الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بها المتوفى بمراكش سنة 682 واشتهر بأنه كانت له مشاركة فى علوم الأصول والكلام والمنطق والحساب، وتتردد هذه الشهرة فى ترجمة كثيرين بالعصر المرينى. ويذكر الدكتور محمد (1) حجى فى العصر السعدى لعبد العزيز المكناسى المتوفى حوالى سنة 980 هـ/1572 م أرجوزة فى المنطق فى مائة وستة عشر بيتا وأرجوزة أخرى لعبد الرحمن البعقلي المار ذكره، ولعلهما أرادا مضاهاة عبد الرحمن الأخضرى الجزائرى المتوفى سنة 953 هـ/1546 م فى أرجوزته المنطقية المسماة باسم السلم وقد نالت شهرة واسعة فى العالم العربى ووضعت لها شروح كثيرة، ويذكر الدكتور حجى لمحمد بن عبد الله الهبطى مباحث الكلية والجزئية.
ويعرض الأستاذ عبد الله كنون طائفة (2) كبيرة من المنظومات والشروح والحواشى والدراسات المنطقية فى عصر العلويين، نذكر منها أرجوزتى القادرية لعبد السلام القادرى المتوفى سنة 1110 هـ/1699 م والخريدة لحمدون بن الحاج المتوفى سنة 1232 هـ/1817 م. وشرح سلم الأخضرى الجزائرى اليوسى المتوفى سنة 1102 هـ/1691 م وشرح السلم أيضا بنانى. ومن الحواشى حاشية على شرح سعيد قدورة الجزائرى لسلم الأخضرى لابن منصور الشفشاوى المتوفى سنة 1232 هـ/1817 م وحاشية أخرى له على شرح البنانى للسلم. وكل ما تقدم دليل على أن المغرب الأقصى ظل يعنى بعلوم الأوائل من طب وغير طب على مر السنين.
3 -
علوم اللغة والنحو والعروض والبلاغة
أخذ المغرب الأقصى يعنى بعلوم اللغة والنحو منذ القرن الخامس الهجرى، بل ربما بدأت العناية بهما منذ قيام الدولة الإدريسية وبعثها بفاس والمغرب الأقصى عامة حركة علمية قوامها العلوم الدينية وما يتبعها من علوم اللغة والنحو ومدارسة ما ألف فيهما مما هيّأ لنشوء طائفة مبكرة من الكتاب والشعراء. ولا شك أن لمعلمى الكتاتيب ومقرئى القرآن فضلا كبيرا فى هذا الجانب إذ كانوا يأخذون الناشئة بتعلم العربية ومعرفة بعض الألفاظ القرآنية ودلالاتها اللغوية وكذلك ألفاظ بعض ما يلقون عليهم من الأشعار. ولا نغلو إذا قلنا إن قراء الذكر الحكيم كانوا دائما لغويين ونحاة ونرمز إلى ذلك فى عصر المرابطين بمروان بن عبد الملك بن سمجون المتوفى بطنجة سنة 491 هـ/1097 م فقد ذكر عنه ابن عبد الملك المراكشى أنه تصدّر قديما لإقراء القرآن، وكان مقرئا مجودا ذا حظ من الشعر يذهب فيه إلى التقعير (3) وكان لغويا يستظهر الغريب فى أشعاره إلى حد التعمق اللغوى البعيد.
(1) راجع حجى 1/ 159.
(2)
النبوغ المغربى 1/ 314.
(3)
الذيل والتكلمة لابن عبد الملك المراكشى 8/ 2/372.
ونمضى فى عصر الموحدين ونلتقى بمحمد (1) بن أحمد بن هشام المشهور باسم ابن هشام اللخمى مستوطن سبتة المتوفى سنة 577 هـ/1181 م وكتابه فى لحن العوام الذى سماه «المدخل إلى تقويم اللسان وتعليم البيان» كتاب نفيس، حققه الدكتور خورسيه بيريث لآثار تحقيقا علميا قيما وطبعه معهد التعاون مع العالم العربى بالمجلس الأعلى للأبحاث العلمية فى مدريد. ومن قوله فى مقدمته:«أول ما يجب على طالب اللغة تصحيح الألفاظ العربية المستعملة التى حرّفتها العامة عن موضعها وتكلمت بها على غير ما تكلمت بها العرب فى ناديها ومجتمعها» وبدأ الكتاب بمراجعة الزبيدى الأندلسى فى كتابه لحن عامة زمانه وتخطئته لها فى ألفاظ للعرب فيها لغتان وبين ما وقع فيه من السهو والغلط، وذكر بعده أوهام ابن مكى الصقلى فى كتاب تثقيف اللسان. ثم عقد بابا لما جاء فيه عند العرب لغتان أو أكثر، واستعملت منهما العامة لغة ضعيفة، وربما عدلت إلى اللحن. وأتبعه بباب لما تلحن فيه العامة ولا دليل عليه من لسان العرب وبباب لما جاء لشيئين أو لأشياء فقصروه على واحد وبباب لما تمثلت به العامة محرفا فى صيغته عن صيغته الأصلية عند الشعراء. والكتاب فى نحو 430 صفحة رجع فيها مؤلفه إلى أبيات شعرية وأراجيز شغلت قوافيها فى فهارسه خمس عشرة صفحة من امرئ القيس إلى الشريف الرضى فى آخر القرن الرابع الهجرى. ولا يشك قارؤه فى أن المؤلف رجع فى هذه الدراسة إلى أمهات الكتب اللغوية، وقد وضع لها المحقق فهرسا تضمن نحو خمسين كتابا كما وضع فهرسا لمن ذكر فى الكتاب من اللغويين حتى ليبلغون فيه نحو تسعين. ولابن هشام اللخمى بجانب هذا العمل اللغوى القيم كتاب ما وقع فى أبيات كتاب سيبويه وشرحها للأعلم من الوهم والخلل، وله شرح فصيح ثعلب وهو كتاب لغوى ملئ بالألفاظ الغربية، وله أيضا شرح مقصورة ابن دريد، وهما من مراجعه فى كتابه عن لحن العامة. ويلقانا بعده من اللغويين فى عصر الموحدين أبو ذر مصعب (2) بن محمد بن مسعود الخشنى الجيّانى الأصل المستوطن لفاس وكان عالما لا يبارى فى اللغة ونحويا أديبا وكفاه شرفا شرحه لغريب السيرة النبوية العطرة، وعليه اعتمد كل من نشرها فى العصر الحديث. ومن لغويى هذا العصر محمد (3) بن عيسى بن أصبغ المشهور باسم أبى عبد الله بن المناصف المتوفى بمراكش خطيبا بجامع بنى عبد المؤمن لسنة 620 هـ/1223 م وكان فقيها نظارا جانحا إلى الاجتهاد مائلا إلى القول بمذهب الشافعى مناظرا عليه، وكان حافظا للغات مليئا من الآداب شاعرا مجيدا مرجزا مطبوعا، وله أرجوزتان لغويتان:«المذهبة فى نظم الصفات من الحلى والشيات» وهى أرجوزة ألفية نظمها بمراكش، وتلاها بأجوزة ثانية سماها المعقبة لكتاب المذهبة فى الأنعام والظباء وحمر الوحش والنعام وما يتعلق
(1) انظر فى ابن هشام اللخمى التكملة 370 وبغية الوعاة 1/ 48.
(2)
انظر ترجمته فى التكملة: 700 وجذوة الاقتباس 636.
(3)
انظر فى ابن المناصف ابن عبد الملك المراكشى 8/ 2/345.
بها». ومن لغويى عصر الموحدين يوسف (1) بن موسى الهوارى المتوفى بمراكش سنة 649 هـ/1252 م وفيه يقول ابن عبد الملك إنه كان ماهرا فى علوم اللسان أدبا ولغة ونحوا ويذكر له أبياتا فى ترتيب حروف معجم العين للخليل وأبياتا أخرى فى ترتيب حروف الصحاح للجوهرى.
ونمضى إلى العصر المرينى ونلتقى بالشاعر مالك (2) بن المرحل المتوفى سنة 699 هـ/1300 م ونظمه لغريب القرآن الكريم ولفصيح ثعلب، ولا نلبث أن نلتقى بأبى القاسم محمد بن أحمد الشريف الحسنى المتوفى سنة 760 هـ/1359 م وله شرح على مقصورة حازم القرطاجنى سماه:«رفع الحجب المستورة عن محاسن المقصورة» وهو منشور، ونلتقى بأبى زيد المكودى الفاسى المتوفى سنة 807 هـ/1404 م وله البسط والتعريف فى علم التصريف ونظم المعرّب من الألفاظ وشرح كتاب المقصور والممدود لابن مالك. وأخذت منذ العصر المرينى تؤلف كتب مختلفة فى غريب الحديث مثل «تحفة الناظر فى غريب الحديث» للرعينى الفاسى، ومثل شرح غريب الموطأ لمالك وصحيح البخارى وكتاب الشهاب لابن منصور المغراوى السجلماسى. وتتكاثر الشروح والحواشى فى العصر السعدى للقصائد النبوية مثل البردة والهمزية للبوصيرى ومقصورة المكودى فى المديح النبوى ولبعض كتب اللغة مثل الصحاح للجوهرى ولبعض القصائد المشهورة مثل لامية العرب ولامية العجم وبعض الدواوين وخاصة ديوان المتنبى، وشرحت لامية الأفعال لابن مالك والشافية لابن الحاجب. وتظل هذه الاتجاهات فى التأليف اللغوى طوال عصر العلويين، ويؤلف ابن زاكور (3) المتوفى سنة 1120 هـ/1708 م شرحا على حماسة أبى تمام باسم عنوان النفاسة فى شرح الحماسة وشرحا على قلائد العقيان للفتح بن خاقان باسم مقياس الفوائد فى شرح ما خفى من القلائد، وشرحا على لامية العرب باسم تفريج الكرب بشرح لامية العرب، ويؤلف محمد بن الطيب الشرقى المتوفى سنة 1170 هـ/1756 م شرحا على كتاب المزهر للسيوطى باسم المسفر عن خبايا المزهر، وحاشية على القاموس المحيط للفيروزآبادى باسم إضاءة الراموس حاشية على القاموس وشرح على لامية الأفعال وضوء القابوس فى زوائد الصحاح على القاموس وحاشية على درة الغواص للحريرى ويعدّد الأستاذ عبد الله كنون شروحا وحواشى أخرى فى اللغة لكثيرين (4).
وكان النشاط فى النحو لا يقل عن النشاط فى اللغة إن لم يزد عليه زيادة كبيرة، وأول نحوى كبير نلتقى به فى عصر المرابطين الحسن (5) بن على بن طريف المتوفّى سنة 501 هـ/1107 م
(1) راجع فى يوسف ابن عبد الملك المراكشى 8/ 2/437.
(2)
انظر فى أعمال مالك والشريف الحسنى والمكودى والرعينى والمعراوى النبوغ المغربى فى مواضع متفرقة بالجزء الأول ص 220، 221، 230.
(3)
انظر النبوغ المغربى 1/ 323.
(4)
راجع النبوغ المغربى 1/ 315.
(5)
النبوغ المغربى 1/ 100.
