الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولقد أفادنى الفصاحة جودكم
…
وأنا امرؤ حصر اللسان كليل
فعجزت عن نطق بحسن كمالكم
…
وكذا سواى فما عساه يقول
والقطعة تصوره مريدا وتلميذا لشيخه محمد بن أبى بكر، وإنه ليشعر فى عمق حين يعول ويفتقر أن ثناءه على شيخه غنى ما بعده غنى ولا ثراء، ويعلن أنه يمدحه لا لعطاياه، وإنما طلبا لرضاه، فرضاه كل ما يريد من غنمه، وإنه ليحمل إليه ثراء ما بعده ثراء، كما يعلن أن جود ابن أبى بكر هو الذى حل عقدة لسانه وكان عييّا كليلا فأصبح فصيحا، ومع ذلك فإنه يعجز عن بيان كمال أستاذه، بل إنه كمال لا يستطيع هو ولا غيره تصويره. وكان ابن أبى بكر يختم صحيح البخارى مرة كل عام، ويحتفل بهذه المناسبة، وينشده الشعراء مدائح مختلفة، وينشده الدغوغى فى أحد احتفالاته:
نال البخارىّ منه
…
سبحا وغوصا مرامه
فناب فى السّبح عنه
…
وقام غوصا مقامه
أكرم بسوق بديع
…
للمكرمات أقامه
فيه الثناء عليه
…
وقفا إذا الغير سامه
فجوهر الفضل فرد
…
تأبى المعالى اقتسامه
وهو يقول إن صحيح البخارى حظى منه بسبح فى أحاديثه وغوص ما يماثلهما سبح وغوص، ويقول إنه أقام للمكرمات سوقا عظيمة، جعلت الثناء وقفا عليه دون غيره ممن قد يبتغيه، إذ جوهر الفضل فرد، وتأبى المعالى أن يكون قسمة بينه وبين سواه. وعلى هذا النحو كان الدغوغى شاعر محمد بن أبى بكر وداعيته ولسانه الناطق عن ميوله وأهوائه.
البوعنانى
(1)
هو عبد الواحد بن محمد البوعنانى مفتى فاس فى عهد المولى إسماعيل العلوى (1084 هـ/1672 م-1139 هـ/1727 م) وهو يعد أهم حكام الدولة العلوية، وفى عهده نهض المغرب الأقصى نهضة ثقافية وأدبية، واستعادت البلاد ذكرى واقعة وادى المخازن ضد البرتغاليين فى أوائل العهد السعدى إذ آذن المحتلين الأوربيين للبلدان المغربية بحرب تسحق ضلوعهم سحقا. وأخذت تلك البلاد تسقط فى حجره وحجر المغاربة واحدة تلو أخرى، وكان أول ما حازه منها-كما تقدّم-المهدية سنة 1091 هـ/1681 م وتلتها طنجة سنة 1095 هـ/1684 م ثم حاز العرائش سنة 1111 هـ/1699 م واستدار العام فحاز أصيلا، وكان حريّا أن يواكب هذه الفتوح قصائد حماسية وملحمية كثيرة. وربما
(1) انظر فى البوعنانى وقصيدته كتاب الوافى بالأدب العربى فى المغرب الأقصى 3/ 839. والنبوغ المغربى 3/ 232.
كان خير ما نظم فيها مدحة للبوعنانى يشيد فيها بفتح المولى إسماعيل لمدينة العرائش، وهو يفتتحها بقوله:
ألا أبشر فهذا الفتح نور
…
قد انتظمت بعزمكم الأمور
وطير السّعد نادى حيث غنّى
…
قد انشرحت بفتحكم الصدور
وقد وافتكم الخيرات طرّا
…
وطاب العيش واتصل السرور
وجاهدتم وقاتلتم فأنتم
…
لدين الله أقمار تنير
وأطلعتم صوارمكم نجوما
…
لدى هيجاء صاحبها كفور
وأنت البدر يوم السّلم حسنا
…
وفى يوم الوغى الأسد الهصور (1)
والشاعر فرح بهذا الفتح المبين، حتى ليراه نورا يغمر سناه البلاد والعباد، وكل شئ من حوله فرح، فالطير تتغنى، وقد انشرحت الصدور بما وضع عنها إسماعيل من أثقال كانت تعانى منها عناء شديدا، وأى أثقال أشد من احتلال الوطن واعتصار طيبات الرزق فيه، وقد ردّت إلى أهلها وطاب العيش واتصل السرور بفتح العرائش وفتح طنجة والمهدية قبلها، وقد جاهدتم أصحاب الصليب، وانتصرتم لدين الله الحنيف، وكأنكم أقمار تشع من حولها أضواء منيرة، وكأنما سيوفكم نجوم تحف بكم، وإنك للبدر المنير فى السلم حسنا وفى الحرب الأسد الهصور، ويمضى منشدا:
وفى ثغر العرائش قد تبدّى
…
لقدركم على الشّعرى الظّهور
قهرتهم بأبطال عظام
…
على الهيجاء كلّهم جسور
وكم رأس من الكفار أمسى
…
قطيع الرأس مجرورا يخور (2)
وكم أسرى وكم قتلى بأرض
…
وكم جرحى دماؤهم تفور (3)
تمرّ بها الطيور فتنتقيها
…
وبات الذئب وهو لها شكور
وأضحى الناس كلّهم نشاوى
…
على طرب وما شربت خمور
وهو يقول للمولى إسماعيل لقد بدا واتضح لقدركم فى ثغر العرائش النصر المبين، فقد قهرتم العدو بالمغاربة الأبطال ممن تدربوا على الحروب، فكلهم جسور على القتال لا يتخاذل أبدا، وكم رئيس من الكفار أمسى مقطوع الرأس أو مجرورا يتخبط فى دمه صائحا، وإن الأسرى والقتلى لأكثر من أن تحصى سوى الجرحى ودمائهم المتدفقة، ولكأنك أقمت للطير مأدبة تتخيّر منها غذاءها، وقد تجمعت عليها الذئاب، وهى تعوى كأنها تشكرك، وأضحى الناس
(1) الهصور: المفترس.
(2)
رأس: يريد رئيسا. يخور: يصيح.
(3)
تفور: تتدفق.