الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تزل محسنا لعبادك غنيا جوادا، فأنت الخالق المعز المذل، وقد عم امتنانك وعمت عطاياك كل الخلق، وها هم فقراء وأغنياء يقفون ببابك خاضعين. ولأحمد بن عبد العزيز الهلالى فى العصر العلوى المتوفى سنة 1175 هـ/1761 م هذا الدعاء (1):
لك الحمد كلّ الحمد يا راحم الضّعف
…
ويا دائم الإحسان والرفق واللّطف
لك الحمد ثم الشكر دون نهاية
…
على نعم جلّت عن العدّ والوصف
إليك مددنا الكفّ كيما تمدّنا
…
بما نرتجى يا مالك البسط والكفّ
فعاف ودافع واحم يا ربّ واكفنا
…
بحفظك ما نخشى فغيرك لا يكفى
وأبق علينا السّتر فى كلّ حالة
…
بفضلك فى الدنيا والاخرى بلا كشف
وأعظم وأعزز-يا عزيز-جنابنا
…
وحطنا من الخذلان والضّيم والخسف
وزدنا من الخيرات فوق مرامنا
…
بفضلك-يا مولى-تعالى عن الكيف
وهو يضرع إلى ربه قائلا لك الحمد يا راحم الضعفاء ويا دائم الإحسان وما يطوى فيه من الرفق واللطف، لك الحمد والشكر الذى لا نهاية له على نعم أسبغتها علىّ، وهى تجلّ عن أن تعدّ أو توصف، وإليك مددنا الكف داعين كى تعطينا ما نأمل يا مالك الإعطاء والمنع فامنحنا العافية وادفع عنا كل بلاء واحمنا منه يا رب واحفظنا من كل ما نخشى وأدم علينا الستر فى الدنيا والآخرة، وأعظم وأعزز حمانا وحطنا برعايتك من الخذلان والضيم والخسف وزدنا من طيبات الرزق فوق ما نريد بفضلك يا مولانا يا من تعاليت عن كل كيف وكل شبه بالمخلوقات. وأشعار الزهاد فى المغرب الأقصى طوال عصوره لا تكاد تحصى.
(ب) شعراء التصوف
التصوف-فى حقيقته-مبالغة فى الزهد والنسك وعبادة الله، ولذلك يعدّ كل ما ذكرناه من شعر الزهد مقدمة للتصوف، فالمتصوف من بالغ فى زهده وأخذ بركنين أساسيين من أركان التصوف وهما التوكل على الله والثقة فيه توكلا وثقة لا حد لهما حتى ليهمل أمر معاشه وكسب قوته. ومن قديم أو بعبارة أدق منذ القرن الرابع أخذت تشيع فيه طريقتان: طريقة فلسفية يتعمق الصوفى بها فى الحب الإلهى حتى ليفنى فيه شاعرا بضرب من الاتحاد مع سيد المخلوقات على نحو ما هو معروف عن الحلاج فى القرن الرابع الهجرى ثم من تابعوه أمثال ابن عربى. ومن حين إلى حين يلقانا بعض هؤلاء الصوفية المتفلسفين على نحو ما أوضحنا ذلك فى الجزء الخاص بالأندلس، وكان كثيرون من أصحاب هذا المنزع الأندلسيين ينزلون فى المغرب، وهو ما هيأ لظهور أمثال أبى مدين. غير أن هؤلاء فى رأبى كانوا شذوذا على الطريقة السنية
(1) النبوغ المغربى 3/ 308.