ظلّ يدرس النحو طوال عمره بسبتة، وهو أستاذ القاضى عياض وغيره من علمائها فى عصر المرابطين، ونلتقى بعده بعلى (1) بن محمد الجذامى المالقى الذى سكن سبتة واستوطنها إلى وفاته سنة 530 هـ/1135 م وكان يقرئ بها الذكر الحكيم لطلابه ويدرس لهم قواعد العربية، ومثله أحمد (2) بن الحطيئة الفاسى المتوفى زمن الموحدين سنة 560 هـ/1165 م إذ كان مقرئا للذكر الحكيم كما كان نحويا. ولا نبالغ إذا قلنا إن جميع المقرئين يعدون نحاة، إذ كانوا يحفّظون الصبيان ويقفونهم على حدود العربية كى ينطقوا بآى الذكر الحكيم نطقا سليما.
ولا يلبث أن يظهر فى المغرب الأقصى نحوى مهم هو عيسى (3) الجزولى المتوفى سنة 607 هـ/1210 م وهو خريج ابن برى العالم النحوى اللغوى المصرى المتوفى سنة 582 هـ/1186 م فقد حج ومرّ بالقاهرة وأعجب فيها بمحاضرات ابن برى فى النحو وكان يدرس للطلاب كتاب الجمل للزجاجى ويناقش مسائل النحو فيه وقضاياه وانتظم الجزولى بين طلابه، وسأله عن مسائل نحوية فأجابه عليها، وأثبت كل ما دار فى محاضراته وكل ما أدلى به ابن برى من أفكار أو بعبارة أدق أثبت ما أدلى به فى «مقدمة» عاد بها إلى بلده وأخذ يدرسها للطلاب فى المغرب والأندلس، ويعرّف به ابن عبد الملك فى الذيل والتكملة بقوله: جالب الكراسة المشهورة فى العربية عن أبى محمد بن برى نحوىّ الديار المصرية قدم عليه ولازمه، ومن كلام ابن برى المذكور على الجمل «للزجاجى» كتب ذلك التأليف المنسوب عند كثير من الناس إلى جالبه أبى موسى الجزولى باسم «الجزولية» ، ويقول القطفى إنه كان إذا سئل هل هى من تأليفك أجاب: لا، لأنها فى واقع الأمر من تأليف ابن برى الذى كان يلقيه على طلابه فى محاضراته ودروسه، ويقول القفطى أيضا: فيها كلام غامض وعقود لطيفة وإشارات إلى أصول صناعة النحو غريبة. وفى هذا كله ما يدل على أن المقدمة إنما هى محاضرات لابن برى، وعلى عادة التلامذة حين يكتبون ما يسمعونه من أساتذتهم فى المحاضرة ويتركون بعض قطع منها وبعض عبارات حدث ذلك نفسه فى المقدمة التى حملها الجزولى عن أستاذه ابن برى، ولو كان مؤلفا لها لخلت مما فى بعض عباراتها من غموض وما فيها من رموز وإشارات. على أن فى ذلك ما يدل بوضوح على أن عيسى الجزولى كان تلميذا بارا لأستاذه ابن برى، فرأى أن يحتفظ فى المقدمة بنصوص كلامه ولا يضيف إليها شيئا، فبدت فيها بوضوح هذه العيوب التى ذكرها القفطى. ومهما يكن فإنها هدية من مصر عن طريق ابن برى للمغرب الأقصى وقد عنى بها وشرحها كثيرون فى المغرب والأندلس وفى مقدمتهم الشلوبينى الأندلسى. وينزل المغرب الأقصى ابن خروف إمام النحو الأندلسى المشهور، ويترك
(1) انظر ابن عبد الملك المراكشى 5/ 281.
(2)
راجعه فى إنباه الرواة فى طبقات النحاة 1/ 39.
(3)
انظر الجزولى فى إنباه الرواة 2/ 378 وكتابنا المدارس النحوية ص 300 والذيل والتكملة لابن عبد الملك 8/ 2/547.
فيه تلامذة حملوا عنه كتاب سيبويه وشرحه له، منهم ابن رحمون عبد الرحمن بن محمد المصمودى، وكان من علية شيوخ سبتة، توفى سنة 648 هـ/1251 م ومنهم محمد بن يحيى العبدرى الفاسى المتوفى شهيدا بجبل الفتح سنة 651 هـ/1254 م.
ونلتقى فى أوائل عصر المرينيين بمحمد (1) بن الحسن الفهرى المعروف بابن المحلى وكلمة المحلى فى المغرب الأقصى تعنى-كما يقول ابن عبد الملك المراكشى-أنّ أباه كان قوالا يغنى فى المحافل والأسواق. وكان محمد من تلاميذ ابن خروف وله تقييدات على كتاب سيبويه توفى سنة 661 هـ/1261 م. وما تلبث فاس أن تخرج إماما نحويا مهما هو ابن آجروم (2) محمد بن محمد بن داود الصنهاجى المتوفى بفاس سنة 723 هـ/1323 م وآجروم كلمة بربرية معناها الفقير الصوفى. وليس بين أيدينا شئ واضح عن نشأته وشيوخه، ويقال إنه لقى أبا حيان النحوى الأندلسى بمصر وأخذ عنه فى طريقه إلى الحج. وقد طارت شهرته فى العالم العربى بمتن أو مختصر فى تعليم النحو للناشئة، ويقال إنه وضعه لابنه أبى عبد الله، وظلت طويلا الجوامع الكبرى والمدارس تفتتح تعليم النحو بهذا المختصر الذى يجمع المعالم الأساسية للنحو فيما لا يزيد عن خمس وعشرين صفحة بقطع الكف وكان الأزهر-إلى عهد قريب-يجعله أول ما يدرس لطلابه فى علم النحو لإلمامه بقواعد النحو فى ترتيب بديع، ويقول السيوطى فى ترجمته له بكتابه بغية الوعاة: إنه كان على مذهب الكوفيين فى النحو لأنه عبّر عن الجر قسيم الرفع والنصب بالخفض، كما عبّر الكوفيون وقال مثلهم فعل الأمر مجزوم لا مبنىّ كما يقول البصريون، وذكر بين الأسماء الجازمة «كيفما» وهى لا تجزم فى رأى البصريين. وأولى من رأى السيوطى أن يقال إنه بغدادى مثل الزجاجى وأبى على الفارسى يختار من آراء المدرستين البصرية والكوفية ما يراه الأدق والأوفق، فقد قال مع البصريين إن المنصوب بعد كان خبر لا حال كما يقول الكوفيون، وقال فى التوابع البدل لا الترجمة ولا التبيين كما يقول الكوفيون، وقال المنادى فى مثل يا زيد مبنى على الضم لا معرب بغير تنوين كما يقول الكوفيون. ومن طريف تيسيرانه للنحو أنه قال إن المضارع بعد كى ولامها ولام الجحود وحتى والفاء والواو منصوب بهذه الأدوات لا بأن مضمرة بعدها، وبذلك أخذت فى وجوه تيسير النحو التى قدمتها إلى مجمع اللغة العربية وأقرّها. ولم يهتم بمتن الأجرومية العالم العربى وحده فقد اهتم بها العالم الغربى أيضا، فطبعها المستشرقون مرارا وترجموها إلى لغاتهم: اللاتينية والإنجليزية والفرنسية وكانت أولى طبعاتها عندهم فى روما سنة 1592 للميلاد. ولابن العددى معاصر ابن آجروم فى قواعد العربية كتاب الكليات النحوية، وكان ابن (2) هاني اللخمى السبتى معاصرهما المتوفى سنة 733 هـ/1333 م من أئمة العربية، وكان يدرس النحو للطلاب، ومن
(1) الذيل والتكملة 8/ 2/520.
(2)
انظره فى النبوغ المغربى 1/ 220.
مؤلفاته النحوية شرح كتاب التسهيل لابن مالك. ولأبى القاسم الشريف الحسنى السبتى المار ذكره بين اللغويين شرح أيضا على التسهيل، وكان يدرس لطلابه ألفية ابن مالك.
ومن كبار النحاة فى عصر السعديين أحمد (1) بن قاسم القدومى المتوفى سنة 992 هـ/1584 م أستاذ الخليفة المنصور الذهبى السعدى ووصف بأنه نحوى زمانه غير مدافع وقال ابن القاضى إليه انتهت رياسة النحو فى عصره، وله حاشية على شرح الألفية للمرادى فى أربعة أجزاء. ومن أهم النحاة بعده قاسم (2) بن محمد بن القاضى المكناسى المتوفى سنة 1022 هـ/1613 م وله شرح على ألفية ابن مالك انتفع به طلبته وشرح آخر على الأجرومية انتفعوا أيضا به، وله أبيات فى الأفعال التى على حرف واحد يعلمها طلابه، منها قوله فى الفعلين: قى وعى (3):
إنّي أقول لمن ترجى وقايته
…
ق المستجير قياه قوه قى قينا
وإن هم لم يعوا قولى أقول لهم
…
ع القول ويك عياه عوه عى عينا
ويكثر النحاة فى العصر العلوى، ومنهم ابن الطيب الشرقى المار ذكره فى اللغويين، وله شرح (4) الكافية لابن الحاجب، وشرح لامية الأفعال لابن مالك وحاشية على التسهيل لابن مالك، وحاشية على شرح المرادى لألفية ابن مالك، وحاشية على المغنى لابن هشام، وشرح الاقتراح فى أصول النحو للسيوطى، وعنى بشرح كثير من الشواهد مثل شواهد الكشاف للزمخشرى وشواهد البيضاوى المفسر وشواهد التوضيح لابن هشام وشواهد التلخيص للقزوينى، ويفيض الأستاذ عبد الله كنون فى ذكر كتب النحو المؤلفة والشروح والحواشى ومؤلفيها فى العصر بجانب ما ذكره من أعمال ابن الطيب الشرقى، مما يدل على اتصال النشاط فى الدراسات النحوية بالمغرب الأقصى طوال الأزمنة الماضية.
وكان الدارسون للنحو فى كل تلك الأزمنة يعرضون-أو يعرض كثير منهم-على طلابهم عروض الشعر العربى كى يحسنوا النطق به إذا أنشدوه، ولكى يعرفوا بدقة موازينه وقواعدها إذا أرادوا صنع شئ منه أو نظمه، وأول ما نلتقى به من كتب هذا العلم كتاب فى عصر الموحدين لأبى ذر مصعب الخشنى الذى مر ذكره فى أول الحديث عن اللغويين. ونلتقى فى أوائل العصر المرينى بمالك بن المرحل الذى مرّ ذكره فى الحديث عن اللغويين، وله أرجوزة
(1) انظر فى القدومى درة الحجال 1/ 156 وروضة الآس للمقرى ص 34.
(2)
راجع فى قاسم بن محمد روضة الآس ص 225 والصفوة لليفرنى ص 95 والمنتقى المقصور على مآثر الخليفة المنصور لابن القاضى (طبع الرباط) ص 790.
(3)
المنتقى ص 791.
(4)
راجع النبوغ المغربى فى مؤلفات ابن الطيب الشرقى وغيرها من مؤلفات العصر.
