الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(العلم يحد عند أصحابنا)
(1)
قوله: (والعلم يحد عند أصحابنا، قال في العدة والتمهيد: هو معرفة المعلوم على ما هو به) اختلفوا في العلم هل يحد أم لا على قولين، وإذا قلنا يحد اختلفوا في حده على أقوال:
أحدهما: ما قاله القاضي أبو يعلى وأبو الخطاب وغيرهما: معرفة المعلوم على ما هو به (2).
(قال القاضي في العدة: "لو اقتصرنا على معرفة المعلوم لكفى، لأن معرفته لا تكون إلا على ما هو به، وإلا لم تكن معرفة له، وإنما قلنا "معرفة المعلوم" ولم نقل "الشيء" لأن المعلوم أعم لتناوله الموجود والمعدوم، وهو معلوم أيضًا، أي يتعلق به العلم، والشيء خاص بالموجود فليس المعدوم شيئًا على رأينا" (3).
(1) العنوان من الهامش.
(2)
وبهذا عرفه الباجي والقاضي أبو بكر الباقلاني في كتابه الإنصاف والتمهيد.
انظر: العدة لأبي يعلى (1/ 76)، والتمهيد لأبي الخطاب (1/ 36)، والحدود للباجي وهامشه (1/ 24).
(3)
العدة لأبي يعلى (1/ 77 - 88) بتصريف يسير.
وأبطل هذا التعريف بأمرين:
أحدها: أن المعرفة مرادفة للعلم، يقال:"علمت الشيء وعرفته" بمعنى واحد (1) ولهذا قيل في قوله تعالى: {لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} (2) أي لا تعرفونهم.
وتعريف الشيء بمرادفه لا يصح إذ هو تعريف له بنفسه (3).
الثاني: أنه تعريف دوري (4) لأن لفظ المعلوم مشتق من العلم ولا بد (من)(5) معرفته، وحينئذ يحتاج في معرفة العلم إلى معرفة العلم وهو دور (6).
وقال بعضهم: تبين المعلوم على ما هو به (7).
والحد للحقيقة ينتظمها شاهدًا وغائبًا، والله سبحانه يتعالى
(1) قال الغزالي: المعرفة خلاف العلم في اللغة، فإنها لا تتعدى إلا إلى مفعول واحد والعلم يتعدى إلى مفعولين، المنخول للغزالي ص (39).
(2)
سورة الأنفال: (60)، واستدل له بقوله تعالى:{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146)} [البقرة: 146] حيث أقام العلم مقام المعرفة والمعرفة مقام العلم، راجع التمهيد لأبي الخطاب (1/ 37).
(3)
انظر: المستصفى للغزالي (1/ 24).
(4)
الدور هو: توقف الشيء على ما يتوقف عليه، قاله الجرجاني في التعريفات ص (104).
(5)
ما بين المعكوفين تكرر بالأصل.
(6)
ما بين الحاصرتين نقله المؤلف من شرح مختصر الطوفي (1/ 48 / ب).
(7)
نسبة أبو الخطاب إلى بعض الأشعرية.
انظر: التمهيد له (1/ 36).
عن أن يوصف بأنه متبين لما في طبع هذه الكلمة وجوهرها من العثور على الشيء بعد خفائه، والظهور بعد استبهامه (1).
وقال بعضهم: معرفة الشيء على ما هو به، وهو باطل بالمعدوم كما تقدم.
وقال بعضهم (2): هو اعتقاد الشيء على ما هو به، وزاد بعضهم مع سكون النفس إلى معتقده.
وأبطل بأن الشيء لا يتناول المعدوم كما تقدم (3).
وبأن علم الله تعالى لا يسمى اعتقادًا وباعتقاد العامة، فإنهم يعتقدون الشيء ويسكنون إليه وقد يكون باطلًا في نفس الأمر وجهلًا.
وقال بعضهم (4): إدراك المعلوم أو الشيء على ما هو به، وإدراك لفظ عام مشترك بين إدراك الحواس والعلوم، والحد بالمشترك لا يجوز (5).
