك كشفاعة النبي في عمه أبى طالب، أخرج البخاري في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن سأله قائلًا: ما أغنيت من عمك، فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟ :(هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار): كتاب فضائل الصحابة - باب قصة أبى طالب، رقم الحديث:3670.
(6)
المعلوم أن أولاد المشركين وكل من مات على الفطرة مع إبراهيم عليه السلام كما هو معلوم من حديث البخاري الذي حكى يه النبي صلى الله عليه وسلم رؤية رآها ففيها أن إبراهيم عليه السلام في أصل الشجرة والصبيان حوله: كتاب الجنائز - باب ما قيل في أولاد المشركين، رقم الحديث:1320.
وبالجملة فالمختص به قطعًا الشفاعة العظمى، وأما ما عداها ففيه خلاف ويشفع غيره، كالأنبياء، والملائكة، والصحابة، والشهداء، والأولياء، والأطفال، والمولى يشفع فيمن قال لا إله إلا الله، ولم يعمل خيرًا قط" (1).
* * *
تعليق:
أولًا: حقيقة البعث:
من جملة المسائل المهمة، التي تطرق الصاوي للحديث فيها: مسألة كيفية البعث وإعادة الحياة إلى أصحاب القبور، فإن ما ذكره فيها من أقوال لتعد زبدة أقوال المتكلمين في كيفية البعث، فجمع المتفرق، والإعادة من العدم، هما ما أجمع عليه أهل الفن من الأشاعرة.
والحقيقة المستمدة من معين الوحى المطهر أن الإعادة من العدم المحض، كما يعتقد الأشاعرة لا دليل عليها من كتاب ولا سنة، بل قد دلت الأحاديث النبوية على أن جزء من الإنسان حتى غير ما ذكر من الذين لا تبلى أجسادهم يبقى وهو عجب الذنب، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما بين النفختين أربعون). قال: أربعون يومًا؟ قال: أبيت، قال: أربعون شهرًا؟ قال: أبيت، قال أربعون سنة؟ قال: أبيت، قال:(ثم ينزل الله من السماء ماءً، فينبتون كما ينبت البقل، ليس من الإنسان شيء إلا يبلى، إلا عظمًا واحدًا وهو عجب الذنب، ومنه يركب الخلق يوم القيامة)(2).
قال الحافظ رحمه الله؛ في بيان معنى العجب: "هو عظم لطيف في أصل الصلب، وهو رأس العصعص، وهو مكان رأس الذنب من ذوات الأربع"(3).
(1) حاشية الجوهرة: 64.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب التفسير - باب: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا} ، رقم الحديث:4651.
(3)
فتح الباري: (8/ 552).
وليس في استدلاله بقوله تعالى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} دليل على ما ذهب إليه من الإعادة من العدم؛ لأن الله تعالى إنما خلق الإنسان مما ذكر في قوله: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان: 2].
بل الإنسان الأول؛ وهو آدم عليه السلام، قد ذكر الباري تعالى لنا قصة خلقه في عدد من مواضع كتابه العزيز، وكيف أنه تعالى خلقه من:{صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ}
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "والإنسان إذا مات وصار ترابًا؛ فنى وعدم، وكذلك سائر ما على الأرض، كما قال:{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن: 26] ثم يعيده من التراب كما خلقه ابتداءً من التراب، ويخلقه خلقًا جديدًا. ولكن للنشأة الثانية أحكامًا وصفات ليست للأولى، والمشهود المعلوم للناس إنما هو إحداثه لما يحدثه من غيره، لا إحداثًا من غير مادة.
ولهذا قال تعالى: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} [مريم: 9]، ولم يقل خلقتك لا من شيء، وقال الله تعالى:{وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} [النور: 45]، ولم يقل خلق كل دابة لا من شيء، وقال تعالى:{وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30]، وهذا هو القدرة التي تبهر العقول، وهو أن يقلب حقائق الموجودات، فيحيل الأول ويفنيه ويلاشيه، ويحدث شيئًا آخر، كما قال تعالى:{فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} [الأنعام: 95] " (1).
وقد أطال الإمام ابن القيم رحمه الله النفس في دحض هذا المعتقد، الذي أثار افتراءات الفلاسفة المنكرين للبعث الجسدى (2)، يقول: "فإن القرآن والسنة إنما دلا على تغيير العالم وتحويله وتبديله، لا جعله عدمًا محضًا وإعدامه بالكلية، فدل
(1) النبوات: 108 - 109.