فى علم العروض ورسالتان (1) فى وزن الرباعيات وهما تعرضان وزنين للرباعيات أو الدوبيت كما سماها الإيرانيون ومعنى دو عندهم اثنان، والوزن الأول فعلن متفاعلن فعولن فعلن والوزن الثانى فعلن فعلن مستفعلن مستفعلن. وكان ضياء الدين الخزرجى قد ألف متنا أو منظومة فى هذا العلم فشرحها أبو القاسم الشريف المار بين اللغويين وسمى شرحه باسم رياضة الأبىّ فى شرح قصيدة الخزرجى، وهو أول من شرحها شرحا وافيا. ولابن رشيد محمد بن عمر الفهرى السبتى الرحالة المتوفى سنة 721 هـ/1322 م كتاب فى القوافى سماه: وصل القوادم بالخوافى فى ذكر أسماء القوافى، وكتاب ثان سماه باسم كتاب فى العروض. ويذكر الدكتور حجى للعصر السعدى كتابين (2) فى علم العروض: كتابا لابن غازى باسم «إمداد بحر القصيد ببحرى أهل التوليد» ويقصد بأهل التوليد المولدين من الشعراء، وببحريهما أو بوزنيهما بحر أو وزن المتدارك، وهو وزن محدث فى العصر العباسى، وبحر أو وزن الدوبيت أو بعبارة أخرى الرباعية ووزنها أيضا محدث. وقد ذكرت فى العصر العباسى الأول أنها بدأت مع بشار وأنها كثرت عند أبى نواس وأبى العتاهية وضربت لها بعض الأمثلة ومنذ القرن الخامس الهجرى يتّخذ لها وزنان كما أسلفنا وبيّن ذلك غاية التبيين مالك بن المرحل فى الرسالتين اللتين ذكرناهما آنفا. والكتاب الثانى الذى ذكره الدكتور حجى كتاب كافية النهوض فى صناعة العروض لعبد العزيز الرّسموكى. ونلتقى فى العصر العلوى بمحمد بن زاكور المذكور بين اللغويين، وله شرح على منظومة الخزرجية باسم:«النفحات الأرجية والنسمات البنفسجية بنشر ما راق من مقاصد الخزرجية» كما نلتقى بحمدون بن الحاج المتوفى سنة 1232 هـ/1817 م وله مقصورة فى العروض والقوافى.
وظل المغرب الأقصى يتدارس ما أنتجه المشرق فى علوم البلاغة والبديع من أعمال قيمة عند أمثال ابن المعتز وقدامة وابن وهب والحاتمى والآمدى والعسكرى والباقلانى وابن سنان الخفاجى وعبد القاهر الجرجانى والزمخشرى والسكاكى وابن أبى الإصبع، مضيفين إلى ذلك مدارسة بعض أعمال مغربية وخاصة كتاب العمدة لابن رشيق، وقد يتناولون أعمالا سابقة بالشرح على نحو ما صنع ابن رشيد بشرحه لكتاب فى التجنيس أو الجناس. ولم يلبث المغرب الأقصى أن أهدى إلى علوم البلاغة والبديع علمين فذين، هما ابن البناء أحمد بن محمد بن عثمان الأزدى المولود بمراكش سنة 653 هـ/1256 م العالم الرياضى البارع الذى لا تزال كتبه أو بعضها تدرس إلى اليوم فى المغرب الأقصى المتوفى سنة 721 هـ/1322 م، وأبو محمد القاسم بن محمد الأنصارى السجلماسى، ولا نعرف شيئا
(1) انظر تعريفا بالرسالتين فى الجزء الخاص بالعراق فى المجلد الخامس من تاريخ الأدب العربى ص 328 وهما منشورتان فى العدد الرابع من المجلد الثالث من مجلة المورد ببغداد.
(2)
انظر الحركة الفكرية 1/ 151.
عن تاريخ مولده ووفاته سوى أنه أملى كتابه فى البديع أو أنهى تأليفه سنة 704 هـ/1305 م مما يؤكد أنه كان معاصرا لابن البناء.
ومر ذكر ابن البناء فى حديثنا عن علوم الأوائل، وقلنا هناك إنه بلغ الغاية فى مختلف العلوم الدينية واللغوية والبلاغية وفى العلوم الفلسفية ولا سيما فى الرياضيات والفلك. وعلى نحو ضبطه لقوانين الرياضة ضبط قواعد النحو فى كتاب سماه الكليات النحوية، وأكبر الظن أنه وزع قواعد النحو فيه على كليات عامة تستقصى كل كلية مجموعة من قواعده. وبالمثل صنع بالبديع فى كتابه:«الروض (1) المريع فى صناعة البديع» والمريع أى الخصب وكلمة البديع عنده تعنى بالضبط ما عناه بها ابن المعتز فى كتابه «البديع» إذ ساق فيه الصور البيانية من تشبيه وغير تشبيه والألوان البديعية من طباق وغير طباق والأصباغ البلاغية فى علم المعانى، إذ ذكر بين محسنات الكلام الالتفات ورد الأعجاز على الصدور وتجاهل العارف وتأكيد المدح بما يشبه الذم والعكس والخروج من معنى إلى معنى ويشمل الاستطراد. وبذلك تضمن كتاب ابن المعتز علوم البلاغة جميعا وكان الزمخشرى أول من ميّز بين علمى البيان والمعانى كما جاء فى مقدمة تفسيره:«الكشاف» وجعل علم البديع ذيلا لهما كما يقول السيد الجرجانى فى شرحه لكتاب المفتاح للسكاكى. وبهذا التصور كتب السكاكى وتوالت بعده الكتب البلاغية تجمع بين هذه العلوم لثلاثة: البيان والمعانى والبديع، غير أن بعض علماء البلاغة رأى أن يعود إلى التعبير بكلمة البديع عن كل هذه العلوم على نحو ما يلاحظ عند ابن أبى الإصبع المصرى المتوفى سنة 654 هـ/1257 م فى كتابه «بديع القرآن» . فكلمة البديع عنده- كما عند ابن البناء-تعنى علوم البلاغة من بيان ومعان وبديع، وقد بلغ تعداد محاسنها وقواعدها عند ابن أبى الإصبع فى كتابه:«بديع القرآن» مائة قاعدة ونيّفا، وبلغت فى كتاب ثان له باسم:«تحرير التجبير فى صناعة الشعر والنثر وبيان إعجاز القرآن» مائة وخمسا وعشرين قاعدة. وكأنما رأى ابن البناء بعقله المنطقى أن ييسر تصورها على الدارسين بوضع كل مجموعة من القواعد الجزئية الكثيرة عند البلاغيين فى قاعدة كلية تجمعها أو قل تجمع ما رآه حريا ببيانه وتوضيحه، وهو يقدم لكتابه بتوطئة-أو كما نقول الآن بتمهيد-يتحدث فيها عن تأليفه للكتاب وغرضه منه قائلا:«غرضى أن أقرر فى هذا الكتاب من أصول صناعة البديع ومن أساليبها البلاغية ووجوه التفريع [فيها] تعريفا غير مخلّ، وتأليفا غير ممل، يصغر جرمه ويكثر علمه. . ومنفعته فى زيادة المنّة، وفهم الكتاب والسنّة» ويريد بزيادة المنة زيادة القدرة على فهم البلاغة القرآنية والنبوية وتلى ذلك ثلاثة أبواب: والباب الأول مقدمات فى الدلالة والكلام والبديع وهو فى ثلاثة فصول أولها يتناول الدلالة وارتباطها باللفظ والمعنى فى أقسامها،
(1) حقق هذا الكتاب ونشره الأستاذ رضوان بنشقرون فى الدار البيضاء بالمغرب الأقصى.
والفصل الثانى فى أقسام الكلام من حيث الصياغة إلى منظوم ومنثور ومن حيث المخاطبات إلى برهان وجدل وخطابة وشعر ومغالطة، ومن حيث الواقع إلى حقيقة ومجاز، ومن حيث مواجهة المعنى للغرض إلى القواعد الكلية الأربع التى سيعرض لها فى الباب الثانى، ومن حيث دلالته على المعنى إلى القواعد الكلية الثلاث التى يذكرها فى الباب الثانى. والفصل الثالث فى صناعة البديع، وفيه يذكر أن البلاغة قد تكون فى الإيجاز أو فى المساواة أو فى التطويل، أما الفصاحة فصفة للفظ وسهولة مخارجه وعذوبته فى السمع، والصناعة المتكفّلة بذلك هى صناعة البديع التى تعرض القوانين الكلية وما يندرج تحتها من الجزئيات. ويحاول أن يصل بين البديع وبين البلاغة والبيان. وفى الباب الثانى يتحدث عن أقسام اللفظ من جهة مواجهة المعنى، ويجعله فى أربعة فصول أو أربع كليات عامة الفصل الأول أو الكلية الأولى فى الخروج من شئ إلى شئ وتشمل ما يسمى بالتخلص من موضوع إلى موضوع كما تشمل الإدماج وهو أن يدمج المتكلم غرضا فى غرض والتفريع والاستطراد والخروج من إثبات شئ إلى نفيه أو العكس والاعتراض والالتفات. والفصل الثانى أو الكلية الثانية تشبيه شئ بشئ، ونشمل صور التشبيه التشابه فى النّسب ويدخل فيها مراعاة النظير والمقابلة والطباق. والفصل الثالث أو الكلية الثالثة تبديل شئ بشئ وتشمل الاستعارة والتمثيل وتبادل الكلى مع الجزئى والعكس وتبادل الحقيقة مع المجاز والواجب مع الممكن وإبدال المدح بصورة الذم والعكس والخبر مع الطلب والعكس وما كان مع ما يكون والعكس. ويفسح لمسألة لغوية هى وصف المؤنث بصيغة المذكر والعكس مثل امرأة صبور ورجل علامة. والفصل الرابع أو الكلية الرابعة تفصيل شئ بشئ ويدخل فيه التقسيم والتشكيك والتضمين أو الإيحاء ثم الاتساع بدلالة البيت دلالات مختلفة، والتوضيح، وهو مصطلح غير واضح فى التعبير عن مراده، وهو عند الرمانى حسن البيان. والباب الثالث أقسام اللفظ من جهة الدلالة على المعنى وهو فى ثلاثة فصول، الفصل الأول أو الكلية الأولى عن الإيجاز وأدخل فيه الحذف اللغوى كحذف العائد والمضاف والصفة والموصوف. والفصل الثانى أو الكلية الثانية عن الإكثار ومنه الاستظهار وهو استغناء القول عن تكملته ومجئ الصفات أو النعوت للتخصيص بعد النكرات وللتعيين بعد المعارف، ومنه التذييل والتتميم أو التكميل والتسوير وهو التعميم بعد التخصيص أو العكس، ومنه الترادف. والفصل الثالث أو الكلية الثالثة التكرير ومنه قبيح ومفيد، ويكون للتقرير أو للتأكيد أو للمقايضة أو للتصدير أو للترديد، ومنه المشترك اللغوى والبيانى، ومنه التجنيس وفرّعه نحو اثنى عشر فرعا. وإنما أطلت فى عرض هذا الكتاب لأدل بوضوح على أن ابن البناء استطاع أن يخضع البديع أو البلاغة للمنطق، وان يجعل لها سبع كليات تضمنت أبواب علم البديع أو علوم البلاغة كما كان يتصورها عصره منذ ابن أبى الإصبع مع إضافة بعض مسائل لغوية وأظهر فى ذلك ذكاء وبراعة فائقين وقد حقق الكتاب تحقيقا سديدا وقدم له بدراسة
قيمة الأستاذ رضوان بنشقرون رادّا كثيرا من مسائله إلى كتب المشارقة البلاغية والعمدة لابن رشق.
