الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(مطلب التكليف بالمحال)
(1)
قوله: (المحكوم فيه الأفعال: الإجماع على صحة التكليف بالمحال لغيره وفي صحة التكليف بالمحال لذاته قولان) المحكوم فيه الذي تتعلق به الأحكام الشرعية هو أفعال المكلفين، والمحال على ضربين: محال لذاته، ومحال لغيره، فالمحال لذاته كالجمع بين الضدين كالسواد والبياض، والقيام والقعود، والمحال لغيره كإيمان من علم الله تعالى أنه لا يؤمن كفرعون وأبي جهل وغيرهما من الكفار، إيمانهم ممتنع لا لذاته أي لا لكونه إيمانًا إذ لو امتنع إيمانهم لكونه إيمانًا لما وجد الإيمان من أحد وإنما امتنع إيمانهم لغيره، أي لعلة خارجة عنه وهو تعلق علم الله تعالى
(1) العنوان من الهامش.
والتكليف لغة مشتق من الكلفة وهي الأمر بما يشق، ومنه قول الخنساء:
يكلفه القوم ما نابهم
…
وإن كان أصغرهم مولدا
انظر: الصحاح للجوهري (4/ 1424)، القاموس المحيط (3/ 198) روضة الناظر ص (26).
واصطلاحًا: عرفه الموفق بأنه الخطاب بأمر أو نهي.
انظر: روضة الناظر ص (26) والبحر المحيط للزركشي (1/ ق 104 أ) وما بعدها، وغاية الوصول ص (137).
وإراداته بأنهم لا يؤمنون وخلاف إرادة الله تعالى ومعلومه محال لغيره بخلاف الجمع بين الضدين فإنه محال لذاته أي لكونه جمعًا بين الضدين فامتناعه لذاته لا أمر خارج عنه.
قوله: (فالإجماع على صحة التكليف بالمحال لغيره) كتكليف الكفار بالإيمان هذا الإجماع حكاه جماعة، لكن قال الآمدي: اتفقوا على جوازه بالممتنع لغيره خلافًا لبعض الثنوية فهذا كالخلاف الذي لا يرفع الإجماع (1).
والصفي الهندي كالمتوقف في صحة هذا الإجماع فلهذا أساغ منه حكاية التفصيل فإنه قال: المشهور عن المعتزلة منع التكليف بالمحال مطلقًا، غير أن بعضهم نقل أن الفرق كلها أجمعوا على جواز التكليف بما علم الله تعالى أنه لا يكون من الممكنات عقلًا، وعلى وقوعه شرعًا كالتكليف بالإيمان لمن علم الله سبحانه أنه لا يؤمن كأبي جهل إلا بعض الثنويه (2).
قال: فإن صح هذا النقل يجب أن يفصل بين ما يكون محالًا بسبب تعلق العلم بعدم وقوعه وبين ما لا يكون كذلك فنسب إليهم امتناع التكليف بالثاني دون امتناعه مطلقًا.
ثم قال: "ومنهم من فصل بين أن يكون محالًا لذاته وبين
(1) انظر: الأحكام له (1/ 103)، وانظر مختصر الطوفي ص (15) وشرح الكوكب المنير (1/ 485) وشرح تنقيح الفصول ص (143) وبيان المختصر للأصبهاني (1/ 413).
(2)
وممن نقل الإجماع الآمدي كما سبق وذلك لعدم الاعتداء بمخالفة التنويه لأن إجماع السلف منعقد قبل وجودهم. انظر: الأحكام للآمدي (1/ 107).
ما لا يكون كذلك فاختار التكليف بالثاني دون الأول، وإليه ذهب بعض المعتزلة ببغداد قالوا: يجوز أن يكلف الله العبد بالفعل في وقت علم الله تعالى أنه يكون ممنوعًا فيه" انتهى (1).
وأما المحال لذاته ففي صحة التكليف به قولان (2).
قال الشيخ مجد الدين: تكليف ما لا يطاق يقال على خمسة أقسام على الممتنع في نفسه كالجمع بين الضدين، وعلى الممتنع في العادة كصعود السماء، وعلى متعلق العلم والخبر والمشيئة بأنه لا يكون، وعلى جميع أفعال العباد لأنها مخلوقة لله تعالى وموقوفة على مشيئته وعلى ما يتعسر فعله لا يتعذر.