(2)
انظر: تهافت الفلاسفة للغزالى: 302.
على تبديل الأرض غير الأرض والسموات، وعلى تشقق السماء وانفطارها، وتكوير الشمس وانتثار الكواكب، ويسجر البحار، وإنزال المطر على أجزاء بنى آدم المختلطة بالتراب؛ فينبتون كما ينبت النبات، وترد تلك الأرواح بعينها إلى تلك الأجساد، التي أحيلت ثم، أنشئت نشاة أخرى "إلى أن يقول: فهذا الذي أخبر به القرآن والسنة، ولا سبيل لأحد من الملاحدة الفلاسفة وغيرهم إلى الاعتراض على هذا المعاد، الذي جاءت به الرسل بحرف واحد، وإنما اعتراضهم على المعاد الذي عليه طائفة من المتكلمين؛ أن الرسل جاءوا به وهو أن الله يعدم أجزاء العالم العلوى والسفلى كلها، فيجعلها عدمًا محضًا، ثم يعيد ذلك العدم وجودًا (1).
أما الذي عليه المتكلمون في إدراك حقيقة البعث بأنه الجمع للمتفرق؛ إنما تحصل نتيجة لموقفهم من الخلق ابتداءً "فإن معرفة المعاد مبنية على معرفة المبدأ، والبعث مبنى على الخلق"(2).
فإنهم لما أرادوا أن يستدلوا لحدوث الخلق في مقابل اعتقاد الفلاسفة بقدمه قسموا العالم إلى جواهر وأعراض، وعرفوا الجوهر بأنه القائم بنفسه، والعرض ما قام بغيره، ثم أثبتوا حدوث الأعراض لملازمة التغيير لها، وحتى يصلوا إلى إثبات حدوث الجواهر قالوا بأصلهم الفاسد كل ما لا يخلو من الأعراض فهو حادث، فإن حقيقة اعتقادهم بالخلق المتجدد يؤول إلى إحداث الأعراض وإزالتها، أما الجواهر فهى باقية لم يحدث فيها إيجاد وإعدام بعد خلقه لها أول مرة من العدم، كما هو معلوم من اعتقادهم بامتناع حوادث لا أول لها، وهذا أصل قولهم بأن المعاد: هو تفريق تلك الأجزاء ثم جمعها، وهى باقية بأعيانها.
أما من قال بالإعادة من العدم فإنه يقول: "بل يعدمها ويعدم الأعراض القائمة بها ثم يعيدها".
وقد بين شيخ الإسلام رحمه الله فساد كلا القولين، فأبطل أصل معتقدهم ببقاء الجواهر، وأظهر ما فيه من سوء اعتقاد وقلة علم بما يجب لله تعالى من تعظيم
(1) مفتاح دار السعادة: (2/ 35). وانظر: شرح العقيدة الطحاوية، لابن أبي العز الحنفي:464.
(2)
النبوات: 104.
وإجلال وقدرة على الخلق والإيجاد، يقول رحمه الله:"وهؤلاء - يريد المتكلمين - يريدون بالمادة جوهر باقٍ وهو محل للصورة الجوهرية، فلم يخلق عندهم الإنسان من مادة، بل المادة باقية، وأحدث صورته فيها؛ كما أن الصور الصناعية كصورة الخاتم والسرير والثياب والبيوت وغير ذلك، إنما أحدث الصانع صورته العرضية في مادة لم تزل موجودة لم تفسد، لكن حولت من صفة إلى صفة، فهكذا تقول الجهمية المتكلمة المبتدعة أن الله أحدث صورة عرضية في مادة باقية لم تفسد، فيجعلون خلق الإنسان بمنزلة عمل الخاتم والسرير والثوب، . . . . .، وهم لا يشهدون للرحمن إحداثًا ولا إفناءً، بل إنما يحدث عندهم الأعراض، وهى تفنى بأنفسها لا بإفنائه، وهى تفنى عقب إحداثها"(1).
ويفصل القول في مناقضة قولهم لما هو معلوم بالضرورة والبرهان، فيقول: "الإنسان إذا أكله حيوان آخر، فإن أعيدت تلك الجواهر من الأول نقصت من الثاني وبالعكس.