وعلى ضوء هذا الكتاب وإخضاع علم البديع فيه للمنطق مع إدخال بعض المسائل اللغوية على المصطلحات البديعية ألف معاصر لابن البناء هو أبو محمد القاسم السجلماسى كتابه: «المنزع البديع فى تجنيس أساليب البديع (1) وكلمة البديع عنده-كما عند ابن البناء وابن أبى الإصبع وابن المعتز-تشمل كل صور البيان وألوان البديع ومحسنات المعانى ووجوهها البلاغية المختلفة، وواضح من اسم الكتاب أنه أراد أن يجارى ابن البناء فى وضع جنس كلى لكل مجموعة من قواعد البديع الجزئية الكثيرة، ورأى أن يخالفه فى الأجناس التى جعلها كليات وعنوانا للفصول السبعة فى البايين الثانى والثالث فى كتابه، وهى عنده عشرة هى: الإيجاز- التخييل-الإشارة-المبالغة-الرصف-المظاهرة-التوضيح-الاتساع-الانثناء-التكرير. وهو يلتقى مع ابن البناء فى الإيجاز ويدخل فيه الحذف اللغوى مثله، غير أن ابن البناء يستنبط منه أربع صيغ بلاغية بينما يستنبط السجلماسى أكثر من عشر صيغ بلاغية، وتقسّم فى أثناء ذلك الصيغ تقسيمات كثيرة، إذ ينقسم الجنس إلى فروع والفرع ينقسم إلى فريعات أو غصون، والغصون تنقسم إلى غصينات دون أن تميّز هذه الأقسام المتولدة والمتنوعة بأسماء تعيّنها، فمثلا عنده المفاضلة ويعنى بها النقص عن المضمون فى الكلم: نوع من الإيجاز، وهى نوعان وكأنها جنس متوسط، والنوع الأول من نوعيها الاختزال، والاختزال بدوره نوعان: اصطلام أى قطع وبتر، وحذف وهو بدوره نوعان: إطلاق وانتهاك، والانتهاك أنواع. وهى صعوبة واضحة فى الكتاب، غير أن فيه ذكاء بارعا وقدرة منطقية إلى أقصى حد ممكن. ونترك جنس الإيجاز إلى جنس التخييل وما يتصل به من التشبيه والاستعارة والمجاز وهو يقابل عنده الفصل الأول من الباب الثانى عند ابن البناء الخاص بكلية التشبيه، والتعبير بالتخييل أدق غير أنه لم يضع فيه الكناية، إذ عقد لها الجنس الثالث فى كتابه، ولكن لا باسمها وإنما باسم الإشارة، والبلاغيون قبله يدخلون فى أنواعها كل ما سماه من أنواعها وفروعها ما عدا حذف الحروف من الكلمة المذكور فى آخر جنسها أو حذف بعض الجمل ويسمونه باسم الاكتفاء. والجنس الرابع عنده المبالغة، وأحسن حين جعل لها جنسا خاصا وقد بدأها بالصيغ اللغوية المستعملة فى المبالغة مثل حسّان-طوال-رحمن-شرّير غير أنه استكثر من أنواعها حتى بلغت نحو المائة واستغرقت اللغة-فيما بعد صفحات كثيرة كما فى 306 إلى 308 وأيضا فإنه أدخل فيها كثيرا من صيغ المجاز المرسل كتسمية السبب باسم المسبب وعكسه وتسمية الشئ بأولاه وبعقباه. والجنس الخامس الرصف ويعنى به نسق الكلام وترتيبه، ويدخل فيه التسهيم،
(1) حقق هذا الكتاب ونشره الأستاذ علال الغازى فى مكتبة المعارف بالرباط.
وهو أن يشهد أول الكلام بآخره كما يدخل فيه التقسيم والمقابلة والالتفات أو مراجعة المعنى الماضى. والجنس السادس المظاهرة ويدخل فيها المطابقة وهى الجناس باللفظ المماثل، والمكافأة وهى الطباق وتشمل المقابلة، كما تدخل المقايضة فى مثل قوله عز وجل:{تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ} ويسميه ابن أبى الإصبع فى كتابه بديع القرآن: «العكس والتبديل» وتدخل المزاوجة وهى بنفس الاسم عند ابن أبى الإصبع (ص 28 من بديع القرآن) كما يدخل التصدير وهو رد الأعجاز على الصدور عند ابن أبى الإصبع فى كتابه تحرير التحبير ص 116، ويقول إن المتأخرين سموه التصدير، ويدخل الترديد وهو بنفس الاسم عند ابن أبى الإصبع (ص 96 من بديع القرآن). والجنس السابع التوضيح، وكان ينبغى أن يسميه حسن التوضيح لأن التوضيح من حيث هو لا يعد بديعا، ولذلك سماه الرمانى حسن البيان وفى رأيى أن السجلماسى تابع فى ذلك ابن البناء غير أنه تحدث عنه كنوع فى الفصل الرابع أو الكلية الرابعة الخاصة بتفصيل شئ بشئ وجعل منه التفسير كما صنع السجلماسى، وكان حريا به أن يجعله فرعا لأحد الأجناس كجنس الرصف. والجنس الثامن الاتساع وهو أن يحتمل القول أو البيت معنيين أو أكثر، وذكره ابن أبى الإصبع (ص 173 من بديع القرآن) كما ذكره ابن البناء فى الفصل الرابع أو الكلية الرابعة من الباب الثانى فى كتابه، ولم يتسع السجلماسى بالحديث فيه، وكان حريا أن لا يعقد له جنسا مستقلا. والجنس التاسع الانثناء، وهو بأنواعه الأصلية والفرعية يقابل الفصل الأول أو الكلية الأولى من الباب الثانى عند ابن البناء وهى الخروج من شئ إلى شئ. وربما كانت تسمية الكلية على هذا النحو أدق من تسمية الجنس عند السجلماسى.
والجنس العاشر التكرير وهو نفس الكلية الأخيرة عند ابن البناء، والتجنيس مفرّع عنده إلى نفس فروعه عند ابن البناء، وهما يلتقيان فيها مع ابن أبى الإصبع (ص 27 من بديع القرآن وص 102 من تحرير التحبير). ومواضع الالتقاء بين ابن أبى الإصبع والسجلماسى كثيرة، وبيانها يحتاج إلى مقابلات وتفصيلات لا تسعها هذه الدراسة. وإنما ذهبت إلى أن ابن البناء هو الذى ألف كتابه أولا ثم ألف السجلماسى كتابه لأنه أخذ منه فكرة الجنس الكلى للقواعد البديعية، وفكرة إدخال مسائل لغوية كثيرة فى دراسة البديع، مع الاشتراك فى أسماء بعض الأجناس والكليات والمصطلحات وفى كثير من التعريفات والأمثلة والشواهد، وكأن ابن البناء هو الذى بدأ فكرة الكليات التى صدر عنها فى كتابه الكليات النحوية وفى هذا الكتاب الخاص بالبديع. والسجلماسى هو الذى انتهى بها إلى الغاية-على هدى علم المنطق-إذ استحالت فكرة الكلية عنده إلى فكرة الجنس وأنواعه، ومضى فى الكتاب يطبق المنطق بقضاياه ومقولاته وأقيسته ولا يخفى ذلك بل يصرح به مرارا، حتى لينقل كلامه بنصه مرارا (انظر الفهرس) ومما لا ريب فيه أن السجلماسى حاول جاهدا أن يمنطق البديع، وتم له ذلك، غير أنه توسع
فى التفريعات على نحو ما يتضح فى تفريعاته على الإيجاز والمبالغة والمظاهرة والتكرير، ولعل ذلك كان أهم سبب فى أن الكتاب لم يكتب له ولا لمنهجه الذيوع والانتشار فى حلقات دراسة البلاغة والبديع فى البيئات العربية حتى فى بيئة المغرب الأقصى نفسها مع أن فيه أمثلة وشواهد بديعية رائعة تشهد للسجلماسى بحسن ذوقه ورهافة حسّه البديعى أو البلاغى. وقد بذل الأستاذ علال الغازى جهدا واضحا فى تحقيقه لهذا الكتاب ودراسته وما صنع له من فهارس مختلفة.
ونعجب أن ينصرف المغرب الأقصى-بعد السجلماسى-عن الإكباب على كتابه بالدرس والشرح وأن يعنى-مثل مصر والشام-بدراسة كتاب التلخيص للقزوينى المتوفى سنة 739 هـ/1389 م ولعلى الياصلاتى فى العصر السعدى حاشية على شرح السعد لتلخيص القزوينى وهو تلخيص لعلوم البلاغة الثلاثة: البيان والمعانى والبديع، ولحمدون بن الحاج فى العصر العلوى المتوفى سنة 1232 هـ/1817 م حاشية على الشرح المختصر لسعد الدين التفتازانى لتخليص القزوينى. ومن يرجع إلى الفصل الذى عقده حاجى خليفة فى كتابه:«كشف الظنون» لتلخيص القزوينى يشعر أنه أصبح المسيطر على كل الأبحاث البلاغية فى العالم العربى، وقد أقبل عليه الشراح يشرحونه يشرحه المغربى والمصرى والعراقى وغيرهم وقد يضعون على الشروح شروحا، ويسمونها حواشى، بحيث أصبح هو وتلك الشروح والحواشى المادة الأساسية لتعليم البلاغة بفروعها المختلفة من بيان ومعان وبديع فى جميع الأقطار والبلدان العربية.
4 -
علوم (1) القراءات والتفسير والحديث والفقه والكلام
يعنى المغرب الأقصى-من قديم-بقراءات القرآن الكريم، ومن أهم قرائه-قبل عصر المرابطين-أبو عمران موسى بن عيسى الفاسى، أخذ القراءات عن أئمتها فى القيروان ومصر ومكة وبغداد، وأقرأ الناس بالقيروان مدة. وكان يعاصره سليمان بن أحمد الطنجى المتوفى سنة 440 هـ/1048 م رحل إلى مصر وبرع فى القراءات كما يقول ابن الجزرى. ونزل سبتة
(1) انظر فى تراجم القراء والمفسرين والمحدثين والفقهاء والمتكلمين طبقات القراء لابن الجزرى والذيل والتكملة لابن عبد الملك المراكشى والديباج لابن فرحون والمنتقى المقصور على مآثر الخليفة المنصور السعدى وما وضع محققه فى هوامشه من مصادر لبعض الأعلام وكتاب النبوغ المغربى لعبد الله كنون وحضارة الموحدين لمحمد المنونى ومظاهر الثقافة المغربية فى الأدب المغربى بالعصر المرينى لمحمد بن شقرون والحركة الفكرية بالمغرب لمحمد حجى والحياة الأدبية فى المغرب على عهد الدولة المغربية للأخضر.