فالأولان ممتنعان سمعا بالاتفاق، وإنما الخلاف (في)(3) الجواز العقلي على ثلاثة أقوال، والثلاثة الباقية واقعة جائزة بلا شك، لكن هل يطلق على خلاف المعلوم أو (وفقه) (4) أنه لا (يطاق) (5)؟ فيه ثلاثة أقوال أحدها: يطلق عليهما، والثاني:
(1) كلام الصفي الهندي السابق أخذه الشارح عن تشنيف المسامع للزركشي (1/ ق 19 أ).
(2)
اختلف العلماء في صحة التكليف بالمحال لذاته فالأكثرون على منعه وكذا المحال عادة وأكثر الأشعرية والطوفي والرازي أجازوهما، وصحح الآمدي وجماعة التكليف بالمحال عادة فقط.
انظر: مختصر الطوفي ص (15)، وشرح الكوكب المنير (1/ 186) المستصفى (1/ 86) والأحكام للآمدي (1/ 102) والمحصول للرازي (1/ 2/ 363 - 398) البحر المحيط للزركشي (1/ ق 118) وما بعدها، إرشاد الفحول ص (9).
(3)
ليست في الأصل وزدتها من المسودة.
(4)
في المسودة (أو وقفه).
(5)
في الأصل (يطلق) والتصحيح من المسودة.
لا يطلق عليهما، والثالث الفرق، فالخلاف عند التحقيق يرجع إلى الجواز العقلي أو إلى الاسم اللغوي وأما الشرع فلا خلاف فيه البتة ومن هنا ظهر التخليط (1) انتهى.
وقال أبو بكر عبد العزيز: الله يتعبد خلقه بما يطيقون وبما لا يطيقون، فأطلق.
وقال أبو إسحاق من علمائنا. أن الله تعالى أراد تكليف عباده بما ليس في طاقتهم ولا قدرتهم واحتج باقوله تعالى: {وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ} (2)(3).
وقال ابن الجوزي: قال النقاش (4): ليس هذا تكليفًا لهم وهم عجزه بل توبيخ بتركهم السجود (5).
(1) المسودة ص (79) وانظر شرح الكوكب المنير (1/ 484 - 485).
(2)
"إلى السجود" ليست في الأصل.
(3)
سورة القلم: (42) وما قاله أبو بكر عبد العزيز وأبو إسحاق ابن شاقلا من وقوع التكليف بما لا يطاق متفرع على القول بصحته، والقول الثاني أنه لم يقع وحكي عن الأكثر. انظر: شرح الكوكب المنير (1/ 149).
(4)
هو محمد بن الحسين بن محمد الموصلي ثم البغدادي والمعرف بـ"النقاش""أبو بكر" ولد سنة 266 هـ وكان مقرئًا مفسرًا، وهو ضعيف في الحديث ومن كتبه: شفاء الصدور في التفسير، والإشارة في غريب القرآن، وتوفي سنة 351 هـ. انظر ترجمته: في شذرات الذهب (9/ 214 - 215) معجم الأدباء (18 - 146 - 149) معجم المؤلفين (9/ 214 - 215).
(5)
وكشف الساق إنما هو يوم القيامة فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: يكشف ربنا عن ساقه فيسجد كل مؤمن ومؤمنة ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقا واحدا.
وهو مخرج في الصحيحين وفي غيرهما من طرق وله ألفاظ.
انظر: تفسير ابن كثير (4/ 407) وفتح القدير للشوكاني (5/ 277).
وكذا قال الآمدي ليس تكليفًا للإجماع على أن الآخرة دار مجازاة (1).
وقال ابن حامد: ذهبت طائفة من أصحابنا إلى إطلاق الاسم في جواز تكليف ما لا يطاق في زمن وأعمى وغيرهما، وهو مذهب جهم (وبرغوث)(2).
ولنا خلاف هل القدرة لا تكون إلا مع الفعل أو قبله بمعنى سلامة الآلات كقول المعتزلة.
وقال في الروضة: فإن كانت محالًا كالجمع بين الضدين ونحوه لم يجز الأمر به، وقال قوم يجوز ذلك بدليل قوله تعالى:{وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} (3) والمحال لا يسأل دفعه ولأن الله تعالى علم أن أبا جهل لا يؤمن وقد أمره بالإيمان وكلفه إياه ولأن تكليف المحال لا يستحيل لصيغته إذ ليس يستحيل أن يقول {كُونُوا قِرَدَةً} (4){كُونُوا حِجَارَةً} (5) وإن أحيل طلب المستحيل للمفسدة ومناقضة الحكمة فإن بناء الأمور على ذلك في حق الله تعالى محال، إذ لا يقبح (منها)(6) شيء ولا يجب عليه الأصلح،
(1) انظر: الأحكام للآمدي (1/ 105).
