الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والصاوى لدفع هذا التعارض الذي يراه بين ظاهر النص وما يجب أن يفسر بها اتباعًا للعقل فإنه يقرر مذهب التأويل أو التفويض، فمرة يوجب تأويل النص بما يوافق مذهبه الأشعري، ومرة يوجب التفويض بحيث يمتنع تعيين المعنى لمعارضته العقل المحكم في فهم النصوص المتعلقة بتوحيد الرب تعالى عنده. ولبيان هذا فإنه يتعين الحديث عن:
مسلك التأويل والتفويض:
وأصله المعتمد في انتهاج مسلك التأويل أو التفويض - كما سبقت الإشارة إليه - هو الوصول إلى معنى لا يعارض الأساس العقلى الذي تم به معرفة الله تعالى وهو تنزيهه عن مماثلة الحوادث الذي هو محصلة أصلهم المبتدع الذي اعتمدوه في إثبات وجود الباري تعالى وهو قولهم بأن: كل ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث.
وعليه فإنه ما من دليل من كتاب أو سنة يفيد إثبات صفة لله تعالى فيها ما يوهم - عنده - مخالفة لهذا الأصل المبتدع إلا ورام إبطالها وتنزيه المولى عنها.
يقول شارحًا قول اللقانى:
وكل نص أوهم التشبيها
…
أوله أو فوض ورم تنزيها
"وحاصل ما في هذا المقام أنه لما قدم - أي: اللقانى - أنه سبحانه وجبت له المخالفة للحوادث عقلًا وسمعًا، وورد في القرآن والسنة الصحيحة والحسنة ما يوهم إثبات الجهة والجسمية، وكان مذهب أهل الحق من السلف والخلف تأويل الظواهر لوجوب تنزيهه تعالى عنه، أشار إلى ذلك مقدمًا طريق الخلف لأرجحيته لقول أهل الفن: طريق الخلف أعلم وأحكم؛ لما فيه من مزيد الإيضاح والرد على الخصوم، وطريقة السلف ومنهم الأئمة الأربعة أسلم للسلامة من تعيين معنى يكون غير مراد له تعالى، والخلاف إنما هو في الأولوية وإلا فارتكاب كل كافٍ". (1)
(1) حاشية جوهرة التوحيد: 31.
"فظهر مما قررنا اتفاق السلف والخلف على تنزيهه تعالى عن معنى المحال، وعلى الإيمان بأنه من عند الله جاء به رسول الله، لكنهم اختلفوا في تعيين معنى صحيح وعدم تعيينه بناء على أن الوقف على قوله تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} أو على قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 7]. (1) "وهذه هي طريقة السلف، وأما طريقة الخلف فهى أحكم؛ فالوقف على أولى الألباب. فالراسخون معطوف على لفظ الجلالة". (2)
* * *
ومما تقدم تبين أنه جعل تنزيه المولى عن ظاهر النص مجمعًا عليه بين السلف والخلف ولكن اختلفت طريقتهم في ذلك، يقول مقررًا هذا المبدأ: فإن العلماء ذكروا أن من أصول الكفر الأخذ بظواهر الكتاب والسنة". (3)
ولكنه في تحليله السابق لمنهج السلف لم يصب الحقيقة، لأنه جعل مذهبهم - ومنهم الأئمة الأربعة - قائمًا على اعتقاد أن ظاهر النصوص يجب تنزيه المولى تعالى عنه لأن فيه مماثلة للحوادث - وهو ما عبر عنه بالمعنى المحال - وما كان كذلك وجب تفويضه للسلامة من تعيين ما لا يليق به سبحانه.
وهذا الذي توصل إلى فهمه من مذهب السلف لا يسلم له، فلم يؤثر عنهم اعتقاد كون النصوص يقتضى ظاهرها ما يخالف التمثيل الذي توهمه، كما تقدم بيانه؛ إذ هو مخالف لما هو معلوم من الدين بالضرورة من التسليم لدلالة النصوص واعتقاد ظاهرها دون ميل عن التوسط والاعتدال، وهذا الأصل دل عليه قول المولى تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]. فهذا إثبات للظاهر المعلوم من اللفظ، مع التحذير من التعمق الذي يؤدي إلى التكييف والتمثيل، يقول شيخ الإسلام: "ولكن السلف والأئمة لم يكونوا يسمون هذا ظاهرًا
(1) وانظر: المرجع السابق.
(2)
حاشية الجلالين: (1/ 131).
(3)
حاشية الجلالين: (1/ 131).
ولا يرتضون أن يكون ظاهر القرآن كفرًا وباطلًا والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم من أن يكون كلامه الذي وصف به نفسه لا يظهر منه إلا ما هو كفر وضلال". (1)
والحق أن السلف - رضوان الله تعالى عليهم - إنما كانوا يفوضون في الكيف فقط، والعمدة في ذلك قول الإمام مالك رحمه الله:"الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة"(2)
والتفويض في الكيف كما هو صريح في كلام الإمام مالك لا يعني تفويض المعنى، بل المعنى مفهوم كما أقر به - رضى الله عنه - ولكن الكيف هو الذي تفوض حقيقته لله تعالى؛ لأنه سبحانه كما أن له ذاتًا لا تماثل حقيقتها الذوات كذلك له صفات لا تماثلها الصفات. (3)
وقد تطرق الصاوى أثناء عرضه للقضية إلى مسألة هامة وهى بيان السبب الذي دعا إلى اختلاف المنهج بين المتقدمين والمتأخرين وجعل محل النزاع فيها مرتبطًا بالوقف في الآية الكريمة: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} .
ومناقشته ترجع:
أولًا: إلى بيان المراد بالمتشابه المذكور في الآية الكريمة، وهل يدخل فيه آيات الصفات كما ذكر؟
ثانيًا: بيان المراد بالتأويل الذي ورد فيها، وهل كان الوقف هو سبب لنشوء الخلاف؟
ثالثًا: ما مدى سلامة ما توصل إليه الصاوى من أنه على القول بجواز الوقف على: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} يصحح ما ذهب إليه المتكلمون من تعيين المعنى المراد بمثل ما ذهبوا إليه؟
(1) التدمرية: 69.
(2)
أخرجه اللالكائى في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة: برقم: 664: (3/ 398).
(3)
(التدمرية: 43).