قبل عصر المرابطين على بن عبد الغنى الحصرى المتوفى بطنجة سنة 468 هـ/1075 م وله قصيدة رائية مشهورة فى قراءة نافع. ونلتقى فى عصر المرابطين بالمقرئين: مروان بن سمجون المتوفى سنة 491 هـ/1097 م ولى الصلاة والخطبة بسبتة وتصدّر قديما لإقراء القرآن وكان- كما يقول ابن الجزرى-مقرئا مجودا لغويا، وعلى بن محمد الجذامى نزيل سبتة المتوفى سنة 530 أقرأ بها القرآن ودرّس العربية زمانا، وأبو بكر محمد الفلنقى نزيل فاس المتوفى بها سنة 553 هـ/1158 م وكان إماما فى صناعة الإقراء، وله كتاب فى القراءات سماه: الإيماء. ومن القراء فى عصر الموحدين على بن محمد بن هذيل المتوفى سنة 564 هـ/1168 م وإليه انتهت رياسة الإقراء فى شرقى الأندلس، وعلى بن أحمد الكنانى المستوطن لفاس المتوفى بها سنة 569 هـ/1173 م التزم الإمامة بمسجده فى فاس والإقراء فيه ستا وستين سنة، وابن خير محمد المتوفى سنة 575 هـ/1179 م وهو من أئمة المقرئين والمحدثين، ولد ونشأ بفاس واستوطن إشبيلية، وله فهرسة مشهورة ومنشورة بشيوخه وما اطلع عليه من كتب، وكانت له أسانيد فى القراءات متواترها وشاذها فى مجلد خاص. ومن القراء فى هذا العصر عبد الرحمن الجذامى المتوفى سنة 581 هـ/1185 م تصدّر للإقراء بسبتة فى مسجد زقاق الخشايين نحوا من ستين سنة، وابن الصقر محمد بن أحمد الأنصارى المراكشى المتوفى سنة 590 هـ/1193 م وكان مقرئا مجوّدا محدثا متسع السماع، ويحيى بن محمد الهوزنى المتوفى سنة 602 هـ/1205 م تصدر للإقراء بسبتة وله أرجوزة فى غريب القرآن، وعلى بن محمد بن يوسف الفهمى المتوفى سنة 617 هـ/1220 م سكن سلا ثم مراكش وكان قائما على القراءات آية من آيات الله- كما يقول المراكشى-فى حسن الصوت ضريرا وسمعه المنصور يعقوب صاحب موقعة الأرك فأخذ بلبّه طيب نغمته، فقربه واستخلصه لتعليم أبنائه وبناته، وأبو عبد الله محمد بن الحسن الفاسى المتوفى سنة 656 هـ/1258 م ويقول ابن الجزرى إن له شرحا على الشاطبية.
ومن القراء فى عصر المرينيين ابن رشيد صاحب الرحلة المشهورة المتوفى سنة 721 هـ/1322 م بمراكش وكان يروى قصيدة حرز الأمانى المعروفة باسم الشاطبية. وابن آجروم معاصره المار ذكره بين النحاة وله شرح على الشاطبية، وابن برى التازى على بن محمد المتوفى بفاس سنة 730 هـ/1330 م وله منظومة فى قراءة نافع أحد القراء السبعة سماها الدرر اللوامع. وابن هاني محمد بن على اللخمى السبتى المتوفى شهيدا بجبل الفتح سنة 734 هـ/1334 م وكان أستاذا فى القراءات والنحو، وأبو القاسم بن عمران الحضرمى السبتى المتوفى سنة 750 هـ/1350 م وله كتاب الكافى فى القراءات، ومحمد بن محمد بن إبراهيم الخراز المتوفى سنة 818 هـ/1416 م صاحب كتاب مورد الظمآن فى حكم رسم أحرف القرآن أتى فيه بزوائد على سابقيه، وله شرح على قصيدة الحصرى فى القراءات. ومن القراء فى عصر السعديين محمد بن أبى جمعة الهبطى الصماتى المتوفى سنة 930 هـ/1524 م مؤلف
كتاب وقف القرآن ذكر فيه الكلمات القرآنية التى يوقف عليها من سورة الفاتحة إلى سورة الناس، ولا يزال العمل جاريا فى المغرب الأقصى إلى الآن فى كتابة المصاحف على ما وضعه ودوّنه فى هذا الكتاب. ولأحمد بن شعيب المتوفى سنة 1015 هـ/1607 م إتقان الصنعة فى قراءة السبعة، ولعبد الواحد بن عاشر أستاذ القراءات المتوفى سنة 1040 هـ/1631 م شرح على مورد الظمآن فى حكم رسم أحرف القرآن للخراز. ومن القراء فى عصر العلويين عبد الرحمن بن القاضى المتوفى سنة 1082 هـ/1672 م وله منظومة فى القراءات السبع، ومنظومة ثانية فى رسم المكى فى القرآن، وكتاب فى قراءة ابن كثير عالم أم القرى (مكة) وكتاب بيان الخلاف والشهير والاستحسان وما أغفله مورد الظمآن لابن الخراز. وعبد الرحمن المنجرة الصغير المتوفى سنة 1179 هـ/1766 م وله حاشية على شرح التونسى المسمى الطراز فى شرح ضبط الخراز فى رسم أحرف القرآن، وله أيضا حاشية على شرح عبد الواحد بن عاشر المسمى فتح المنان على مورد الظمآن للخراز، ولمحمد بن عبد السلام الفاسى حاشية على شرح الجعبرى على الشاطبية المسماة حرز الأمانى، وله كتاب فى تجويد القرآن، وكتاب ثان فى طبقات المقرئين وكتاب ثالث فى مخارج الحروف.
وظل المغرب الأقصى يعتمد فى تفسير القرآن الكريم على ما ألفه المشرق فيه من كتب حتى إذا كنا فى عصر المرابطين أخذ يظهر فيه بعض المفسرين مثل أبى بكر السبتى محمد بن يعلى المعافرى خال القاضى عياض، وله تفسير لم يتم. وينشط غير عالم مغربى لتفسير الذكر الحكيم فى عصر الموحدين مثل عبد الجليل القصرى من أهل مدينة القصر الكبير المتوفى بسبتة سنة 608 هـ/1211 م وله تفسير للقرآن كان يقع-فيما يقال-فى ستين مجلدا، وابن مصالة الفازازى المكناسى المستوطن بأخرة «فاس» المتوفى بعد سنة 611 هـ/1214 م وكان طوال حياته معتنيا بتفسير القرآن، وأبى الحسن بن الحصار على بن محمد الأنصارى الفاسى المتوفى سنة 620 هـ/1223 م سكن سبتة ومراكش وغيرهما وله الناسخ والمنسوخ فى القرآن ثلاث نسخ: الأكبر والأوسط والأصغر ومقالة فى إعجاز القرآن وأنشد له ابن عبد الملك المراكشى قصيدة رائية فى اثنين وعشرين بيتا نظمها فى المدنى والمكى من سور القرآن، ومحمد بن يوسف المزدغى المتوفى سنة 655 هـ/1258 م أقرأ بسبتة وفاس وولى الخطبة والصلاة بجامع القرويين فيها إلى وفاته، وله تفسير حفيل مفيد انتهى فيه إلى سورة الفتح. ومن المفسرين فى عصر الدولة المرينية أحمد بن فرتون السلمى الفاسى المتوفى سنة 660 هـ/1262 م وهو تلميذ ابن مصالة المار ذكره وله كتاب الاستدراك والإتمام بما فى كتاب السهيلى: التعريف والإعلام بما أبهم فى القرآن العزيز من الأسماء والأعلام، ومحمد بن على بن العابد الأنصارى الفاسى نزيل غرناطة وبها كتب لابن الأحمر، وله اختصار الكشاف للزمخشرى مع تجريده من آرائه الاعتزالية توفى سنة 662 هـ/1264 م ولابن البناء المار ذكره
فى الرياضيين والبلاغيين الباء فى البسملة، وتفسير الاسم فيها، وتفسير سورة الكوثر، وتفسير سورة العصر ومتشابه اللفظ فى القرآن، وتسمية الحروف وخاصية وجودها فى أوائل السور، وحاشية على الكشاف للزمخشرى. ونلتقى فى القرن التاسع الهجرى بأبى القاسم السلوى وله تفسير للقرآن الكريم.
ومن المفسرين فى العصر السعدى ابن الحاج الشطيبى المتوفى سنة 960 هـ/1553 م وله اللباب فى مشكلات الكتاب، وللمنصور الذهبى المتوفى سنة 1014 هـ/1606 م حاشية على الكشاف للزمخشرى وبالمثل لمحمد بن عبد الله الرجراجى قاضى تادلة تلميذ أبى العباس المنجور، ومن مفسرى العصر عبد الله بن طاهر الشريف المتوفى سنة 1045 هـ/1636 م وله الدر الأزهر فى مناسبات الآيات والسور، وعبد الرحمن العارف المتوفى سنة 1046 هـ/1637 م وله حاشية على تفسير الجلالين، وعلى بن عبد الواحد الأنصارى السجلماسى، وله تفسير للقرآن الكريم، وتوفى سنة 1054 هـ/1645 م.
ومن المفسرين فى عصر العلويين إدريس العراقى المتوفى سنة 1183 هـ/1769 م وله حاشية على تفسير الثعلبى، وابن عجيبة المتوفى سنة 1224 هـ/1809 م وله البحر المديد فى تفسير القرآن المجيد، وكان يعاصره الطيب ابن كيران المتوفى سنة 1227 هـ/1812 م وله تفسير سورة الفاتحة، وتفسير جزء من سورة البقرة، وتفسير من سورة النساء إلى سورة غافر. وكان يعاصرهما حمدون بن الحاج المتوفى سنة 1232 هـ/1817 م وله تفسير بعض سور القرآن الكريم وحاشية على تفسير أبى السعود وحاشية أخرى على تفسير البيضاوى، ولعبد الرحمن الحائك المتوفى سنة 1237 هـ/1821 م حاشية على تفسير الجلالين.
وينشط المغرب الأقصى فى رواية الحديث النبوى ويشتهر فيها بالقرن الرابع الهجرى أبو محمد الأصيلى عبد الله بن إبراهيم المتوفى سنة 392 هـ/1001 م وهو منسوب إلى مدينة أصيلا على المحيط الأطلسى وبها نشأ وارتحل فى طلب الحديث إلى الأندلس. ثم رحل إلى المشرق فلقى شيوخ القيروان ومصر وحجّ فلقى بمكة سنة 353 أبا زيد المروزى وحمل عنه البخارى، وكان يعد من كبار رواته، ولقى بها الأبهرى رئيس المالكية، وروى كل منهما عن صاحبه كما لقى الدار قطنى المحدث الكبير، وروى كل منهما أيضا عن صاحبه، وسمع منه البخارى، ثم سمعه من أبى أحمد الجرجانى، وعاد يحمل نسخة وثيقة صحيحة من البخارى أدق صحة، ونزل الأندلس وأمّه العلماء والطلاب من كل بلد، يحملون عنه صحيح البخارى، ويدل بوضوح على مدى صحتها أن اليونينى الدمشقى فى القرن السابع الهجرى حين أخرج نسخة من صحيح البخارى صحيحة كل الصحة جلب أصل الأصيلى، وكان أحد أربعة أصول
اعتمد عليها فى المقابلة واتخذ حرف (ص) رمزا له طوال مقابلاته على نحو ما يتضح فى طبعة مصر لصحيح البخارى منذ القرن الماضى.