(1) انظر: الواضح لابن عقيل (1/ 2/ ب) وما بعدها التمهيد لأبي الخطاب (1/ 37 - 38)، البرهان للجويني (1/ 115).
(2)
هذا التعريف للمعتزلة ونسبه العضد لبعضهم.
انظر: البرهان للجويني (1/ 116)، والمواقف للايجي ص (10)، والمنخول للغزالي ص (39)، والعدة لأبي يعلى (1/ 79)، وشرح مختصر الطوفي (1/ 48 / ب).
(3)
قال الغزالي في دفع هذا الاعتراض: وليس ذلك شيئًا، فإن الشيء عندهم هو المعدوم الذي يجوز وجوده، عن المنخول للغزالي ص (39).
(4)
نسبه أبو الخطاب إلى بعض الأشعرية، وعزاه الزركشي إلى ابن السمعاني. انظر: التمهيد لأبي الخطاب (1/ 36) والبحر المحيط للزركشي (1/ 17/ ب).
(5)
انظر: المنخول للغزالي ص (37 - 38).
وقال بعضهم: الإحاطة بالمعلوم.
واعترض بأن الإحاطة أيضًا مشتركة يقال أحطت له رؤية وسماعًا.
وقال بعضهم (1): العلم ما أوجب لمن قام به كونه عالمًا. وهو دوري، لأن العالم من قام به العلم، فيصير التقدير "العلم ما أوجب لمن قام به أن يقوم به العلم"(2).
قال ابن عقيل: "وهذا أبعد من الكل، ثم قال بعد أن أبطل حدودًا كثيرة وأحسن ما وجدت لبعض العلماء أن قال: هو وجدان النفس الناطقة للأمور بحقايقها"(3).
قال بعضهم (4): وفيه من الخلل أن لفظ وجدان مشترك أو متردد غير أن قرينة التعريف دلت على أن المراد به الإدراك فيقرب الأمر.
وقال كثير من المنطقيين واختاره بعض (5) الحنابلة: هو القضاء بأن الأمر كذا، مع القضاء بأنه لا يمكن أن يكون إلا كذا قضاء لا يمكن زواله، والأمر في نفسه كذلك (6).
(1) هذا التعريف لأبي الحسن الأشعري.
انظر: البرهان للجويني (1/ 155)، والمواقف للإيجي ص (10)، والمنخول للغزالي ص (36)، والبحر المحيط للزركشي (1/ 17/ ب).
(2)
انظر: شرح المختصر للطوفي (1/ 48/ ب).
(3)
الواضح لابن عقيل (2/ 1 ب) - 3 (أ).
(4)
القائل هو الطوفي.
انظر: شرح المختصر له (1/ 49/ (أ".
(5)
نسبه الطوفي إلى جماعة من المتأخرين منهم ابن الصيقل من الحنابلة.
انظر: شرح المختصر له (1/ 49/ أ).
(6)
عن شرح المختصر للطوفي بتصرف.
انظر: الشرح له (1/ 48/ ب) - (49/ أ).
فـ "القضاء بأن الأمر كذا" جنس الحد و"مع القضاء بأنه لا يمكن أن يكون إلا كذا" فصل يخرج به الظن، لأنه قضاء بأن الحكم كذا لكن مع إمكان أن لا يكون، وقوله "لا يمكن زواله" يفصله عن اعتقاد المقلد المصمم على اعتقاده، فإنه يمكن زواله بالتشكيك أو بتغيير الاجتهاد، وقوله "والأمر في نفسه كذلك" يفصله عن الجهل لأنه قضاء لكنه غير مطابق (1).
قوله: (والأصح صفة توجب تمييزًا لا يحتمل النقيص، فيدخل إدراك الحواس كالأشعري. وإلا زيد في الأمور المعنوية).
قال الآمدي في الأحكام: "وقد ذُكر فيه حدود كثيرة أبطلناها في أبكار الأفكار (2) والمختار في ذلك أن يقال: العلم: عبارة عن صفة يحصل بها لنفس المتصف بها التمييز بين حقائق المعاني الكلية حصولًا لا يتطرق إليه احتمال نقيضه، وابن الحاجب (3) اختصر ذلك فقال صفة "توجب" (4) تمييزًا لا يحتمل النقيض"(5).