أما على قول من يقول أنها تفرق، ثم تجمع فقيل له: تلك الجواهر إن جمعت للآكل نقصت من المأكول، وإن أعيدت للمأكول نقصت من الآكل". (2)
- أما عن استثناء من لا يجوز عليهم العدم والفناء؛ كالأنبياء عليهم السلام، فقد أشار الصاوي إلى عدد منهم، حيث ورد في الحديث الشريف أن رسول الله قال:(إن الله قد حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء). (3)
"أما الشهداء فقد شوهد منهم بعد مدد من دفنه كما هو لم يتغير، فيحتمل بقاؤه كذلك في تربته إلى يوم محشره، ويحتمل أنه يبلى مع طول المدة".
وأما العلماء فقد يكون مستنده في القول بمنع العدم عليهم أيضًا هو المشاهدة
(1) النبوات: 106 - 107.
(2)
النبوات: 104.
(3)
أخرجه أبو داود في سننه: كتاب الوتر - باب في الاستغفار، رقم الحديث: 1526: (2/ 299). وصححه الألباني في صحيح أبي داود برقم: 1355: (1/ 285).
بالعادة، فقد شوهد إلى هذا اليوم من تفتح قبورهم من العلماء ولم تتغير أجسادهم؛ كالشهيد تمامًا.
وقد استند الإمام ابن عبد البر في استثناء الشهيد تبعًا للأنبياء إلى ما وقع للصحابة الكرام وشوهد حين نقلت أجسادهم بعد ست وأربعين سنة، فاعتبر أن تعميم الحكم الوارد في حديث عجب الذنب مما يدخله الخصوص، بدلالة خروج الأنبياء من عمومه، ومن جهة أخرى فإنه استدل لذلك بدليل الإمكان العقلي فإنه إذا جاز أن يمتنع على الأرض أكل العجب كان الشهداء في ذلك من باب أولى لما شوهد من خبرهم، يقول:"وظاهر هذا الحديث وعمومه يوجب أن يكون بنو آدم كلهم في ذلك سواء، إلا أنه قد روى في أجساد الأنبياء والشهداء أن الأرض لا تأكلهم، وحسبك ما جاء في شهداء أحد وغيرهم، وهذا يدل على أن هذا لفظ عموم، ويدخله الخصوص من الوجوه التي ذكرنا، فكأنه قال: كل من تأكله الأرض فإنه لا تأكل منه عجب الذنب وإذا جاز أن لا تأكل الأرض عجب الذنب، جاز أن لا تأكل الشهداء، وذلك كله حكم الله وحكمته"(1) انتهى كلامه رحمه الله.
وبناء على ما ذهب إليه رحمه الله من جواز التخصيص بطريق المشاهدة فقد زاد غيره الصديقين والعلماء العاملين والمؤذن المحتسب وحامل القرآن العامل به والمرابط والميت بالطاعون صابرًا محتسبًا والمكثر من ذكر الله والمحبين لله فتلك عشرة كاملة" (2). والله تعالى أعلم.
ثانيًا: النفخ في الصور:
صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه عرف الصور عندما سأله الأعرابى عنه بأنه: (قرن ينفخ فيه)(3) وكان تعريف الصاوي له مقاربًا لهذا الحديث أما عن متولى النفخ فيه؛
(1) التمهيد: (18/ 178).
(2)
شرح الزرقاني على الموطأ: (2/ 84). وانظر: عمدة القارى: (19/ 146).
(3)
أخرجه أبو داود في سننه: كتاب السنة - باب في ذكر البعث والصور، رقم الحديث: 4709: (5/ 245) وصححه الألباني في صحيح أبي داود، برقم: 3968: (3/ 898) .. وأخرجه الترمذي: كتاب صفة القيامة والرقائق - باب ما جاء في شأن الصور، رقم الحديث: 2430، وقال الترمذي: حديث حسن: (4/ 536).
فقد حكى الحافظ ابن حجر رحمه الله الإجماع على أن النافخ في الصور هو إسرافيل عليه السلام، ومع ذلك فقد ضعف جميع الروايات التي ذكر فيها تسميته. (1)
وهذا ما رجحه الإمام الطبري عند عرضه ما قيل فيه من أقوال؛ وكان مستنده في ذلك الحديث السابق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. (2)
وقد بينت الأحاديث الشريفة هيئة ذلك الملك الكريم، في تأهبه التام لتلقى الأمر بالنفخ فيه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(كيف أنعم؛ وقد التقم صاحب القرن القرن، وحنى جبهته، وأصغى سمعه ينتظر أن يؤمر أن ينفخ فينفخ! قال المسلمون: فكيف نقول يا رسول الله؟ قال: قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل توكلنا على الله ربنا)(3)
أما عن عدد النفخات، فالواضح من كلام الصاوي اعتقاد أنها نفختان، لا ثالث لهما: نفخة الصعق، ونفخة البعث والنشور.
