الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إلى دنقلة، وتمّ له ذلك فرأى أن يذهب إلى كردفان ونجحت دعوته هناك. وشاعت فى السودان الطريقة السمانية. ويبدو أن دعاة صوفيين مختلفين نزلوا فى السودان أثناء القرن التاسع عشر للدعوة إلى طرقهم، كما يقال إن الطريقة التيجانية دخلت مدينة بربر فى السودان على يد داعيتها محمد المختار.
ومن المؤكد أن هذه الطرق الصوفية وما تكوّن حول كل طريقة وشيخها من جماعات اتسعت لكثير من القبائل عملت على إضعاف العصبيات القبلية وأحلت محلها روابط الطرق الروحية الصوفية التى ربطت بقوة بين أفراد الشعب السودانى من عرب وغير عرب، ونشرت الإسلام فيما بقى من جيوب وثنية بالسودان فى جبال النوبة، وبدون ريب سادت روح الإخاء والمودة بين أبناء الطريقة الصوفية. وكانت هناك قرى تنتسب إلى شيخ واحد كقرية العيلفون التى كانت تنتسب إلى إدريس ود الأرباب، وقد نزلها وسكنها لعهده سودانيون لا يحصون من الشرق والغرب ووادى النيل بل نجد مدينة تدين بطريقة الشاذلية الصوفية هى مدينة الدامر التى دعا فيها الشيخ حمد المجذوب إليها وجاءه مريدوه من دارفور وكردفان وجميع أنحاء السودان وأصبح سكان المدينة يتألفون من هؤلاء المريدين. ومعنى ذلك أن قيام الطرق الصوفية فى زمن دولة الفونج وانتشارها فى السودان من حينئذ عمل على إضعاف ما كان به من عصبيات قبلية، وسادته روح صوفية عامة جمعت بين كل أفراد الطريقة الصوفية على البر والتعاون والرحمة والمودة. غير أنه مع مر الزمن أخذت هذه الطرق تتنافس وأخذت كل طريقة تزعم أنها خير من أختها وأنها هى وحدها التى تسير على الصراط المستقيم، وانتهى ذلك بالطرق الصوفية إلى أن تصبح من عوامل الفرقة والتشتت بعد أن كانت-طويلا-من عوامل الألفة والوحدة.
(هـ) دعوة المهدى ومبادئها الستة
لا نصل إلى سنة 1870 للميلاد حتى يظهر المهدى محمد بن عبد الله فى جزيرة أبا فى النيل الأبيض كما مر بنا فى الفصل الماضى وأخذ يكاتب مشايخ الطرق وبعض العلماء بأنه المهدى المنتظر والتف الناس حوله واتسعت دعوته، فأرسلت إليه الحكومة قوة فقهرها، وترك جزيرة أبا ونزل فى جيل قدير بمنطقة تقلى، ووجه إليه مدير فاشودة قوة فقضى عليها كما قضى على جيش بقيادة يوسف الشلالى، وأتاحت له هذه الانتصارات أنصارا كثيرين، ولم يلبث أن استولى على مدينة الأبيض سنة 1300 هـ/1883 م وتعاظم شأنه وكثر أنصاره وجاءوه من كل أنحاء السودان، وأرسلت حكومة الاحتلال الإنجليزى لمصر قوة بقيادة أحد قوادها فأبيدت إبادة تامة، واستسلم له سلاتين حاكم دارفور فى نفس السنة، وحاصر الخرطوم ودخلتها جنوده فى أواخر يناير سنة 1885 للميلاد واتخذ قرية أم درمان عاصمة، ودان له السودان
جميعه، وهاجر الناس إلى أم درمان من كل الأنحاء لمبايعته وإعلان اعتناق دعوته، ولم يلبث أن توفى فى شهر يونية سنة 1885.
ونستطيع أن نتبين مبادئ دعوته من خلال منشوراته، ومن أهم المبادئ التى دعا إليها أتباعه ومريديه الزهد فى متاع الدنيا وكان ينصّ على ذلك فى بيعة كل مبايع له، إذ يقول فى بيعته:«بايعناك على زهد الدنيا وتركها والرضا بما عند الله» ويشرح هذا المبدأ مبينا أن عدم الأخذ به عند الملوك والأغنياء يشغلهم عن الدين والاهتداء بما جاء به الرسل، يقول:«وأما الملوك والكبراء وأبناؤهم فصار شغلهم-عن الإنابة إلى الله والتلقى عن الرسل والمرشدين- بالجاه والمال والعز والثناء وحسن الصيت فلم يتركهم ذلك لأن يتنوروا بنور الحق لأن القلب صار ممتلئا بهذه الفانيات فلا محل فيه لقبول الباقيات، وصار حرمانهم من الخير فيما يظنون أنه متعة لهم، وإذا أراد الله بعبده خيرا فرغه من ذلك الخسيس» .