(1) عن شرح المختصر للطوفي بتصرف.
انظر: الشرح له (1/ 48 / ب) - (49 / أ).
(2)
في الهامش ما يلي: (أبكار الأفكار كتاب في الأصول والله أعلم أنه للشارح) وهذا خطأ من الناسخ فالكتاب المذكور للآمدي وقد سبق التعريف به.
(3)
انظر: المختصر لابن الحاجب (1/ 52).
(4)
ما بين المعكوفين تكرر في الأصل.
(5)
الأحكام للآمدي (1/ 10).
قال ابن مفلح: "والأولى (ما قاله) (1) بعض أصحابنا: صفة توجب للمتصف بها. أن يميز تمييزًا لا يحتمل النقيض".
قيل: فلا يدخل إدراك الحواس فإنها تميز بين المحسات -وفي لغة قليلة المحسوسات- الجزئية لا الأمور الكلية.
قال الآمدي: "فقولنا "صفة" كالجنس له ولغيره من الصفات" وقولنا "يحصل بها التمييز" احتراز عن الحياة وسائر الصفات المشروطة بالحياة، وقولنا "بين حقائق الكليات" احتراز عن الإدراكات (الجزئية)(2) فإنها إنما تميز بين المحسوسات الجزئية دون الأمور الكلية، وإن سلكنا مذهب الشيخ أبي الحسن (3) في أن الإدراكات نوع من العلم لم يحتج إلى التقييد بـ "الكليات"(4). انتهى.
فحينئذ يقال في الحد؛ صفة توجب تمييزًا لا يحتمل النقيض في الأمور المعنوية.
(1) ما بين المعكوفين اجتهدت في قراءته لعدم وضوحه.
(2)
ما بين المعكوفين زيادة من الأحكام.
(3)
هو علي بن إسماعيل بن إسحاق الأشعري اليماني (أبو الحسن) الإمام المشهور وإليه تنسب الطائفة الأشعرية، ولد سنة (260 هـ) قال عنه ابن خلكان: والي أبي الحسن انتهت رئاسة الدنيا في الكلام وكان في ذلك المقدم، والمقتدي وله مصنفات كثيرة منها: الرد على المجسمة -الفصول في الرد على الملحدين والخارجين عن الملة- الإبانة في أصول الديانة، وتوفي سنة (324 هـ).
انظر ترجمته: في الفتح المبين للمراغي (1/ 174) وما بعدها، وشذرات الذهب (2/ 303/ 306)، ومعجم المؤلفين للكحالة (7/ 35 - 36).
(4)
انظر: الأحكام للآمدي (1/ 10).
وعلى مذهب الأشعري يقال: صفة توجب تمييزًا لا يحتمل النقيض لأن إدراك الحواس عنده نوع علم، لكن اعترض عليه بجوار غلط الحس.
قوله: (وقيل (1): لا يحد، قال أبو المعالي: لعسره، قال: لكن يميز ببحث وتقسيم ومثال.
وقال صاحب المحصول: لأنه ضروري من وجهين:
أحدهما: أن غير العلم لا يُعلم إلا بالعلم، فلو علم العلم بغيره كان دورًا.
الثاني: إن كل أحد يعلم وجوده ضرورة) (2).
من المتكلمين من زعم أن لا سبيل إلى تحديد العلم لكن اختلفوا فمنهم من قال: لعسره، كإمام الحرمين والغزالي (3) وغيرهما (4). فإنهما قالا: إن تحديده بعبارة محررة جامعة للجنس والفصل عسر جدًّا، لأنه عَسِرٌ في أكثر الأشياء، بل في أكثر
(1) في الهامش (قيل: لا يجد).
(2)
راجع المحصول للرازي (1/ 1/ 102).
(3)
هو محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الطوسي الشافعي (حجة الإسلام زين الدين أبو حامد الغزالي) الإمام المشهور والمشهود له بالصلاح ولد سنة (450 هـ) وله مصنفات مشهورة منها: "المستصفي" المنخول في الأصول وإحياء علوم الدين" وغيرها، توفي سنة (505 هـ).