التى اعتنقها صوفية المغرب الأقصى، إذ شاعت فيه منذ القرن السابع الهجرى الطريقة السنية الصوفية المعروفة لأبى الحسن الشاذلى. ونحن نجد مقدمات هذا التصوف السنى القائم على محبة الله دون فناء فيها مع التوكل والثقة فيه المفرطين على ألسنة كثيرين من الشعراء. ولعل ذلك ما جعل ابن الزيات يتوسّع فى كتابه «التشوف لمعرفة أهل التصوف» فيسلك فيه صلحاء المغرب وزهاده من العلماء والفقهاء الورعين ناظما لهم بين من سماهم أهل التصوف. وكانت كثرة الوعظ فى المساجد لأيام الجمع وغير أيام الجمع من أهم العوامل-كما أسلفنا-فى ازدهار الزهد ونزعة التصوف السنى فى المغرب، ولذلك كثر فى كتب التراجم نعت كثيرين بأنهم صوفية ونضرب مثلا للوعاظ بابن الحجام محمد بن أحمد اللخمى المكناسى وفيه يقول ابن عبد الملك المراكشى: «كان فاضلا صالحا زاهدا ذا حظ من الأدب وقرض الشعر مال إلى طريقة الوعظ والتذكير فرأس فيه أهل عصره بحسن الصوت وغزارة الحفظ وإتقان الإيراد والصدق والإخلاص فى وصاياه وتذكيره، فنفع الله به خلقا كثيرا فى بلاد شتى. . وله كتاب حفيل فى الوعظ سماه حجة الحافظين ومحجة الواعظين فى مجلدين ضخمين، وله يصف نفسه ومحبته لربه التى تعد أس التصوف وجوهره (1):
غريب الوصف ذو علم غريب
…
عليل القلب من حبّ الحبيب
إذا ما الليل أظلم قام يبكى
…
ويشكو ما يكنّ من الوجيب
يقطّع ليله فكرا وذكرا
…
وينطق فيه بالعجب العجيب
به من حبّ سيّده غرام
…
يجلّ عن التطبّب والطبيب
ومن يك هكذا عبدا محبّا
…
يطيب ترابه من غير طيب (2)
وهو يقول إن وصفه وعلمه فى حبه لربه غريب، ويشكو فى حبه من علة قلبه كما يشكو المحبون، ويقول إنه يظل طوال الليل قائما يبكى ويشكو من شدة حبه ولهيبه، وإنه لا يزال طوال ليله يفكر ويذكر ربه، ويقول إن غرامه بربه لا ينفع فيه تطبب ولا طبيب، كما يقول إن من يحب ربه هذا الحب المفرط يطيب مكانه فى حياته وفى قبره من غير طيب. ووعظ بإشبيلية فى الأندلس، ويذكر بعض مستمعيه هناك أنه كان من استحكام تأثيره فى الناس وانفعال القلوب لتذكيره بمقام تكلّ العبارة عن وصفه، ويقول: شاهدته فى إشبيلية، وقد ندب الناس إلى افتكاك أسارى لدى النصارى، فتسارع الناس إلى بذل ما حضرهم، وخلع كثيرون بعض ما كان عليهم من الثياب، فعهدى بها قد تراكمت أمام منبره حتى كادت تحجبه عن الأبصار، سوى ما وعد به من الحاضرين، وتجمّع من أثمان تلك الثياب مال جسيم.
(1) الذيل والتكملة 8/ 1/267 وما بعدها.
(2)
لاحظ ابن عبد الملك أن فعل الشرط فى البيت «يك» مجزوما وجوابه «يطيب» مرفوعا ولو قال، «تطب أثوابه» أو ما هو على وزنه لتفادى هذا الخطأ.
ويعقوب المنصور الموحدى المتوفى سنة 595 للهجرة هو الذى جلبه إلى أهل حاضرته مراكش ليستمعوا إلى وعظه، وظل هو وخلفاؤه يوالونه بعطاياهم الجزيلة، ولم يكن يدخر منها شيئا إذ كان ينفقها على الفقراء والمحتاجين وفى تجهيز الفقيرات إلى أزواجهن حتى وفاته بمراكش سنة 614 للهجرة. وإنما استطردت فى الحديث عنه لأوضح سيرة واعظ زاهد بل صوفى مبكر من صوفية المغرب الأقصى ومدى إخلاصه فى وعظه وزهده وتصوفه. وكان الوعاظ من حوله كثيرين فى كل بلد مغربى. ونلتقى فى أواخر عصر الموحدين بصوفى كبير هو ابن المحلى وسنخصه بترجمة مفردة. ومر بنا فى الزهد حديث عن عبد الحق بن إسماعيل فى العصر المرينى وكتابه-المارّ ذكره-عن صلحاء الريف الشمالى وترجمته فيه لستة وأربعين من صلحائهم ويصفهم بأنهم أولياء وكأنه يعدهم جميعا من المتصوفة، وعادة يتبع الترجمة بأبيات من إنشائه وقد استشهدنا فى الزهد بمثال منها، وكثرتها تعمها الروح الصوفية على نحو ما يبدو من المقطوعات التى اقتبسها منه الأستاذ محمد بن تاويت فى كتابه الوافى (1)، من ذلك قوله من قصيدة فى ترجمة أبى القاسم بن الصيان الفاسى:
الأنس بالله العظيم وذكره
…
مما يزيد أولى التّقى إيمانا
من كان نور الحق أيّده غدا
…
ولهان من شغف به هيمانا
سرّ الحقيقة لا يفوز بنيله
…
غير امرئ مستنزل كتمانا
لا يحرز الفضل المبين سوى الذى
…
ملك العلوم مطهّرا جثمانا
وهو يقول إن الأنس بالله والخلوة به وتسبيحه وذكره مما يزيد المتقين إيمانا بربهم، ويصف الصوفى الذى يؤيده نور الحق جل جلاله فإنه يصبح به شغوقا ولهان هائما، غير أن ذلك إنما يفوز به وبسر الحقيقة فيه من يكتمه مخافة أن يعلن حبه لربه للناس، وما شأنهم؟ فيضيع منه ما حباه به. ويقول إنه لا يحرز هذا الفضل الصوفى إلا العالم الطاهر النقى الورع. وينعت المتصوفة ويعرّف بهم فى قوله بترجمة محمد اليستثنى البطيوى:
علم اليقين أنالهم ما أمّلوا
…
فدروا به عين اليقين وحقّه
سلبوا فغابوا عن وجود نفوسهم
…
فوجودهم محو يلازم محقه
لم يعرفوا هجرا ولا وصلا ولا
…
معنى يبيّن قربه أو سحقه
وكأنما أسرارهم بقلوبهم
…
درّ مصون لا يفارق حقّه
ويقول إن الصوفية هم الصفوة التى منحها الله علم اليقين، فعرفته حق المعرفة، ويذكر أنهم سلبوا الشعور بالمحسوسات من حولهم، فغابوا حتى عن الشعور بوجودهم، وكأنما
(1) انظر فى أشعار عبد الحق بكتابه صلحاء الريف كتاب الوافى بالأدب العربى فى المغرب الأقصى 2/ 505 - 512.
وجودهم انمحى انمحاء تاما، فلم يعودوا يشعرون بشئ سوى ربهم الذى استغرقهم وفنوا فى جلاله، وهم بذلك محبون حبّا من نوع خاص حبا إلهيا، لا هجر فيه ولا وصل ولا شئ سوى النعيم بالفناء فى الذات العلية، وهم لا يذيعون أسرار هذا الفناء ولا ذلك الحب إذ يكتمونها فى حقاق صدورهم وقلوبهم. ويصفهم مرة أخرى فى ترجمة إبراهيم بن صالح من وجوه المزمة منشدا:
أهل الحقيقة إن نظرت وجدتهم
…
متسربلين بكلّ فضل باهر
قهروا نفوسهم ففازوا بالمنى
…
من جود ربّ ذى جلال قاهر
وتجوهروا بلطائف فتكلّلت
…
تيجانهم بزبرجد وجواهر
فهم أهل الحقيقة الربانية إن تأملتهم وعرفتهم حق المعرفة وجدتهم مزدانين بحلل من كل فضل باهر، وقد استطاعوا أن يقهروا نفوسهم ويردعوها عن كل متاع دنيوى ففازوا بأمانيهم من عطايا رب جواد ذى جلال وإكرام لا حد له، وكأنما بثّ فيهم ما جعلهم يستحيلون جواهر متألّقة، بل كأنما نظم على تيجانهم الصوفية الإلهية روائع الزبرجد والدرر النفيسة. وينعت أحدهم بحسن توكله على ربه، وهو مبدأ أساسى فى التصوف قائلا:
حسن التوكّل فى القفار أناله
…
حالا بها قد سرّه ما ناله
جعل الاله له سبيلا فى الفلا
…
سببا فحقّق فى الخلاص مناله
فهو قد أحسن التوكل على ربه، فرزقه فى القفر بما سدّ رمقه وسرّه فى حياته الإلهية، وحقق له الخلاص من الدنيا وترهاتها. ويدور الزمن دورات ونلتقى بابن جابر محمد بن يحيى المتوفى سنة 827 للهجرة وكان له نزوع نحو الزهد والتصوف، ومن قوله (1):
نظرت إلى الوجود بعين قلبى
…
فلم أر فيه غير الله وحده
فثق بالله وارج الله واعمل
…
للقيا الله تأمن كلّ شدّه
وقد يظن من البيت الأول أنه ممن يؤمنون بالحلول وأن الذات الإلهية تحلّ فى كل مظاهر الوجود، لذلك لا يرى فيه سواه، ويطلب إلى مخاطبه أن يكون دائما واثقا فى الله لا يرجو ولا يأمل فى أحد سواه، ويعمل لآخرته حتى يأمن عذابه ويدخل جناته، وله فى التوكل على الله حق التوكل:
على قدر نيّة أهل التوكّ
…
ل يعطيهم الله منه المعونه
فإن صحّح العبد إيقانه
…
كفاه المهيمن همّ المئونه
وهو يقول: بمقدار توكل العبد على ربه يمنحه العون والرعاية، وإن صحح يقينه وأخلص
(1) انظر فى هذه المقطوعة وتاليتها كتاب المنتقى لابن القاضى 1/ 405.