الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أرجو من الله فيه توفيقا وتسديدا بحسب قدرى لا على قدركم، وعلى مثل فكرى القاصر لا على عظيم فكركم. .»
ويختم الرسالة بالصلاة على سيد الخلق ويذكر أنها كتبت فى سابع أو ثامن رجب من عام 1038 للهجرة. وواضح ما يجرى فى الرسالة من سجع متكلف وأنها تقوم على المبالغة المسرفة حتى لينسب الشيخ إلى نفسه الإسراف فى الشهوات والآثام، لا لأن ذلك حقيقة ولكن لأنه يريد صنع سجعات، ويقول إن نفسه عميت عن الأهوال التى أشابت رءوس الأطفال وقطعت أعناق كمّل الرجال، والمبالغات فى الرسالة أكثر من أن نحصيها أو نقف عندها، وقد اجتلبت من أجل السجعات ورصفها.
ودائما نلتقى فى رسائل العهد العثمانى بمثل هذه المبالغات حتى فى رسائل التعزية، على نحو ما نجد فى تعزية للمفتى محمد بن حسين عزّى بها عبد الرزّاق بن حمادوش فى ابن له توفاه الله، فكتب إليه (1):
«بلغنا ما أحار الأذهان وأشجاها (2)، وأطار النوم من الأجفان وأبلاها، وأضرم لواعج الأشواق، وأذكى (3) زواعج الاحتراق، بالذى صدع أعشار (4) القلوب، وأفاض على صحن الخدّ الدموع من الغروب (5). . حتى أدركتنى محنتك وموت ولدك فأخذتنى الصدمة، وهيجت لى المحنة، فلقد رمانا الدهر بسهام صروفه فأصمانا (6)، وتعهدنا خطبه فهدّ عروشا وأركانا.
والرسالة مبنية على المبالغة الشديدة فقد بلغه ما أشجاه وأغصّه، وأطار النوم من جفونه وجعلها بالية خلقة، وهى مبالغة شديدة أتبعها بلواعج الأشواق، ومكانها فى التعزية قلق وأشد منها قلقا السجعة التالية لها. وقد بلغه ما صدع وشقق قطع قلبه. والمجئ بصحن الخد شديد التكلف. ويبدو أنه كان فقد عزيزا قبل ذلك فتكسر النصل على النصل فى فؤاده، وأصابته سهام الدهر فى الصميم كما أصابت ابن حمادوش، وقد بالغ مبالغات شتى فى تصوير حزنه. ولعله حشدها من أجل السجع.
4 -
المقامات
يبدو أن الجزائر-مثل بقية البلدان العربية-عرفت المقامات مبكرة، إذ كانت فنا جديدا أعجب به أدباء العرب فى كل مكان وأخذوا يتدارسونه، ونلتقى فى القرن السادس الهجرى
(1) تاريخ الجزائر الثقافى 2/ 205.
(2)
أشجاها: أغصّها.
(3)
أذكى: أوقد.
(4)
أعشار: قطع.
(5)
الغروب: المآقى.
(6)
فأصمانا: أصابنا فى الصميم.
بجزائرى يكتب فى هذا الفن هو الوهرانى المتوفى سنة 575 هـ وسنفرد له ترجمة، ويذكر الغبرينى فى كتابه عنوان الدراية طائفة من الأساتذة كانوا يدرسون مقامات الحريرى للطلاب طوال القرن السابع الهجرى مثل عبد الله بن نعيم الحضرمى ويوسف بن يخلف ومحمد بن الحسن بن ميمون القلعى، غير أن أدباء الجزائر قبل العهد العثمانى لم يحاولوا محاكاة الوهرانى فى مقاماته ولا محاكاة كتابها الأصليين من أمثال بديع الزمان الهمذانى والحريرى. أما فى عهد العثمانيين فنجد غير أديب يحاول كتابتها على نحو ما نجد عند أحمد البونى، إذ كتب سنة 1106 هـ/1694 م مقامة (1) فى أربع صفحات بعنوان:«إعلام الأخيار بغرائب الوقائع والأخبار» وهى فى بيان علاقة العلماء بالسلطة والشكوى من وشايات أهل العصر، ويستهلها بقوله:
ومن التجوز تسمية ذلك مقامة إذ لا تقوم على الكدية والشحاذة الأدبية وأقاصيص الأدباء السيارين الذين يجولون فى البلاد متفاصحين بأدبهم، محتالين على الناس حيلا شتى فى أخذ دراهمهم ودنانيرهم، على نحو ما نعرف عند بديع الزمان والحريرى، إنما ذلك أشبه برسالة تتناول موضوعا هو وشاية الناس النمامين لذوى السلطان للوقيعة بينهم وبين بعض العلماء، ولا مقامة، ولا ما يشبه المقامة.