(2)
في الأصل (دبرغوث)، وبرغوث هو أبو عبد الله محمد بن عيسى الجهمي، رأس البدعة، وأحد من كان يناظر الإمام أحمد وقت الفتنة، وتوفي سنة 240 هـ. انظر ترجمته في تهذيب سير أعلام النبلاء (1/ 393) ط. مؤسسة الرسالة، والبداية والنهاية (5/ 340) ط. دار الحديث.
(3)
سورة البقرة: (286).
(4)
سورة البقرة: (65).
(5)
سورة الإسراء: (50).
(6)
في الروضة "منه".
ثم الخلاف فيه وفي العباد واحد، والسفه من المخلوق ممكن فلا يستحيل ذلك أيضًا. ووجه استحالته قوله تعالى:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (1){لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (2)(ولأن)(3) الأمر استدعاء وطلب، والطلب يستدعي مطلوبًا وينبغي أن يكون مفهومًا بالاتفاق، ولو قال "أبجد هوز" لم يكن ذلك تكليفًا لعدم عقل معناه، ولو علمه الآمر دون المأمور لم يكن تكليفًا، إذ التكليف الخطاب بما فيه كلفة، وما لا يفهمه المخاطب ليس بخطاب، وإنما اشترط فهمه لتتصور فيه الطاعة إذ كان الأمر استدعاء الطاعة، فإن لم يكن استدعاء لم يكن أمرًا، والمحال لا تتصور الطاعة فيه فلا يتصور استدعاؤه (4)، كما يستحيل من العاقل طلب الخياطة من الشجر، ولأن الأشياء لها وجود في الأذهان قبل وجودها في الأعيان وإنما يتوجه إليه الأمر بعد حصوله في العقل، والمستحيل لا وجود له في العقل فيمتنع طلبه، ولأننا اشترطنا أن يكون معدومًا في الأعيان ليتصور الطاعة فيه فكذلك يشترط أن يكون موجودًا في الأذهان ليتصور إيجاده على وفقه.
وقوله تعالى: {وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} (5) فقد قيل المراد به ما يثقل ويشق بحيث يكاد يفضي إلى إهلاكه كقوله {اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ} (6) وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في المماليك.
(1) سورة البقرة: (286).
(2)
سورة الأنعام: (152).
(3)
في الأصل "وان" والتصحيح من الروضة.
(4)
في الروضة (استدعاؤها).
(5)
سورة البقرة: (286).
(6)
سورة النساء: (66).
"لا تكلفوهم ما لا يطيقون"(1).
وقوله {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} (2) تكوين وإظهار للقدرة و {كُونُوا حِجَارَةً} (3) تعجيز وليس شيء من ذلك أمرًا.
وتكليف أبي جهل الإيمان غير محال، فإن الأدلة منصوبة والعقل حاضر وآلته تامة، ولكن علم الله تعالى منه أنه يترك ما يقدر عليه حسدًا وعنادًا والعلم يتبع المعلوم ولا يغيره، ولذلك نقول الله تعالى قادر أن يقيم القيامة في وقتنا وإن كان أخبر أنه لا يقيمها الآن وخلاف خبره محال، لكن استحالته لا ترجع إلى نفس الشيء فلا تؤثر فيه (4).
تنبيه: تقدم ذكر الثنوية (5) وهم مجوس قائلون بأن للعالم ربين نور وظلمة، وكذبوا، بل الله سبحانه وتعالى وحده رب النور والظلمة وخالقها، كما قال تعالى:{وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} (6).
(1) لم أقف على الحديث بهذا اللفظ، وإنما رواه مسلم في كتاب الإيمان عن أبي هريرة مرفوعًا "للملوك طعامه وكسوته ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق" ورواه مالك (1902) وأحمد والبيهقي والشافعي كما أخرج مسلم حديث أبي ذر وفيه "ولا تكلفوهم ما يغلهم".
انظر: صحيح مسلم (11/ 134) وموطأ مالك (4/ 365) والفتح الرباني (14/ 146) وفيض القدير (1/ 221).
(2)
سورة البقرة: (65).
(3)
سورة الإسراء: (50).
(4)
روضة الناظر ص (28 - 29).
(5)
انظر: الملل والنحل للشهرستاني (2/ 80 - 81) واعتقادات فرق المسلمين للرازي ص (88 - 89) وقال الرازي: وهم أربع فرق.
(6)
سورة الأنعام: (1).