الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وابن أبى العيش يقول إن الله هو الذى يمسك السموات وغير السموات أن تزول وهو الذى يبدعها على غير مثال مرسوم، فاطمئن إليه بهمة روحية فإنه الفعّال لما يريد، وهو موضع الخوف والرجاء فلا تلذ بسواه. جاء بذلك الشرع والحديث النبوى، وتمسّك بذلك تعش رضىّ النفس خلىّ البال. وله أبيات يصور فيها اعتزاله الخلق وانقطاعه إلى الحق رب الخلق يقول:
قنعت بما رزقت فلست أسعى
…
لدار أبى فلان أو فلان
وآثرت المقام بكسر بيتى
…
ولا أحد أراه أو يرانى
ولا ألقى خليلا غير صبر
…
معين فى المعارف أو معانى
وقد أيقنت أن الرّزق آت
…
وإن لم آته سعيا أتانى
وقد حققته فهما وعلما
…
وقد شاهدته رأى العيان
فلازم ذا بإخلاص تمكّن
…
هنا وهناك من أسنى مكان
والقطعة مع ما تصور من الانقطاع إلى عبادة الله تصور مبدأ التوكل المعروف عند المتصوفة بحيث لا يفكرون فى رزق الغد وأن ما سيرزقون به آت لا ريب فيه، وهو يقول إننى قانع برزقى، ولست أحاول أن أتسول من فلان أو أبى فلان، إذ تكفينى كسرة بيتى ولا أحد يرانى متذللا لأحد، ولا أبحث عن خليل يعيننى، غير صبر أستعين به فى دراسة المعارف أو بعض المعانى، وقد أيقنت أن رزقى آت سعيت إليه أو لم أسع، عرفت ذلك وتحققت منه فهما وعلما وخبرة. واعمل بذلك تحظ بأرفع مكان.
إبراهيم (1) التازى
هو إبراهيم بن محمد بن على التازى حفظ القرآن وأكبّ على دراسة العلوم، وحج وحضر دروس الشيوخ فى مكة والمدينة وتونس وتلمسان، وبدت فيه ميول قوية للتصوف ولبس الخرقة من الشيخ صالح الزواوى بسنده إلى أبى مدين، واشتهر بالتازى لولادته فى بربر تازا بالمغرب الأقصى، وانتهى به المطاف إلى وهران ولقيه شيخها الصالح محمد بن عمر الهوارى لقاء حسنا، وعنه ورث زاويته وطلابها بعد وفاته، واشتهر ذكره، وممن تتلمذ له الإمام السنوسى، ويقال إنه هو الذى ألبسه الخرقة الصوفية. ويقول القلصادى إنه أقام معه فى زاويته، ووجده معتنيا بكلام شيخه الهوارى، وكان يقول: العالم لا تعاديه-والجاهل لا تصافيه-والأحمق لا تواخيه. وتوفى
إبراهيم التازى
سنة 866 هـ/1461 م ذكر ذلك
(1) انظر فى ترجمة التازى تعريف الخلف 2/ 11 والبستان ص 58.
غير واحد ممن ترجموا له. وشعره الصوفى والنبوى كثير ويموج الأول بالدعوة إلى المحبة الربانية من مثل قوله:
أبعد الأربعين تروم هزلا
…
وهل بعد العشيّة من عرار
فخلّ حظوظ نفسك واله عنها
…
وعن ذكر المنازل والديار
فما الدّنيا وزخرفها بشئ
…
وما أيّامها إلا عوارى
فتب واخلع عذارك فى هوى من
…
له دار النعيم ودار نار (1)
جمال الله أكمل كلّ حسن
…
فلله الكمال ولا ممارى
وذكر الله مرهم كلّ جرح
…
وأنقع من زلال للأوار (2)
ولا موجود إلا الله حقّا
…
فدع عنك التعلق بالشّنار (3)
وهو يقول لصاحبه أتروم هزلا بعد سن الأربعين، والشطر الثانى شطر بيت للصّمّة القشيرى، والعرار نرجس برى، يقول الصمة لصاحبه والإبل تسرع بهم إنه لن يتمتع بعد العشية بعرار فقد فات وقته، كما فات وقت الهزل بعد الأربعين كما يقول التازى، ويقول دع ما أنت فيه من غزل وتعلق بجمال المرأة، فالدنيا ليست باقية، وتعلق بمن لديه دار النعيم ودار الجحيم، فجماله أعظم وأكمل من كل جمال، وإن ذكره لشفاء لكل جرح، وزلال بارد لكل عطش متقد، إنه لا موجود سواه، فدع عنك التعلق بما تعاب به، ويعد قبيحا منك أى قبح. وله:
حسامى ومنهاجى القويم وشرعتى
…
ومنجاى فى الدّارين من كل فتنة
محبّة ربّ العالمين وذكره
…
على كلّ أحيانى بقلبى ومهجتى
وأفضل أعمال الفتى ذكر ربّه
…
فكن ذاكرا يذكرك بارى البريّة
وما من حسام للمريدين غيره
…
وكم حسموا ظهرا لزار وباهت (4)
وكم بدّدوا شملا لذى جرأة وكم
…
أبادوا عدوّا مسّهم بمضرّة
وكم دافع الله الكريم بذكرهم
…
عن الخلق من مكروهة ومبيرة (5)
وأفضل ذكر دعوة الحىّ فلتكن
…
بها لهجا فى كل وقت وحالة
فكثرة ذكر الشئ آية حبّه
…
وحسب الفتى تشريفه بالمحبّة
هو يقول إن شجاعتى ومنهاجى القويم فى الحياة وشريعتى ومنجاى فى الدارين من كل
(1) خلع العذار: أراد به الشاعر الانهماك فى الحب.