وقد اختلفت العلماء في عددها على وجه التحقيق؛ فالقائلون بأنها ثلاث فرقوا بين الفزع والصعق، وفسروا قوله تعالى:{وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} [النمل: 87]؛ بأنها نفخة الفزع التي تليها نفخة الصعق، أما من ذهب إلى أنها نفختان؛ جعلوا الصعق والفزع واحدة وبعدها نفخة البعث والنشور.
ولعل القول بأنها نفختان آكد الدلالة لحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: (ثم ينفخ في الصور، فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتًا ورفع ليتًا، قال: وأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله، قال: فيصعق، ويصعق الناس، ثم يرسل الله، أو قال ينزل الله
(1) انظر: فتح الباري: (11/ 368). وانظر: ما تقدم من مبحث الملائكة: 341.
(2)
انظر: جامع البيان: (7/ 241).
(3)
أخرجه الترمذي في سننه: كتاب التفسير من سورة الزمر، برقم: 3243 وقال: حديث حسن: (5/ 374). وصححه الألباني في صحيح الترمذى برقم: 2585: (3/ 100).
مطرًا كأنه الطل أو الظل، فتنبت منه أجساد الناس، {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} (الزمر: 68)) (1).
وحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما بين النفختين أربعون). قال: أربعون يومًا؟ قال: أبيت، قال: أربعون شهرًا؟ قال: أبيت، قال: أربعون سنة؟ قال: أبيت، قال:(ثم ينزل الله من السماء ماءً، فينبتون كما ينبت البقل، ليس من الإنسان شيء إلا يبلى، إلا عظمًا واحدًا وهو عجب الذنب، ومنه يركب الخلق يوم القيامة). (2)
والذي يظهر من أقوال المفسرين والعلماء أن سبب الاختلاف في عدد النفخات يرجع إلى اختلاف الأفهام، في استنباط الفوائد من الادلة المتعددة، ولتوقف الصاوي عن الخوض فيها، ولأنى لم أجد من الخوض فيها كبير نفع؛ أدع للقارئ مرجعًا يستفيد منه فهم تلك الأقوال (3).
الحساب:
لقد دلت نصوص الكتاب والسنة على أن الله تعالى يحاسب عباده حسابًا سريعًا، يسيرًا عليه سبحانه وتعالى.
أما عن تحديد مدة ذلك الحساب فقد اختلف العلماء في ذلك حيث ظهرت أقوال عدة للمفسرين من السلف الصالح عند بيان قوله تعالى: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} فذهب البعض إلى أن مدة الحساب: خمسين ألف سنة على المسلم والكافر، وهذا قول الحسن.
دل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (ما من صاحب ذهب ولا فضة، لا يؤدى منها حقها، إلا إذا كان يوم القيامة، صفحت له صفائح من نار، فأحمى عليها في نار
(1) أخرجه مسلم: كتاب الفتن - باب خروج الدجال، رقم الحديث:389.
(2)
أخرجه البخاري في كتاب التفسير - باب يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجًا، رقم الحديث:4935.
(3)
لمزيد من التوسع يوصى بالرجوع إلى كتاب الحياة الآخرة لـ د/ غالب عواجى: (1/ 189).
جهنم، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أعيدت له، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد، فيرى سبيله، إما إلى الجنة وإما إلى النار). (1)
وقال ابن عباس يكون كذلك على الكافرين فقط دون المؤمنين، بينما ذهب البعضى إلى أن شعور المؤمن به يختلف عن الكافر حيث يخفف على المؤمنين، فلا يشعرون بطوله، وهذا ما دل عليه قوله صلى الله عليه وسلم:(يقوم الناس لرب العالمين مقدار نصف يوم من خمسين ألف سنة يهون ذلك على المؤمنين، كتدلى الشمس للغروب إلى أن تغرب)(2).