وبعد نحو عشر سنوات أو تزيد قليلا ألف محمد بن ميمون ترجمة لوالى الجزائر محمد بكداش سماها التحفة المرضية فى الدولة البكداشية فى بلاد الجزائر المحمية»، وجعلها فى ستة
(1) انظر فى هذه المقامة تاريخ الجزائر الثقافى 2/ 218.
عشر فصلا، وسمىّ كل فصل مقامة تحكى جانبا من سيرة الوالى العثمانى محمد بكداش (1117 - 1121 هـ) والمقامة الأولى أو الفصل الأول فى نبذة من أخلاق محمد بكداش، ثم تتوالى المقامات أو الفصول عن أعماله. والصلة الوحيدة بين الفصول وبين المقامة هو تسمية فصولها مقامات، أما بعد ذلك فهى ترجمة متكاملة لسيرة وال عثمانى وكل ما يمكن أن يكون بينها وبين المقامة من شبه هو كتابتها سجعا، وقديما كتب العتبى المتوفى سنة 427 هـ/1035 م سيرة محمود الغزنوى سجعا فى كتابه عنه الذى سماه اليمينى نسبة إلى لقب محمود الذى لقبه به الخليفة العباسى: يمين الدولة، ونسج على منواله العماد الأصبهانى فى كتابه:«الفيح القسّى فى الفتح القدسى» وفيه يصف بإسهاب فتح صلاح الدين لبيت المقدس سجعا. ولم يقتبس محمد بن ميمون فى كتابه من أسلوب المقامات السجع وحده، فقد اقتبس أيضا ألفاظا لغوية وأنواعا بديعية كما قال فى مقدمته.
ويقدم ابن حمادوش الجزائرى المتوفى بأخرة من القرن الثانى عشر الهجرى ثلاث مقامات فى رحلته المنشورة بالجزائر بتحقيق د. أبى القاسم سعد الله، وأولاها تصف الطريق من تطوان إلى مكناس وما رآه فيها من غرائب، يقول (1):
(1) رحلة ابن حمادوش الجزائرى (طبع المكتبة الوطنية بالجزائر) ص 73.
(2)
أفحوص الطائر: مكان بيضه ورقاده عليه-والغرّ نفس الطائر المعروف فى مصر.
(3)
الكلا: العشب.
(4)
الحجل: طير فى حجم الحمام.
(5)
قوارب النيل والبحيرات فى الدلتا كانت تصنع أيضا من البردى أيام الفراعنة.
(6)
يكتد بالعود: يدفع القارب بعود فى يده وعلى صدره كما فى مصر حين يقترب من البر.
وابن حمادوش يقول إن أغرب ما رآه فى طريقه من تطوان إلى مكناسة طائرات من الغر فى بركة بأحد المروج، والغر معروف فى مصر بنفس الاسم ويرى كثيرا شتاء فى الإسكندرية ودمياط وبور سعيد أو بعبارة أدق فى البرك والبحيرات هناك. ويذكر للناس هناك قصة عنه: أنه بينى أفحوصه أو مرقده للبيض على قطعة من حصير الكلأ، وإنه ما يزال يتعهد بيضه حتى لا يمسه الماء فيفسد، وحتى يفرخ، ويصف بيضه وصفا دقيقا، ثم يذكر ما رآه فى نفس المرج وبركته من قوارب صيد السمك والطير وبيضه، وكيف أنها كانت تصنع من نبات البردى، وتضم حزمه بعضها إلى بعض بحبال الدوم الرقاق، وهى بذلك تشبه أدق الشبه قوارب الصيد أيام الفراعنة، وتطورت هذه القوارب عند المصريين حتى أصبحت سفنا كبيرة تجرى فى المياه بمجاديف متعددة، ولم تكن أعواد القوارب التى رآها ابن حمادوش تقذف بمياه أى أنها لم تكن مجاديف، إنما كانت ما يسمى فى مصر عند صياديها وملاحيها باسم مدرى، وهى عود طويل من خشب يدفع به النّوتىّ القارب، ممسكا به بيديه ودافعا له بصدره بمنتهى ما يملك من قوة، ليندفع القارب كما يريد. وليس فى المقامة كدية ولا شحاذة أدبية بل هى وصف لطريق ومشاهده وصفا أدبيا. ولا يلبث ابن حمادوش أن يورد فى رحلته مقامة ثانية باسم المقامة الهركلية، ويستهلها قائلا (1):
والمقامة ليس فيها إلا هذا الوصف للخان، فهى أضعف من صاحبتها أدبيا أو من حيث المشاهد الأدبية، وسمى البلد هركلة ولعله يريد هرجلة لما سمع فى الفندق من هرج وصياح وجلبة هنا وهناك، مما جعله يشد الرحال ويعزم على الترحال. ويورد فى رحلته مقامة ثالثة لكن لا فى وصف بعض المشاهد أو المدن أو الفنادق، وإنما فى وصف زوجته التى كانت تمتلئ عليه سخطا كما يقول فى رحلته حين تجده يخسر أمواله فى التجارة، وكذلك حين
(1) رحلة ابن حمادوش الجزائرى ص 78.