(2)
الأوار: حرارة العطش.
(3)
الشنار: العيب والقبيح والعار.
(4)
زار: عائب. باهت: مندهش.
(5)
مبيرة: فاسدة، مهلكة.
فتنة كل ذلك فى محبة رب العالمين وإنّي لأذكره فى كل حين بقلبى ومهجتى، وهل فى الدنيا عمل أفضل من ذكر الإنسان لربه، فاذكره دائما، اذكر خالق الخلق ومنشئهم، وهل للمريدين تلامذة المتصوفة حسام سواه، وكم قضوا على زار هازئ وباهت متعجب وكم بدّدوا جمعا جريئا وكم أبادوا عدوا لهم حاول أن يؤذيهم، وكم دفع الله الكريم بذكرهم له عن الخلق من مهالك. وإن أفضل ذكر دعوة الله فكرّرها فى كل وقت وإن كثرة ذكر الشئ لأكبر دليل على حبه، وإن محبة الله لشرف للإنسان أى شرف. وله قصيدة صوفية ذاعت وشاعت فى الجزائر باسم المرادية، وتسمى أيضا باللامية، استهلها بقوله:
مرادى من المولى وغاية آمالى
…
دوام الرّضا والعفو عن سوء حالى
وإسقاط تدبيرى وحولى وقوّتى
…
وصدقى فى الأحوال والفعل والقال
والتازى يقول إنه يطلب من ربه دوام الرضا والعفو، وإنه ليأمل منه أن يسقط عنه التدبير شأن الصوفية العظام فلا يفكر فى شأن من أمور معاشه وحياته، ولا حول ولا قوة حتى ولا صدق له فى حال ولا فى فعل أو قول. وقد شرحها محمد الصباغ القلعى فى القرن العاشر الهجرى بشرح سماه:«شفاء الغليل والفؤاد فى شرح النظم الشهير بالمراد» سماها المراد استكمالا للسجعة ولابن مريم عليها شرح كما ذكر فى ترجمته له. ومنها فى وصف المريد تلميذ الشيخ الصوفى وتابعه:
وغنم مريد فى انقياد لكامل
…
له خبرة بالوقت والعلم والحال
هو السرّ والإكسير والكيميا لمن
…
أراد وصولا أو بغى نيل آمال
وقد عدم الناس الشيوخ بقطرنا
…
وآخرهم شيخى وموضع اجلالى
وقد قال لى: لم يبق شيخ بغربنا
…
وذا منذ أعوام خلون وأحوال (1)
يشير إلى أهل الكمال كمثله
…
عليه من الله الرّضا ما تلا تالى
وهو يجعل المريد كأنه آلة مسخرة فى يد شيخه الخبير بزمنه وبالعلم وبأحوال التصوف، إذ ينقاد له بكليته ولا يخرج بأى صورة عن إرادته. ويعظّم الشيخ الصوفى إذ يجعله السر الإلهى والإكسير والكيمياء اللذين يحولان المعدن ذهبا، وبيده الأصول ومفتاح كل الآمال. وكنا نؤثر أن يترفع الشيخ التازى عن مثل هذه الدعاوى فى شيوخ الصوفية، التى جعلت الناس يبالغون فيهم ويقولون بالقطب وما إلى القطب من الأبدال، بل لقد أعدّ ذلك لظهور دجاجلة المتصوفة ومن يرتزقون باسم صوفى سنى كبير. والتازى يستمر فيقول إن الناس عدموا
(1) خلون: مضين. أحوال: سنوات.