ونلتقى بعده ببكار بن برهون بن عيسى الغرديس السجلماسى، وكان قد حجّ ولقى بمكة أبا ذر الهروى وسمع منه صحيح البخارى، وعاد إلى المغرب يملى رواية البخارى عنه. ورواية أبى ذر كانت أحد الأصول الأربعة التى اعتمدها اليونينى فى مقابلاته لإخراج نسخته من صحيح البخارى على أدق صورة علمية ممكنة، وتسامع العلماء والطلاب فى المغرب الأقصى بروايته، فرحل إليه كثيرون من المغاربة والأندلسيين يأخذونها عنه وبذلك حظيت المغرب من قديم بروايتين أصيلتين من روايات صحيح البخارى، وكان ابن الغرديس لا يزال على قيد الحياة سنة 486 مما يجعله أول محدث كبير يلقانا فى عصر المرابطين. ومن تلامذته يوسف بن عيسى بن الملجوم المتوفى سنة 492 هـ/1098 م وقد أجاز له سنة 486 هـ/1093 م وحضر ابن الملجوم مع يوسف بن تاشفين موقعة الزلاقة سنة 479 هـ/1086 م. وكان ابنه عيسى محدثا على مثاله، وسمع منه ومن شيوخ عصره ورحل إلى سجلماسة. وسمع ابن الغرديس وأخذ عنه. وتهدى سبتة فى عصر المرابطين القاضى عياض إلى علوم الحديث ورواياته وقد توفى سنة 544 هـ/1149 م وبذلك يكون قد لحق عصر الموحدين إذ عاش فى عصرهم بقية قليلة نحو خمس سنوات، ومولده بسبتة سنة 496 هـ/1102 م وله فى الحديث النبوى كتب مختلفة، منها كتاب الشفا فى التعريف بحقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم، وشرّق هذا الكتاب وغرّب، وكتبت له شروح كثيرة، ومنها إكمال المعلم بصحيح مسلم، والمعلم لشيخه المازرى الصقلى المتوفى بالمهدية سنة 536 هـ/1141 م وقد أضاف إلى شرحه لمسلم زيادات وإضافات، ومنها مشارق الأنوار فى تفسير غريب الحديث بكتبه الصحاح الثلاثة: الموطأ وصحيح البخارى وصحيح مسلم، ويشمل ضبط ألفاظها وتفسيرها مع التنبيه على مواضع الأوهام والتصحيفات.
ومضت رواية الحديث النبوى والتأليف فيه يزدهران فى عصر الموحدين، إذ كان خلفاؤهم يعنون به بل كان منهم من يكثر من مدارسته، حتى نسب إلى الخليفة يوسف بن عبد المؤمن أنه كان يحفظ أحد الصحيحين: صحيح البخارى أو صحيح مسلم كما يقول صاحب المعجب، وكان ابنه يعقوب على غراره، ونال عنده طلبة الحديث ما لم ينالوه فى أيام أبيه وجده كما يقول صاحب المعجب. ويقول ابن أبى زرع فى كتابه روض القرطاس عن ابنه المأمون إدريس (624 هـ/1227 م-630 هـ/1233 م) إنه كان إماما فى الحديث ولم يزل أيام خلافته يقرأ كتاب الموطأ وكتاب صحيح البخارى وسنن أبى داود. ومن كبار المحدثين فى عصرهم أبو عبد الله بن الغازى السبتى محمد بن الحسن، وكان راوية للحديث واستقضى ببلده سبتة، توفى سنة 591 هـ/1104 م ومنهم على بن عتيق المتوفى سنة 598 هـ/1201 م وكان محدثا
راوية مكثرا عنى بالحديث طويلا، ومنهم محمد بن قاسم بن عبد الكريم التميمى الفاسى المتوفى سنة 604 هـ/1207 م رحل فى طلب الحديث النبوى إلى بلاد إفريقية التونسية والبلاد المصرية ودمشق وكان محدثا حافظا ذاكرا للحديث ورجاله وطبقاتهم وتواريخهم، ومن مصنفاته «اللمعة فى ذكر أزواج النبى صلى الله عليه وسلم وأولاده السبعة» ومنها الأغذية مما جاء فى الحديث، ومنها تحفة الطالب ومنية الراغب فى الأحاديث النبوية العلية السنية، ومنهم أبو عبد الله بن الصيقل محمد بن عبد الله الحسينى القاضى المتوفى سنة 608 هـ/1211 م كان راوية للحديث حافظا لمتونه بصيرا بعلله عارفا برجاله وطبقاتهم وتواريخهم، عنى بذلك أتم عناية ودرس الحديث ببلده فاس واستدرك على عبد الحق فى كتابه الأحكام الكبرى أحاديث كثيرة، ومنهم أبو الحسن ابن القطان على بن محمد بن عبد الملك المتوفى سنة 628 هـ/1230 م كان مستبحرا فى علوم الحديث بصيرا بطرقه عارفا برجاله مميزا صحيحه من سقيمه، وله فى الحديث مصنفات نافعة، منها نقع الغلل فى الكلام على أحاديث السنن لأبى داود فى ثلاثة أسفار ضخمة، ومنها كتاب فى الرد على ابن حزم فى كتابه المحلى مما يتعلق به من علم الحديث، ومنها كتاب حافل جمع فيه الحديث الصحيح محذوف السند، كمل منه كتاب الطهارة والصلاة والجنائز والزكاة فى نحو عشرة مجلدات، وله أحاديث فى فضل التلاوة والذكر، ومقالة فى نعت المحدّثين الحديث بأنه حسن. ومن محدثى عصر الموحدين عمرو بن دحية الكلبى السبتى المتوفى بالقاهرة سنة 633 هـ/1235 م تجوّل كثيرا فى بلاد الأندلس والشمال الإفريقى والمشرق واستقر أخيرا فى القاهرة وأسند إليه السلطان الكامل رياسة دار الحديث وكانت له عنده حظوة عظيمة، ومن مصنفاته الآيات البينات فى ذكر ما فى أعضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم من المعجزات، والمستوفى فى أسماء المصطفى، ومنهم أبو عبد الله بن المواق المراكشى قديما الفاسى حديثا المتوفى سنة 642 هـ/1244 م وله شرح الموطأ وشرح مقدمة صحيح مسلم وتعقيب على كتاب شيخه أبى الحسن بن القطان فى نقده لكتاب الأحكام الكبرى لعبد الحق أظهر فيه دقة معرفته بصناعة الحديث وعلله مع براعة تعقيباته. ومنهم أبو الحسن الشارى على بن محمد المتوفى سنة 649 هـ/1252 م وكان محدثا راوية مكثرا ثقة عاكفا على العلم جماعة لنفائس الكتب انتقى منها جملة وافرة وقفها على مدرسة شيدها بسبتة، ووقف عليها من أملاكه ما يفى بنفقاتها ونفقات المدرسين فيها والطلاب، وهى منقبة عظيمة له. ومنهم أبو الحسن بن قطرال قاضى الموحدين فى بلدان أندلسية ومغربية كثيرة المتوفى سنة 651 هـ/1254 م وكان محدثا راوية ثقة فيما يحدّث به صحيح السماع.
ومن أهم المحدثين فى عصر المرينيين أبو عبد الله الأزدى محمد بن عبد الله السبتى المتوفى سنة 660 هـ/1262 م روى عن علماء بلدته، ورحل إلى الأندلس وأخذ عن شيوخها ثم رحل إلى المشرق فأخذ عن جماعة وافرة من شيوخ مصر والإسكندرية ودمشق وحرّان والموصل
وبغداد وواسط، وعاد إلى بلدته سبتة فروى عنه كثيرون من أهلها ونزلائها، وكان راوية مكثرا ثقة، وكثير من مروياته عن أستاذه ابن الغازى السبتى المار ذكره. ومنهم ابن رشيد المار ذكره بين القراء، وله السّنن الأبين فى السند المعنعن والمحاكمة بين مسلم والبخارى، ومنهم ابن الشاط قاسم بن عبد الله السبتى المتوفى سنة 723 هـ/1323 م أقرأ-عمره- بمدينة سبتة، وله حاشية على صحيح مسلم. وشرح كتاب الشفا للقاضى عياض غير محدّث، ومنهم فى القرن التاسع الهجرى الزمورى وابن السكاك المتوفى سنة 818 هـ/1415 م. ولابن هلال المتوفى سنة 903 هـ/1497 م اختصار فتح البارى على صحيح البخارى لابن حجر.
ومن المحدثين الكبار فى العصر السعدى سقّين العاصمى السفيانى عبد الرحمن بن على القصرى المتوفى سنة 956 هـ/1549 م رحل إلى المشرق فى طلب الحديث سنة 909 هـ/1503 م وأخذ عن تلامذة ابن حجر: زكريا الأنصارى وغيره من الشيوخ المصريين، وتجول فى السودان الغربى ورجع إلى فاس سنة 924 هـ/1518 م وأخذ فى إقراء الحديث على الطلاب حتى وفاته. ومن أهم تلاميذه أحمد المنجور المتوفى سنة 995 هـ/1587 م ويذكر فى فهرست شيوخه أنه قرأ عليه أو سمع منه كتب الصحاح الستة سوى مصنفات فى الحديث أخرى مما حمله عن المشارقة والمغاربة، مما يدل على اتساعه فى الرواية. ومن محدثى العصر محمد بن قاسم القصار المتوفى سنة 1012 هـ/1604 م، وكان إماما فى رواية الحديث وكان يقرئ تلاميذه صحيحى البخارى ومسلم والشفا لعياض، ومنهم عبد الرحمن العارف المار ذكره بين المفسرين وله حاشية على صحيح البخارى.
ومن المحدثين المهمين فى عصر العلويين محمد بن سليمان الرودانى المتوفى سنة 1094 هـ/1683 م وله الجمع بين الكتب الخمسة والموطأ، ويقصد بالكتب الخمسة صحيح البخارى وصحيح مسلم وسنن أبى داود وجامع الترمذى وسنن النسائى، وله كتاب ثان جمع فيه بين أربعة عشر كتابا من كتب الحديث سماه جمع الفوائد لجامع الأصول ومجمع الزوائد ضم فيه إلى الأصول الستة السابقة مسند الدارمى ومسند ابن حنبل ومسند أبى يعلى الموصلى ومسند البزار ومعاجم الطبرانى الثلاثة: الكبير والأوسط والصغير. ومن محدثى العصر إدريس بن محمد الحسينى الفاسى المتوفى سنة 1183 هـ/1769 م وله شرح شمائل الترمذى، وشرح الأحاديث المائة الأولى من الجامع الصغير للسيوطى وتخريج أحاديث الشهاب القضاعى والدرر اللوامع فى الكلام على أحاديث جمع الجوامع. ومنهم التاودى بن سودة المتوفى سنة 1209 هـ/1795 م وله زاد المجد السارى لمطالع البخارى، وشرح الأربعين النووية.