والبعض ذهب إلى أن العدد غير مراد لذاته، وإنما لبيان عظيم قدرة الله وتصريفه لشؤون عباده بحيث:"لو ولى محاسبة العباد في ذلك اليوم غير الله لم يفرغ منه خمسين ألف سنة".
لذا ورد عن بعض السلف منهم عطاء عن ابن عباس ومقاتل أن الله يفرغ منه في مقدار نصف يوم من أيام الدنيا.
وقد روى ما يؤيده عن محمد بن الفضل عن الكلبي قال: "يقول - أي المولى تعالى - لو وليت حساب ذلك اليوم الملائكة والجن والإنس وطوقتهم محاسبتهم لم يفرغوا منه إلا بعد خمسين ألف سنة، وأنا أفرغ منها في ساعة واحدة من النهار". (3)
وهذا ما ذهب إليه الصاوي هنا، أما عن تحديد المدة بمقدار حلب شاة فهذا ما ذكرته بعض كتب التفسير وترجع من حيث المفهوم إلا ما ذكرته من أن المدة غير محددة وإنما أريد سرعة الحساب المعجزة، يقول القرطبي: "قال الحسن: حسابه
(1) أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الزكاة - باب إثم مانع الزكاة، رقم الحديث:2287.
(2)
أخرجه ابن حبان في صحيحه: باب إخباره صلى الله عليه وسلم عن البعث وأحوال الناس في ذلك اليوم، برقم:7333. وصححه شعيب الأرنؤوط وقال: إسناده صحيح على شرط البخاري: (16/ 328).
(3)
تفسير البغوي: (8/ 221).
أسرع من لمح البصر، وفى الخبر: إن الله يحاسب في قدر حلب شاة، وقيل: هو أنه إذا حاسب واحدًا فقد حاسب جميع الخلق، وقيل لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: كيف يحاسب الله العباد في اليوم؟ قال: كما يرزقهم في يوم" (1)
أما عن تفاصيل الحساب، فقد بينت آيات الكتاب الكريم الهيئات، التي يتأتى بها تناول العباد لصحفهم، فمنهم من يعطى كتابه بيمينه، وهؤلاء هم أهل السعادة، قال تعالى:{فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة: 19].
ومنهم من يؤتى كتابه من وراء ظهره أو بشماله، قال تعالى:{وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ} [الحاقة: 25]، وهؤلاء هم أهل الشقاء والتعاسة أعاذنا الله من حالهم.
وكان ما ذهب إليه الصاوي من استثناء السبعين ألفًا من تناول الصحف، الذين ورد ذكرهم في حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه:(ليدخلن من أمتى سبعون ألفًا، أو سبعمائة ألف، لا يدخل أولهم حتى يدخل آخرهم، وجوههم على صورة القمر ليلة البدر)(2) فرعًا لنفى الحساب عنهم، وكان الذي ذهب إليه في ذلك فهمًا استنبطه من قوله تعالى:{اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء: 14]، ومن قوله:{فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة: 19، 20].
وبناء على ما ثبت "في عدة أخبار عن النبي المختار صلى الله عليه وسلم ما كر الليل على النهار: أن طائفة من هذه الأمة بلا ارتياب يدخلون الجنة بغير حساب، فيدخلون جنات النعيم قبل وضع الموازين، وأخذ الصحف بالشمال واليمين"(3).
(1) الجامع لأحكام القرآن: (2/ 435). وهذا الخبر مما لم يذكر المفسرين سنده، وقد وجدته في عدد منها بلا سند كتفسير النسفي والصاوي وأبي السعود، وفي موسوعة أطراف الحديث النبوي، عزاه السعيد زغلول لتفسير القرطبي كما هو ثبت أعلاه:(3/ 214).
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب بدء الخلق - باب ما جاء في صفة الجنة، رقم الحديث:3247.
(3)
لوامع الأنوار: 176.
وأما الحساب؛ ففى استثناء الأنبياء منه مع هؤلاء السبعين ألفًا خلاف بين العلماء، فالذين ذهبوا إلى أن الحساب لا يستثنى منه أحد؛ احتجوا بقوله تعالى:{فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف: 6]؛ على عموم الحساب في حق كل أحد، والحق أنه مع ثبوت السؤال، فليس فيه ما يثبت الحساب؛ لأنه تعالى إنما يسألهم ليحق الحق، ويظهر تمام براءة الرسل، وعظيم جرم الكافرين، يقول الرازي:"فإن قيل: ما الفائدة في سؤال الرسل مع العلم بأنه لم يصدر عنهم تقصير البتة؟ ، قلنا: لأنهم إذا أثبتوا أنه لم يصدر عنهم تقصير البتة، التحق التقصير بكليته بالأمة، فيتضاعف إكرام الله في حق الرسل؛ لظهور براءتهم عن جميع موجبات التقصير، ويتضاعف أسباب الخزى والإهانة في حق الكفار؛ لما ثبت أن كل التقصير كان منهم"(1).