والمبدأ الثانى فى دعوة المهدى العمل بالدين والشريعة المحمدية والخضوع لأوامر الله ونواهيه وأداء فروض الدين ونوافله والإخلاص فى عبادته يقول فى منشوراته: «لا نعمة إلا نعمة الدين، ولا كرم إلا كرم التقوى، ولا حسب إلا لامتثال لأمر الله والتواضع حتى يكون الشخص بالنسبة إلى آحاد عباد الله كواحد منهم كما كانت حالة الصحابة. . فإن المؤمنين كاليدين تغسل إحداهما الأخرى» . وهذا المبدأ أهم مبادئ دعوته لأنه كان يريد إقامة مجتمع إسلامى كبير، ويصرّح بذلك لأتباعه، بل دائما يكرره كقوله لهم:«إنّي قد وليت عليكم بولاية الله ورسوله لإقامة الدين، وجئتكم داعيا إلى الله ومبلغا عنه ما حملته إليكم: اتّبعوا آثار من سلف من المهتدين السابقين على نهج سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. . وإنما قصدنا منكم المعاونة فى تقويم الدين، وإنّي-فى ذلك-كواحد منكم» . والمهدى-بذلك-كان يريد أن ينشئ مجتمعا إسلاميا جديدا على أساس قويم من الدين، وكأن ثورته كانت ثورة إصلاح دينى لبناء دولة إسلامية كبرى تعود بالعالم الإسلامى إلى حياته الأولى: حياة التقوى والعبادة الصحيحة والأخوة فى الدين التى هى-فى رأى المهدى-أقوى من الأخوة فى الأبوين. ولم يقم المهدى فى دعوته أى اعتبار لشئ سوى الدين الحنيف، فلا اعتبار لنزعة قومية ولا لنزعة عنصرية، ومن أكبر الأدلة على ذلك أنه أرسل إلى الضباط الإنجليز وجنودهم منشورا يقول فيه:«إنكم إذا تدبرتم بعقولكم وتفرّستم فى قدرة خالقكم. . علمتم أن مخالفته شنيعة، ولا ينبغى لكم إلا امتثال أمره واجتناب نهيه والهروب منه إليه. . فهيّا إلى ذلك فإن أسلمتم فلكم أمان الله ورسوله وأمان العبد لله وتكونوا من ضمن أنصارنا» . فالمدار فى دولة المهدى إنما هو على التمسك بالدين، ولا فرق بين عربى وغير عربى ولا بين سودانى وأوربى. ومما يدل على أن الأساس الدينى فى الدعوة كان كل شئ ما يقوله نعوم شقير فى الجزء الثالث من كتابه:
«تاريخ السودان القديم والحديث» . من أن المهدى جعل أتباعه مراتب بحسب تاريخ دخولهم فى دعوته الدينية واعتناقهم لها، فالمرتبة الأولى لأنصاره الذين التفوا حوله قبل إعلانه المهدية، وهم أبكاره، والمرتبة الثانية لأنصاره الذين آزروه فى جزيرة أبا فى النيل الأبيض، والمرتبة الثالثة لأنصاره الذين هاجروا إليه وهو فى جبل قدير بتقلى، والمرتبة الرابعة لأنصاره الذين هاجروا إليه فى الأبيض، ثم باقى الأنصار وهم أيضا طبقات بحسب أسبقيتهم فى اعتناق دعوته.
والمبدأ الثالث فى دعوة المهدى هو الأخذ بالبساطة فى الحياة ومطاعمها ومشاربها ونبذ ما أدخله التيار التركى والأوربى فى الحياة المادية الحضارية لأهل السودان فى العادات والمأكل والمشرب والملبس والأفراح والمآتم. وهذا المبدأ يتفق فى وضوح مع مبدأ الزهد والتقشف إزاء المتاع الدنيوى، وقد أراد به أن يحمى البلاد من ترف الحضارات الأجنبية.
والمبدأ الرابع فى دعوة المهدى نبذ أتباعه لجميع الطرق الصوفية المنتشرة فى السودان، وبذلك حلّ كل الطرق الصوفية ببلاده ولم يعد لها شيوخ ولا أتباع ينتمون إليها، ولا عاد بينها تنافس مقيت، كل يزعم أن طريقته هى طريقة الهدى السديدة وأن الطريقة أو الطرق الأخرى ضالة انحرفت عن طريق الرشاد القويم، وبذلك لم تعد فى السودان طريقة ولا دعوة دينية إلا دعوة المهدى وما وضعه لها من مبادئ.
ومبدأ خامس فى دعوة المهدى هو نبذ كتب النحل الدينية وكتب فقهاء المذاهب الأربعة المشهورين لأبى حنيفة ومالك والشافعى وابن حنبل وما بها من كثرة المسائل الفرعية، مما لا يفيد فوائد مباشرة فى فهم أركان العقيدة الإسلامية، وقد استحالت هذه الكتب على مر الزمن إلى مجلدات تلو مجلدات وشروح تلو شروح يغرق المسلم فى لججها وخضمها الزاخر، ولا يكاد يتبين نور الدين، إذ حجبوا عنه الكتاب والسنة، وزجوا به فى هذا المحيط الواسع من كتب تعد بالآلاف تتناول مسائل متفرعة لا حدّ لها ولا حصر، ويقول من الواجب إهمالها ووضع مذهب اجتهادى جديد فى الفقه والعقيدة. ويشعر من يطلع على هذا المبدأ فى دعوة المهدى أنه ربما كان متأثرا فيه بدعوة المهدى ابن تومرت مؤسس دولة الموحدين فى المغرب والأندلس إلى نبذ كتب المذاهب الفقهية الأربعة الكبرى لما بها من كثرة الفروع والعلل، ولم يلبث خليفتاه يوسف بن عبد المؤمن وابنه يعقوب أن أحرقا أحمالا من هذه الكتب.
ومبدأ سادس هو دعوة المهدى إلى الهجرة إلى المواضع التى اتخذها مراكز لدعوته اقتداء بهجرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وسمّى أتباعه بالأنصار اقتداء بتسمية الرسول لأهل المدينة بالأنصار، وحرّم الطرق الصوفية كما أسلفنا وحرّم على أنصاره أن يسموا أنفسهم الدراويش.