ونشط المغرب الأقصى-منذ القرن الرابع الهجرى-فى الفقه نشاطا عظيما، ودائما إذا أطلقنا الفقه فى أى بلد مغربى ولم نخصّصه فإنه يراد به الفقه المالكى، إذ عملت أسباب
مختلفة فى أن يصبح مذهب مالك هو المذهب الفقهى المنتشر بالمغرب فى كل البيئات وكل الأوساط وكل البلدان، وقد يلقانا من حين إلى آخر فقيه شافعى، إذ كان شباب العلماء يرحلون إلى مصر، وكان المذهبان المالكى والشافعى يتنافسان فيها، فربما اختلف بعض هؤلاء الشباب إلى حلقات الشافعية وأعجبهم مذهب الشافعى، وقليل جدا من كانوا يعتنقون هذا المذهب على مر الحقب. وأهم فقيه مالكى نلتقى به فى المغرب الأقصى بالقرن الرابع الهجرى دراس بن إسماعيل الفاسى المتوفى سنة 362 هـ/972 م، ويقال إن الفقيهين القيروانيين المشهورين أبا الحسن القابسى وابن أبى زيد تتلمذا له، كما يقال إنه هو الذى أدخل مذهب مالك إلى المغرب الأقصى وأنهم كانوا قبل ذلك على مذهب أبى حنيفة الذى كان يدعو إلى اعتناقه الأغالبة فى القيروان. وبعد دراس يلقانا تلميذه عبد الرحيم بن أحمد الكتامى المعروف باسم ابن العجوز السبتى المتوفى سنة 413 هـ/1022 م لازم ابن أبى زيد القيروانى مدة وسمع منه كتابيه: النوادر والمختصر، ونلتقى بأبى عمران الفاسى المار ذكره بين القراء، وإليه انتهت رياسة الفقهاء فى القيروان، وكان يعاصره عبد الله بن غالب المتوفى سنة 434 هـ/1042 م صحب ابن أبى زيد بالقيروان وتفقه عليه، وكان يعاصرهما عثمان بن مالك الفاسى المتوفى سنة 444 هـ/1052 م زعيم فقهاء المغرب الأقصى فى وقته، وله تعاليق على مدونة سحنون.
ويدخل عصر المرابطين ومن فقهائه مروان بن سمجون المار ذكره بين القراء، وكان فقيها محدثا مفتيا. ويلقانا بعده على بن القاسم رأس أسرة بنى القاسم بن عشرة بسلا المتوفى سنة 502 هـ/1108 م وكان فقيها حافظا ومحدثا ووجيه أهل بلدته استقضى بها وأورث عقبه سؤددا وشرفا. وكان يعاصره أبو عبد الله التميمى الفاسى المتوفى سنة 505 هـ/1111 م وهو شيخ القاضى عياض الذى افتتح به فهرسته. ومن فقهاء عصر المرابطين عبد الرحمن بن محمد بن العجوز المتوفى سنة 510 هـ/1116 م كان يدرس لطلابه المدونة واستقضى للمرابطين فى عدة بلدان بالأندلس والمغرب. ومنهم عبد الله بن على بن سمجون المتوفى سنة 524 هـ/1129 م وكان فقيها حافظا للفروع عارفا بإقرائها وتدريسها والفقه فيها، ولاه أمير المسلمين يوسف بن تاشفين قضاء الجزيرة ونقل منها إلى غرناطة سنة 508 وظل بها إلى وفاته. ومنهم موسى بن عبد الرحمن الصنهاجى المتوفى بمراكش وهو قاضيها سنة 535 هـ/1140 م وكان عالما بالأحكام مقدما فى معرفتها حافظا للرأى ورعا.
ومع أن دولة الموحدين كانت تعتنق فى الفقه المذهب الظاهرى وتدعو إليه، كما مرّ بنا فى الفصل الماضى. فقد ظل المذهب المالكى حيّا طوال العصر، غير أن كتب التراجم لا توضح مدى حياته ولا مدى حياة المذهب الظاهرى، إذ تترجم لفقهاء العصر ترجمات عامة، ولا نعرف أيهم كان ظاهريا وأيهم كان مالكيا. وأومن بأن الكثرة من القضاة كانت ظاهرية
فضلا عمن كان منهم يتولى منصب قاضى القضاة، إذ الناس على دين ملوكهم، ولعل خير مثال لقاضى القضاة الظاهرى يوضح ما نزعم أحمد بن عبد الرحمن بن مضاء قاضى القضاة أو رئيسهم فى عهد المنصور يعقوب، فإنه فجّر-على هدى المذهب الظاهرى فى الفقه-أكبر ثورة على سيبويه ونحاة المشرق بكتابه:«الرد على النحاة» إذ صوّب فيها سهامه على نظرية العامل التى تعد الأساس الذى أقام عليه النحاة بناء النحو مقدّرين أن العامل هو الذى يصنع الظواهر النحوية من رفع ونصب وجر وهو الذى يترتب عليه ما لا يكاد يحصى من تقديرات وتعليلات وأقيسة مع ما يضاف إلى ذلك من تمرينات افتراضية. وابن مضاء فى هذه الثورة على النحو وقواعده متأثر فى ذلك كله-كما قلت فى تحقيق الكتاب-بالفقه الظاهرى وما ينكره على المذاهب الفقهية المشهورة من الاعتماد على الأقيسة والتعليلات مما أدى فى التشريع- كما أدى فى النحو-إلى ركام هائل من الافتراضات.
وإنما سقت ذلك لأدل على أن دولة الموحدين كانت جادة فى اعتناق المذهب الظاهرى وكان قضاة القضاة جادين معها فى هذا الاعتناق حتى أن قاضيا منهم يريد أن يطبقه على علم النحو وقواعده. وبالمثل كان كثير من القضاة أنفسهم يعتنقون هذا المذهب، غير أن كتب التراجم-كما قلت-لا توضح ذلك، وأنا أعرض طائفة من فقهاء العصر، محاولا أن أتبين الظاهريين بينهم، وأول من نقف عنده ابن الرمامة المتوفى سنة 567 هـ/1171 م وهو من قلعة بنى حماد استوطن مدينة فاس، واشتهر فضله فاستخلصه على بن يوسف بن تاشفين لنفسه، واستخدمه قاضيا لنفسه وطالت حياته حتى لحق عصر الموحدين، وكان شافعى المذهب فلم يكن ظاهريا ولا مالكيا. ونلتقى بعبد الرحيم بن عمر الحضرمى الفاسى المتوفى سنة 580 هـ/1184 م وكان فقيها مالكيا كما ينص على ذلك ابن عبد الملك المراكشى، وكان من أهل التقوى وألف كتابا فى المذهب المالكى.
ويلقانا بعده عمر بن عبد الله بن صمع القرشى المتوفى سنة 598 هـ/1201 م، روى عن كثيرين من بينهم ابن مضاء قاضى القضاة الظاهرى، ويقول ابن عبد الملك إنه صنف فى شواذ المذهب المالكى مصنفا، ولا ندرى هل كان مالكيا أو كان ظاهريا ينتقد مذهب مالك. وكان يعاصره على بن خيار الفاسى المتوفى سنة 605 هـ/1208 م وكان فقيها محدثا مشاورا (أى مما يرجع إليه القضاة فى الفتوى) ويقول ابن عبد الملك إنه كان رافضا التقليد ميالا إلى النظر والاجتهاد متفننا أى أنه كان متصفا بنفس الصفات التى يدعو إليها المذهب الظاهرى وأنصاره مما يؤكد أنه كان ظاهريا.
ونلتقى بعده بأبى عبد الله بن الصيقل المار ذكره بين المحدثين وقد تقلد منصب قاضى القضاة بعد ابن مضاء إلى أن توفى سنة 608 هـ/1211 م وخلفه فى منصبه الفقيه ابن دافال موسى بن
عيسى بن عمران حتى وفاته سنة 621 هـ/1224 م وتقلد المنصب بعده الفقيه على بن محمد بن أبى عشرة، ونفس منصبهم يؤذن بأنهم كانوا جميعا ظاهرية. ويختم فقهاء الظاهرية فى عهد الموحدين بأبى الحسن بن القطان المار ذكره بين المحدثين، ولا نستدل على ذلك فقط بما ذكره ابن عبد الملك المراكشى فى ترجمته من أنه كان معظما عند الخاصة والعامة من آل دولة بنى عبد المؤمن وأنه حظى كثيرا عند المنصور فابنه الناصر فالمستنصر بن الناصر فعبد الواحد أخى المنصور فالمعتصم بن الناصر، بل نستدل بما هو أهم. فإن من ترجموا له ذكروا أنه رأس طلبة العلم بمراكش ونال بخدمة السلطان دنيا عريضة وما ذلك، إلا لأنه سخّر نفسه للدعوة بل ليصبح شيخ طلبتها، وكانوا يطلقون اسم الطلبة على دعاتهم. وكان لا يزال يقرأ لهم كتب ابن تومرت ويفسر لهم ما فيها من مبادئ الدعوة. وأيضا مما يؤكد ظاهريته وانتصاره للمذهب الظاهرى ما ذكر من أن أبا على بن الطوير المراكشى عمر بن محمد الصنهاجى معاصره الفقيه المالكى ألف كتابا فى إثبات القياس الذى ينكره الظاهرية على المذاهب الفقهية الأربعة المشهورة: مذهب مالك وأبى حنيفة والشافعى وابن حنبل، فردّ عليه باسم الظاهرية منكرا القياس بكتاب سماه المنزع فى القياس لمناضلة من سلك غير المهيع (الطريق الواضح السديد) فى إثبات القياس.
وانتهى عصر الموحدين وبدأ عصر المرينيين وفيه توقّف فى القضاء العمل بالمذهب الظاهرى وعاد للمذهب المالكى سلطانه كاملا فى القضاء والفقه، ومن فقهائه حينئذ محمد بن إبراهيم الغسانى التاجر بمدينة آسفى المتوفى سنة 663 هـ/1265 م كان بعد الفراغ من مجلس تدريسه الموطأ والسّير والنحو يقعد فى حانوته لإدارته وكسب عيشه. ومنهم أبو الحسن الصّغيّر الزرويلى على بن عبد الحق المتوفى سنة 719 هـ/1320 م القاضى بتازه ثم بفاس وله تقييد على المدونة. ومنهم تلميذه الشطى محمد بن على بن سليمان المتوفى غريقا فى أسطول أبى الحسن المرينى سنة 749 هـ/1349 م وكانت له حظوة عنده وكان يقرأ عليه. ومنهم تلميذه القباب أحمد بن قاسم المتوفى سنة 779 هـ/1378 م قال فيه ابن الخطيب فى الإحاطة: «صدر من صدور عدول الحضرة الفاسية، فقيه نبيل مدرك جيد النظر شديد الفهم، وله شرح مسائل الفقيه ابن جماعة المصرى فى البيوع ويقول ابن فرحون فى الديباج إنه شرح مفيد، وله أيضا شرح قواعد الإسلام للقاضى عياض، وفتاوى مجموعة نقل عنها الونشريسى فى كتابه المعيار. ومنهم محمد بن الفتوح المتوفى سنة 818 هـ/1415 م وهو الذى أدخل مختصر خليل بن إسحاق إلى المغرب الأقصى. ومنهم محمد بن أحمد بن غازى المتوفى سنة 917 هـ/1511 م وله شفاء الغليل فى حل مقفل خليل، بيّن فيه-كما يقول الأستاذ كنون-هفوات بهرام، والمواضع المشكلة فى مختصر خليل، وله أيضا تكميل التقييد أكمل به تقييد أبى الحسن الصغير على المدونة.