وفي توجيه رأى من ذهب إلى عدم استثناء أحد من المسألة بموجب هذه الآية الكريمة؛ يكون الحساب المنفى عن الأنبياء ما كان على هيئته المعلومة، حيث يكون جهة المناقشة والتقريع".
لأن "الأنبياء لا حساب عليهم، وكذلك أطفال المؤمنين، وكذلك العشرة المبشرون بالجنة"(2).
- ومما يتفرع عن الحساب الوزن وزمانه، يرى الصاوي أنه يكون بعد الحساب، يقول القرطبي:"قال العلماء إذا انقضى الحساب كان بعده الوزن؛ لأن الوزن للجزاء فينبغى أن يكون بعد المحاسبة، فإن المحاسبة لتقدير الأعمال، والوزن لإظهار مقاديرها ليكون الجزاء بحسبها"(3).
هذا "وإثبات ميزان الآخرة مذهب الفرقة الناجية القاهرة، ومن خالفهم رمى بمخالفة الشريعة، ونبز بالبدعة الشنيعة"(4).
(1) التفسير الكبير: (14/ 23).
(2)
لوامع الأنوار: (2/ 175).
(3)
التذكرة: (2/ 10).
(4)
منهاج السلامة في ميزان القيامة، للحافط محمد بن أبي بكر القيسي:130.
أما عن حقيقة الميزان؛ فقد وردت أقوال عدة في بيان ماهيته، فالراجح عند السلف أنه ميزان حقيقي حسى توزن به الأعمال، والبعض من أهل العلم فسره بالعدل، وقال: هو كناية عن إرادته، وقد عزا القرطبي هذا القول إلى مجاهد، والضحاك، والأعمش، والصحيح ما عليه الجمهور، كما أشار إلى ذلك القرطبي، وقد استدل شيخ الإسلام رحمه الله على أنه ميزان حقيقى حسي بالأخبار التي وردت في وزنه الأعمال، يقول: "الميزان هو ما يوزن به الأعمال، وهو غير العدل كما دل على ذلك الكتاب والسنة، مثل قوله تعالى:{فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} ، {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} وقوله {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} .
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: (كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله العظيم، سبحان الله وبحمده)(1)، وقال عن ساقى عبد الله بن مسعود:(لهما في الميزان أثقل من أحد)، وهذا وأمثاله مما يبين أن الاعمال توزن بموازين؛ تبين بها رجحان الحسنات على السيئات وبالعكس، فهو ما به تبين العدل، والمقصود بالوزن العدل، كموازين الدنيا".
وبعد ذلك بين رحمه الله أن كيفية وزن الأعمال به مما لا علم بحقيقته، يقول:"أما كيفية تلك الموازين فهو بمنزلة كيفية سائر ما أخبرنا به من الغيب"(2).
وهذا البيان منه رحمه الله كافٍ في الإجابة على اعتراض من اعترض باستحالة وزن الأعراض، إلى غير ذلك مما ذكره الصاوي؛ نقلًا عن القرطبي في كتابه التذكرة (3).
أما ما ذكره الصاوي متابعًا القرطبي في كون كفة الحسنات من نور والأخرى من ظلام؛ فلم أقف على عزو هذه الأقوال، والله أعلم.
(1) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الدعوات - باب فضل التسبيح، رقم الحديث:6046.
(2)
مجموع الفتاوى: (4/ 302).
(3)
(2/ 16).
الحوض والصراط:
وردت أدلة كثيرة عن الرسول عليه الصلاة والسلام في بيان صفة الحوض (1) منها ما أورده الصاوي، وكلها تفيد أنه من نعم الله الجليلة على نبيه صلى الله عليه وسلم، وعلى أمته من بعده قد اختصت به، وأنه لا يشرب منه من خرج على اتباع المصطفى، وانساق وراء الأهواء والشبه، وقد أورد الصاوي في تقرير ما ورد فيه مسألتين، وهما: ومن وروده للشرب منه، الثانية: حال رواده.