(2)
هركلة: بلدة.
(3)
خان: فندق.
تجد علمه لا يروج ولا يردّ عليه ما يخسره، مما كان يجعلها تعمد إلى مغاضبته، وفيها يقول فى مقامته الثالثة التى سماها المقامة الحالية واصفا لها (1):
«قرنت بجارة غرّة (2)، عيشتها مرة، آمالها ظنون ورغبتها فيما لا يكون، الدهر كله ساخطة، ومطالبها شائطة (3)، تخزيك أو تحرجك أو تحزنك، لا تطلب إلا العنقاء (4)، ولا ترغب إلا فى الرّخ (5)، ولا تتغذى إلا بيض (6) الأنوق، ولا تجنى إلا ثمرة الخلاف، ولا تركن إلا لعدم الإسعاف. . غذتها أمّها لبن القرود، فشبّت لا تألف المقصود. . بيد أنها تسرّ الناظرين، وتصبى السّامعين، يصبو إليها الحليم، ويرنو إليها الكريم. . أشبهت فى القدّ الغصن القويم، والسّمهرىّ (7) المستقيم، وقد صدق عليها قول الشاعر:
أسيلات أبدان رقاق خصورها
…
وثيرات ما التاثت عليه المآزر (8)
كأنها درّة مصونة، أو جوهرة مكنونة. . فلذا اخترتها أما لأولادى، ومنفقة (9) لطارفى وتلادى علما منى أن الدنيا دار كدر، وقليل فيها ما يسرّ، نظرا لقول الصادق الصدوق:«اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة» .
وهو قضاؤه وقضاء كثيرين مثل ابن حمادوش يسيئون اختيار زوجاتهم، لما قد يصبيهم فيهنّ من حسن وجمال كما أصبى ابن حمادوش، ومع ذلك فهناك زوجات كثيرات جميلات خلقة وخلقا لأنهن من أصل كريم. وقد صوّر ابن حمادوش زوجته غرة يسهل انخداعها، بل جمعت السوء كله إذ عيشتها مرة، ودائما غاضبة ساخطة تطلب ما لا يتأتّى ولا يكون، ولا تترك وسيلة لخزى زوجها وإحراجه إلا تقترفها، ودائما تطلب منه المستحيل من مثل طير العنقاء والرخ الأسطوريين وبيض النوق الذى لا يمكن أن يوجد. ودأبها دائما الخلاف بل لكأنما تجد فيه لذتها فهى تجنيه وتقطفه من كل واد ومن كل طريق، ولكأنما غذّتها أمها بلبن القرود فهى ما تنى تقفز من خلاف إلى خلاف ومن نكد وغمّ إلى نكد وغم. وقد يكون ابن حمادوش أراد أن أن يداعب زوجته، فجرته المداعبة إلى هذه المبالغات التى استخدم فيها محفوظاته من مثل العنقاء وطائر الرخ وبيض الأنوق وثمر الخلاف أو شجره. وقد يدل على ذلك أنه عاد يصفها بصفات جمال مختلفة، ويجعلها درة مصونة أو جوهرة مكنونة. وواضح
(1) رحلة ابن حمادوش ص 164.
(2)
غرة: يسهل أن تخدع.
(3)
شائطة: متجاوزة الحد.
(4)
العنقاء: طائر خرافى لا وجود له.
(5)
طائر الرخ: طائر خرافى.
(6)
بيض الأنوق: بيض وهمى لأن النوق لا تبيض.
(7)
السمهرى: السيف.
(8)
أسيلات: ناعمات. وثيرات: ممتلئات. التاثت: التفت.
(9)
فى الأصل: نافقة.