ومن أهم الفقهاء فى عصر السعديين اليسيثنى الفاسى محمد بن أحمد المتوفى سنة 959 هـ/1551 م وهو منسوب إلى قبيلة بربرية تسمى يسيثن بالثاء أو بالتاء وكان فقيه فاس ومفتيها، ومنهم مبارك بن على الجزولى المتوفى سنة 982 هـ/1574 م ويقول أحمد بن القاضى إن قراءته لمختصر خليل فى الفقه المالكى بصورة تحرير المسائل فقط كعادة أهل مصر والمشرق. ومنهم المنجور أحمد بن على المار ذكره بين المحدثين وهو أستاذ المنصور الذهبى وأجازه إجازة عامة فى فهرسه، وله فى الفقه شرح المنهج المنتخب للزقاق. ومنهم عبد الواحد الحميدى المتوفى سنة 1003 هـ/1594 م وكان عالما بالفقه مستحضرا لمسائل خليل دءوبا على الإقراء والتدريس، ومنهم يحيى بن محمد السراج الفاسى المتوفى سنة 1008 هـ/1599 م وكان يدرس لطلابه مختصر خليل بن إسحاق المالكى المصرى وشيئا من ألفية ابن مالك والمغنى.
ومن الفقهاء المهمين فى عصر العلويين عبد القادر الفاسى المتوفى سنة 1091 هـ/1680 م وله كتاب باسم المسائل الفقهية عرض فيه العبادات الدينية، وأجوبة فقهية عن طائفة من النوازل. ومنهم المسناوى الدلائى محمد بن أحمد المتوفى سنة 1136 هـ/1724 م وله رسالة نصرة القبض فى الرد على من أنكر مشروعيته فى صلاتى النفل والفرض، وصرف الهمة إلى تحقيق معنى الذمة. ومنهم أبو على الحسن بن رحال المتوفى سنة 1140 هـ/1728 م وله حاشية كبيرة على مختصر خليل وحاشية أخرى على شرح الخرشى عليه، وله أيضا حاشية على شرح ميّارة لتحفة ابن عاصم، ومنهم التاودى بن سودة المذكور بين المحدثين وله حاشية على شرح الزرقانى المصرى لموطأ مالك، وإتحاف الناظر والسامع بشرح مسائل الجامع لخليل وشرح تحفة ابن عاصم وشرح الأربعين النووية، وشرح الزقاقية لأبى الحسن على بن قاسم الزقاق الفاسى المتوفى سنة 912 هـ/1506 م.
ولا بد أن نشير-وقد أنهينا الكلام عن الحركة الفقهة-إلى ظاهرة مهمة كان لها تأثير فى ازدهار الفقه وفتاويه، ونقصد ظاهرة المحاماة والمحامين بجانب القضاة، وهى التى استتبعت فى المغرب كما فى الأندلس ظاهرة التوثيق فكان هناك موثقون وكانت هناك كتب للتوثيق يؤلفها الفقهاء الخبراء بالقضاء والفتوى وهى توضح كيفية كتابة العقود فى المعاملات وغيرها كالمزارعات واستئجارات العقار. ويكرر الحسن الوزان فى كتابه وصف إفريقيا الحديث عنهم فى عهده لأوائل القرن العاشر الهجرى (1).
وآن أن نتحدث عن أصحاب علم الكلام أو علم العقيدة كما يسميه المغاربة، وقد مر بنا فى الفصل الماضى حديث عن المعتزلة: الفرقة الكلامية المشهورة فى القرن الثانى الهجرى وأن
(1) وصف إفريقيا ص 340.
داعيا لواصل بن عطاء رأس الاعتزال أو دعاة هاجروا إلى المغرب الأقصى واستطاعوا أن يدخلوا فى عقيدة الاعتزال جموعا كبيرة منه ببلدة عرفت بهم تسمى البيضاء وأنهم أيضا استطاعوا- فيما يقال-إدخال إدريس مؤسس الدولة الإدريسية فى عقيدتهم، وأن محمد ابن إدريس الثانى بنى لهم بلدة بالقرب من مدينة أصيلا سماها البصرة إحياء لذكرى واصل البصرى مؤسس الاعتزال فى البصرة بالعراق.
ويبدو أن الاعتزال فى المغرب الأقصى أخذ-فيما بعد-يتلاشى وتلاشت مدينتهم «البصرة» معهم فلم يعدلها أثر. والمهم أن المغرب الأقصى عرف عقيدة الاعتزال الكلامية مبكرا، ومعروف أنها تقوم على خمسة مبادئ هى-كما مر بنا فى الفصل الماضى-وحدانية الله بحيث لا يشبه المخلوقات، وأيضا وحدانيته فى صفاته بحيث تعدّ نفس ذاته، والعدل على الله فهو لا يظلم بحال، وإنفاذه وعده فى النعيم ووعيده فى الجحيم، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وأن مرتكب الكبيرة فى منزلة بين الإيمان والكفر.
ودارت معارك عنيفة بين أهل السنة والمعتزلة القائلين بأن الإنسان حر مختار فى إرادته وأعماله وأن ما جاء فى القرآن الكريم من آيات تفيد التجسيد على الذات العلية تؤوّل فمثل {يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} تعنى أن قدرته فوق ما لهم من قدرة، وأهل السنة القائلين بأن إرادة الإنسان وأعماله بقضاء الله وقدره يقولون إن مثل قوله تعالى:{يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} نؤمن بها حسب الظاهر ولا نعرف كيفية هذه اليد، حتى إذا ظهر أبو الحسن الأشعرى المتوفى سنة 324 هـ/935 م نفذ إلى تأسيس مذهب كلامى جديد متوسطا فيه بين المعتزلة وأهل السنة إذ ذهب فى مسألة أفعال الإنسان إلى أنها لله خلقا وصنعا وللإنسان كسبا وإرادة، ووافق المعتزلة فى تأويل الآيات التى تفيد التجسيد على الذات العلية. ومر بنا أن المعتزلة كانوا يرون أن صفات الله مثل السميع البصير هى عين ذاته بينما كان أهل السنة يرون أنها زائدة على الذات قائمة بها وأخذ الأشعرى فيها برأى أهل السنة. وحاول التوفيق بين الطرفين المتعارضين فى مسائل أخرى (انظرها فى كتاب العصر العباسى الثانى ص 177). وعمّ مذهبه فى العراق والشام ومصر، وحمله إلى إفريقية التونسية أبو الحسن القابسى وأبو عمران الفاسى، وأصبح هذا المذهب: مذهب الأشاعرة المذهب الكلامى السائد فى البلدان المغربية.
ونجد فى عصر المرابطين علماء يعرضون هذا العلم: علم الكلام أو العقيدة على طلابهم مثل أبى القاسم المعافرى السبتى المتوفى سنة 502 هـ/1108 م ومثل أبى بكر السبتى المار ذكره بين المفسرين. وندخل فى عصر الموحدين ومر بنا أن ابن تومرت مؤسس دعوتهم زار العراق وجلب منه إلى عقيدته مبادئ من الشيعة والمعتزلة، فمن الشيعة أخذ ثلاثة مبادئ: مبدأ الإمام ومبدأ ظهور المهدى الذى يصلح العالم فى آخر الزمان ويسمّى الإمام المهدى ومبدأ
العصمة من الوقوع فى الآثام وقد أطلقها جميعا على نفسه، فتلقب بلقب الإمام المهدى المعصوم، وكان يرفع لذلك نسبه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم كما فى المعجب للمراكشى. وأخذ من المعتزلة مبدأ توحيد الله أو وحدانيته بحيث لا يشبه المخلوقات ولا يجوز عليه التجسيد بأى صورة من الصور وما جاء فى القرآن من آيات يفهم من ظاهرها التجسيد تؤوّل على نحو ما صنع ذلك المعتزلة. وشركت الأشعرية المعتزلة فى اعتناق مبدأ عدم التشبيه على الله، وكانت المعتزلة تمد هذه الوحدانية إلى الصفات-كما مر بنا-فهى عين ذاته لا قائمة بها كما يقول أهل السنة والأشعرى فمثلا الله عليم سميع بصير أى أن ذلك عين ذاته. وأخذ ابن تومرت بذلك كله، أى أنه أخذ مبدأ الوحدانية عن المعتزلة بحذافيره، كما أخذ عنهم فكرة أن مرتكب الكبيرة فى منزلة بين الإيمان والكفر، وأيضا فإنه أقام دعوته-كما يقول صاحب المعجب-على الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وهو أحد مبادئ المعتزلة المذكورة آنفا. وله فى الدعوة إلى نحلته مصنفات هى: أعز ما يطلب، الإمامة، العقيدة المرشدة. ومن أكبر الدعاة لعقيدة ابن تومرت البيذق وله مصنف فيه ومصنف ثان فى دولة الموحدين حتى نهاية عصر عبد المؤمن بناهما على الدعوة للموحدين، ومن كبار دعاتهم عبد الله بن حماد بن زغبوش المكناسى وله مصنف فى إثبات الهداية الموحدية بالاستقراء من الكتاب العزيز. ومن أهم دعاتهم أبو الحسن بن الإشبيلى على بن محمد بن خليد اللخمى نزيل مراكش، وكان متحققا بعلم الكلام كما يقول ابن عبد الملك المراكشى، ويقول إنه صنف كتابا سماه «المعراج» قدم به على الخليفة عبد المؤمن الموحدى سنة 541 للهجرة، فحظى عنده ورقاه إلى رتب عليّة نال بسببها دنيا عريضة (1)، ولعل الكتاب كان فى الدعاية لعقيدة الموحدين، إذ نراهم يسندون إليه القيام على إرشاد دعاتهم المسمّين بالطلبة، وكان يقرأ لهم كتب ابن تومرت صاحب الدعوة، ويقول ابن صاحب الصلاة فى كتابه المن بالإمامة أنه سمع عليه مع هؤلاء الطلبة كتب ابن تومرت: عقيدة التوحيد، وهى المسماة العقيدة المرشدة، وكتاب العقيدة المباركة المسماة بالطهارة، وكتاب أعز ما يطلب بقراءة أبى عبد الله بن عميرة. ويقول ابن صاحب الصلاة إن القارئ كان إذا قرأ فصلا مما ذكرته هذه الكتب من عقيدة الموحدين شرح أبو الحسن بن الإشبيلى غامضها وفتح أقفالها على الطلبة حتى يذللها ويبينها أتم بيان (2).
وممن خلفوا أبا الحسن بن الإشبيلى وقاموا على بث تعاليم دعوة الموحدين فى طلبتهم أو بعبارة أدق فى دعاتهم أبو الحسن (3) بن القطان المار ذكره بين المحدثين وقد ذكرنا هناك أن من ترجموا له قالوا إنه: «رأس طلبة العلم بمراكش» ويعنى هذا أنه كان يقوم على إرشادهم-فكان
(1) الذيل والتكملة 5/ 1/304
(2)
المن بالإمامة تحقيق د. عبد الهادى التازى ص 160 وما بعدها.
(3)
نظر ترجمته فى الذيل والتكملة 8/ 1/165.