فقد ذكر الصاوي اختلاف العلماء في زمن الشرب من الحوض، ورأى أن ذلك مما لا يضر الجهل به وهذا صحيح، وقد أورد القرطبي وابن حجر أقوال العلماء في ذلك (2) والذي يظهر أن ما ذهب إليه القرطبي أصح ما قيل في ذلك، فقد ذهب رحمه الله إلى أن الحوض يكون قبل الصراط، واستدل بحديث البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(بينما أنا قائم على الحوض إذا زمرة، حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بينى وبينهم، فقال: هلم، فقلت: أين؟ قال: إلى النار والله، قلت: وما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى، ثم إذا زمرة، حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بينى وبينهم، فقال: هلم، قلت أين؟ قال: إلى النار والله، قلت: ما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى، فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم)(3) يقول في وجه الاستدلال به: "فهذا الحديث مع صحته أدل دليل على أن الحوض يكون في الموقف قبل الصراط؛ لأن الصراط إنما هو جسر على جهنم ممدود يجاز عليه، فمن جازه سلم من النار"(4)
بقيت مسألة مهمة؛ وهي حال الناس مع الحوض في ورودهم إياه؛ فقد وردت أدلة كثيرة تفيد أن الحوض ترده أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه يرد عنه أهل الابتداع منهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إني فرطكم على الحوض، من مر على شرب، ومن شرب لم يظمأ
(1) انظر: مرويات الصحابة رضي الله عنهم في الحوض والكوثر. جمع عبد القادر بن محمد عطا صوفي.
(2)
انظر: التذكرة: (1/ 457). وفتح الباري: (11/ 466).
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الرقاق - باب في الحوض، رقم الحديث:6587.
(4)
التذكرة: (1/ 458).
أبدًا، ليردن على أقوام أعرفهم ويعرفونني، ثم يحال بينى وبينهم، فأقول: إنهم منى، فيقال: لا تدرى ما أحدثوا بعدك، فأقول: سحقًا سحقًا لمن غير بعدى) (1)
أما ما ذهب إليه الصاوي في إثبات الرد لأهل الابتداع في الدين بعد ذودهم عنه فقد قارب فيه كلام الحافظ ابن حجر في بعض توجيهاته للحديث، حيث قال:"وقيل هم أصحاب الكبائر والبدع الذين ماتوا على الإسلام، وعلى هذا فلا يقطع بدخول هؤلاء النار لجواز أن يذادوا عن الحوض أولًا عقوبة لهم ثم يرحموا"(2) ولكن الدليل السابق صريح في ذهابهم إلى النار، وعلى كل فليس لرجوعهم مرة أخرى إلى الحوض بعد ذودهم عنه دليل ولا حتى من كلام الحافظ لأنه لم ينص على رجوعهم وإنما على إمكان حلول رحمة الله بهم فلا يصار بهم إلى النار. وفيه بيان ما للمبتدع من الوعيد الشديد.
- أما عن الصراط فهو: "جسر ممدود على متن جهنم، يرده الأولون والآخرون، فهو قنطرة بين الجنة والنار"(3).
وفي بيان صفته يقول أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: (بلغنى أن الجسر أدق من الشعرة وأحد من السيف)(4).
ويروى في ذلك حديث آخر مطول فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ثم يؤتى بالجسر فيجعل بين ظهرى جهنم). قلنا: يا رسول الله، وما الجسر؟ قال:(مدحضة مزلة، عليه خطاطيف، وكلاليبا، وحسكة مفلطحة؛ لها شوكة عقيفة تكون بنجد، يقال له: السعدان، المؤمن عليها كالطرف وكالبرق وكالريح، وكأجاويد الخيل والركاب، فناج مسلم وناج مخدوش، ومكدوس في نار جهنم، حتى يمر آخرهم يسحب سحبًا)(5).
(1) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الرقاق - باب في الحوض، رقم الحديث: 6583 - 6584.
(2)
فتح الباري: (11/ 386).
(3)
لوامع الأنوار، للسفاريني:(2/ 189).
(4)
أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الإيمان - باب رؤية الله سبحانه في الآخرة: (3/ 34).