انظر: الفتح المبين (2/ 6 - 10)، وشذرات الذهب (4/ 10 - 13)، ومعجم المؤلفين (1/ 266 - 269).
(4)
انظر: البرهان للجويني (1/ 120) المنخول للغزالي ص (40)، وبيان المختصر للأصبهاني (1/ 40).
المدركات الحسية، فضلًا عن الإدراكات التي هي أخفى منها، ثم قالا: طريق معرفته القسمة وهي: أن يميز عما يلتبس به، وهو الاعتقادات، بأن يقال ليس بظن ولا شك لانتفاء الجزم دون العلم، ولا بجهل لكونه غير مطابق لما في نفس الأمر، والعلم مطابق له، ولا باعتقاد المقلد المصيب لكونه غير ثابت لغيره بالتشكيك بخلاف العلم، فإن ساعدت عبارة صحيحة عرف بها، وإن لم تساعد اكتفى بدركه، ولم يضر تقاعد العبارات، إذ ليس كل من يدرك شيئًا تنتظم له عبارة معرفة إياه، فلو فرضنا اللغات ودروس العبارات لاستقلت العقول بدرك المعقولات (1).
قال الآمدي: "قولهما "طريق معرفته القسمة" غير سديد، لأنهما إن لم تكن مفيدة لتمييزه عما سمواه (فليست معرفة له وإن كانت مميزة له عما سواه)(2) كان تعريفًا رسميًا وقد نفياه (3).
قال القطب: "وهذا غير سديد، لأن ما نفياه هو التعريف الحدي غير ما ألزمهما به وهو التعريف الرسمي".
ومنهم (4) من قال: لكونه ضروريًا.
(1) انظر: البرهان للجويني (1/ 120 - 121) المنخول للغزالي ص (40).
(2)
ما بين المعكوفين زدته من الأحكام ولعله سقط سهوا على الناسخ أو الشارح إذ لا يستقيم السياق بدونها.
(3)
الأحكام للآمدي (1/ 9) بتصرف.
(4)
القائل هو الفخر الرازي فإنه ذهب إلى أنه لا سبيل إلى تحديد العلم لكونه ضروريًا.
انظر: المحصول له القسم الأول (1) ص (102)، والمواقف للإيجي ص (9)، البحر المحيط للزركشي (1/ 17 ب)، وبيان المختصر (1/ 41 - 46).
واستدل على كونه ضروريًا بوجهين:
أحدهما: أن تصور غير العلم متوقف على تصور العلم، لأن غير العلم لا يعلم إلا بالعلم، فلو علم العلم بغيره لتوقف تصوره على تصور غيره المتوقف على تصوره، فيتوقف تصور العلم على تصوره، وهو دور باطل.
وأجيب: بأن توقف تصور غير العلم على حصول العلم بغيره لا على تصوره فلا دور.
قال القطب: "ويمكن أن يجاب بوجه آخر، وهو أن نقول: أن توقف تصور غير العلم على العلم هو من جهة كون العلم إدراكا له، وتوقف تصور العلم على الغير ليس من جهة كون ذلك الغير إدراكًا له، بل من جهة كونه صفة مميزة له عما سواه ومع اختلاف جهة التوقف فلا دور.
الوجه الثاني: أن كل أحد يعلم وجوده ضرورة -وهذا علم خاص- ويلزم منه أن يكون مطلق العلم ضروريًا، لأن مطلق العلم جزء من العلم الخاص.
وجوابه: أنا لا نسلم أن كل أحد إذا علم وجود بالضرورة تصور العلم الخاص، لأن المعلوم هاهنا وجوده، لا العلم بوجوده حتى يلزم ما ذكره، غاية ما في الباب أنه حصل علمه الخاص، لكن لا يلزم من حصول العلم بالشيء تصور ذلك العلم، لأنه لا يلزم من حصول أمر تصوره أو تقدم تصوره على حصوله (1).
(1) انظر: المواقف في علم الكلام للإيجي ص (9).