(5)
جزء من حديث طويل أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب التوحيد - باب قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} ، رقم الحديث:7439. وانظر: البدور السافرة في أخبار الآخرة، للسيوطي: باب ما ورد في الصراط: 330.
مسألة الشفاعة:
كانت هذه القضية من أعظم ما تطرق إليه الصاوي في حديثه عن حقائق يوم القيامة، وقد فصلت القول في أنواع شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم الثابتة في الصحاح، ومع ذلك فكلامه في هذه المسألة ينقصه بيان أنواع الشفاعة من حيث الاعتقاد، فالتسليم بأن شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم مقبولة قطعًا؛ لا يعني أن يعتقد إمكانها على كل حال، وفي حق كل أحد، كما يظن البعض، فقد يتوهم بعض الغلاة أنه إذا طلب الشفاعة من الرسول أو من بعض الصالحين فإن ما يرجوه من النجاة والفوز متحقق على جهة التأكيد، وألحق الذي لا مراء فيه أن الشفاعة المثبتة التي أتت الآيات والأحاديث بإثباتها لا تكون إلا بتحقق شرطين وهما: الإذن من المولى تعالى، ورضاه سبحانه عن المشفوع له، فإذا وجدت هذه الشروط حلت الشفاعة وأذن للشافع، قال تعالى:{وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم: 26].
وإذنه تعالى مرتبط بتحقق رضاه، بمعنى أنه ثمرة له، ورضاه تعالى عن المشفوع له إنما يتحصل إذا كان من أهل الإخلاص والتوحيد، لحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم:(أسعد الناس بشفاعتى يوم القيامة، من قال لا إله إلا الله، خالصًا من قلبه)(1).
إذًا فاعتقاد قبول شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لا ينافى ما تقدم؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لا يشفع إلا عند تحقق هذين الشرطين.
وهذه الشفاعة المثبتة التي دلت عليها نصوص الكتاب والسنة؛ تعنى أن الأمر كله لله وحده، فهى إذًا مستمدة من حقيقة التوحيد، الذي دعا الرسل إلى التمسك به، ومن المعلوم أن المشركين حين اعتقدوا استقلال آلهتهم في القيام بالشفاعة؛ صرفوا أنواع التقرب إليها من دون الله، فوقعوا في الشرك المخرج من التوحيد، وهذا ما نفسر به نفى الشفاعة في بعض الآيات، كقوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ
(1) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب العلم - باب الحرص على الحديث، رقم الحديث:99.
عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} [البقرة: 48](1)
وهذه هي المسماة بالشفاعة المنفية الشركية، التي ليس لها حقيقة إلا في أذهان معتقديها؛ كلما دلت على ذلك نصوص الكتاب والسنة. (2)
والأدلة على ثبوت الشفاعة للنبي صلى الله عليه وسلم كثيرة مستفيضة، سبق وأن أوردت بعضها، وقد بلغت حد التواتر المعنوى، فإن:"شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم نوع من السمعيات، وردت بها الآثار حتى بلغت مبلغ التواتر المعنوى، وانعقد عليها إجماع أهل الحق من السلف الصالح".
وأعظم أنواعها الشفاعة لفصل القضاء كما بين الصاوي، فإن هذه الشفاعة "مجمع عليها لم ينكرها أحد ممن يقول بالحشر، إذ هي للإراحة من طول الوقوف حين يتمنون الانصراف من موقفهم ذلك ولو إلى النار"(3)
وقد ثبتت الشفاعة أيضًا للأنبياء الآخرين، وكذلك للملائكة والشهداء والصالحين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث مطول ذكر فيه بعض ما يكون من أهوال يوم القيامة:(فيشفع النبيون والملائكة والمؤمنون، فيقول الجبار: بقيت شفاعتي، فيقبض من النار، فيخرج أقوامًا قد امتحشوا، فيلقون في نهر بأفواه الجنة يقال له: ماء الحياة، فينبتون في حافته كما تنبت الحبة في حميل السيل)(4).
* * *
(1) تقدم الحديث عن حقيقة التوحيد الذي أتى به الرسل عليهم السلام في مبحث التوحيد: 165.
(2)
انظر: تيسير العزيز الحميد: 288.
(3)
لوامع الأنوار: (2/ 208). ولمزيد من التوسع يوصى بالرجوع إلى الشفاعة للشيخ/ مقبل الوادعي.
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب التوحيد - باب قول الله عز وجل: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} ، رقم الحديث:7439.