المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

أرجو من الله فيه توفيقا وتسديدا بحسب قدرى لا على - تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف - جـ ١٠

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدّمة

- ‌1 - [الجزائر]

- ‌2 - [المغرب الأقصى]

- ‌3 - [موريتانيا]

- ‌4 - [السودان]

- ‌القسم الأولالجزائر

- ‌الفصل الأوّلالجغرافية والتاريخ

- ‌1 -الجغرافية

- ‌3 -الفتح والولاة-الأغالبة-الإباضية-تلمسان

- ‌(ب) الأغالبة

- ‌(ج) الإباضيون

- ‌(د) تلمسان

- ‌4 -الدولة العبيدية-الدولة الصنهاجية-بنو حماد

- ‌(أ) الدولة العبيدية

- ‌(ج) بنو حماد

- ‌5 -دولة الموحدين-الدولة الحفصية-بنو عبد الواد

- ‌الفصل الثّانىالمجتمع الجزائرى

- ‌2 -المعيشة

- ‌(أ) الثراء

- ‌(ب) الرّفة

- ‌(ج) الموسيقى

- ‌4 -الدين-المالكية والحنفية-الإباضية-المعتزلة

- ‌(أ) الدين

- ‌(د) المعتزلة

- ‌الفصل الثالثالثقافة

- ‌1 -الحركة العلمية

- ‌(أ) فاتحون ناشرون للإسلام ومعلمون

- ‌(ب) دور العلم:‌‌ الكتاتيب-‌‌المساجد-المدارس-الزوايا-المكتبات

- ‌ الكتاتيب

- ‌المساجد

- ‌المدارس

- ‌الزوايا

- ‌المكتبات

- ‌(ج) نمو الحركة العلمية

- ‌5 -التاريخ

- ‌الفصل الرّابعنشاط الشعر والشعراء

- ‌2 -كثرة الشعراء

- ‌3 -شعراء المديح

- ‌ عبد الكريم النهشلى

- ‌ ابن خميس

- ‌ الشهاب بن الخلوف

- ‌ محمد القوجيلى

- ‌4 -شعراء الفخر والهجاء

- ‌(أ) شعراء الفخر

- ‌(ب) شعراء الهجاء

- ‌ بكر بن حماد التاهرتى

- ‌ سعيد المنداسى

- ‌5 -الشعراء والشعر التعليمى

- ‌ عبد الرحمن الأخضرى

- ‌الفصل الخامسطوائف من الشعراء

- ‌1 -شعراء الغزل

- ‌ ابن على

- ‌2 -شعراء وصف الطبيعة

- ‌ عبد الله بن محمد الجراوى

- ‌3 -شعراء الرثاء

- ‌4 -شعراء الزهد والتصوف

- ‌(أ) شعراء الزهد

- ‌(ب) شعراء التصوف

- ‌ إبراهيم التازى

- ‌5 -شعراء المدائح النبوية

- ‌الفصل السّادسالنثر وكتّابه

- ‌1 -الخطب والوصايا

- ‌2 -الرسائل الديوانية

- ‌3 -الرسائل الشخصية

- ‌4 -المقامات

- ‌5 -كبار الكتاب

- ‌[(ب)] الوهرانى

- ‌القسم الثانىالمغرب الأقصى

- ‌الفصل الأوّلالجغرافية والتاريخ

- ‌1 -الجغرافية

- ‌3 -الفتح والولاة-ثورة الصفرية-بنو مدرار-الأدارسة-بعد الأدارسة والمدراريين

- ‌(ب) ثورة الصفرية

- ‌(د) الأدارسة

- ‌4 -المرابطون-الموحدون-بنومرين

- ‌(أ) المرابطون

- ‌(ب) الموحدون

- ‌5 -السعديون-الطرق الصوفية-العلويون

- ‌(أ) السعديون

- ‌(ج) العلويون

- ‌الفصل الثّانىالمجتمع المغربى

- ‌1 -عناصر السكان

- ‌2 -المعيشة

- ‌3 -الثراء-الرّفة-الموسيقى-المرأة

- ‌(أ) الثراء

- ‌(ب) الرّفة

- ‌(ج) الموسيقى

- ‌(د) المرأة

- ‌4 -المالكية-الصفرية-المعتزلة-الظاهرية

- ‌(أ) المالكية

- ‌(ب) الصفرية

- ‌(ج) المعتزلة

- ‌(د) الظاهرية

- ‌5 -الزهاد-المتصوفة

- ‌(أ) الزهاد

- ‌(ب) المتصوفة

- ‌الفصل الثالثالثقافة

- ‌1 -الحركة العلمية

- ‌(أ) فاتحون ناشرون للإسلام ومعلمون

- ‌ الكتاتيب

- ‌(ب) دور العلم: الكتاتيب-المساجد-المدارس-الزوايا-المكتبات

- ‌المساجد

- ‌المدارس

- ‌الزوايا

- ‌المكتبات

- ‌(ج) نمو الحركة العلمية

- ‌2 -علوم الأوائل

- ‌3 -علوم اللغة والنحو والعروض والبلاغة

- ‌5 -التاريخ

- ‌الفصل الرّابعنشاط الشعر والشعراء

- ‌1 -تعرب المغرب الأقصى-كثرة الشعراء

- ‌(أ) تعرب المغرب الأقصى

- ‌(ب) كثرة الشعراء

- ‌2 -شعراء الموشحات والأزجال

- ‌(أ) شعراء الموشحات

- ‌ ابن غرلة

- ‌ ابن الصباغ

- ‌ ابن زاكور

- ‌(ب) شعراء الأزجال

- ‌ابن عمير

- ‌3 -شعراء المديح

- ‌ ابن زنباع

- ‌ ابن حبوس

- ‌الجراوى

- ‌ ابن عبد المنان

- ‌الهوزالى

- ‌الدغوغى

- ‌البوعنانى

- ‌4 -شعراء الفخر والهجاء

- ‌(أ) الفخر

- ‌ الشاذلى

- ‌(ب) الهجاء

- ‌5 -الشعراء والشعر التعليمى

- ‌ عبد العزيز الملزوزى

- ‌ابن الونان

- ‌الفصل الخامسطوائف من الشعراء

- ‌1 -شعراء الغزل

- ‌ أبو الربيع الموحدى

- ‌ عمر السلمى

- ‌2 -شعراء الوصف

- ‌3 -شعراء الرثاء

- ‌ ابن شعيب الجزنائى

- ‌4 -شعراء الزهد والتصوف

- ‌(أ) شعراء الزهد

- ‌(ب) شعراء التصوف

- ‌ ابن المحلى

- ‌5 -شعراء المدائح النبوية

- ‌ميمون بن خبازة

- ‌ مالك بن المرحل

- ‌الفصل السادسالنثر وكتّابه

- ‌1 -الخطب والمواعظ

- ‌2 -الرسائل الديوانية

- ‌3 -الرسائل الشخصية

- ‌4 -المقامات والرحلات

- ‌(أ) المقامات

- ‌(ب) الرحلات

- ‌ رحلة ابن رشيد

- ‌ رحلة العياشى

- ‌ رحلة ابن ناصر

- ‌5 -كبار الكتّاب

- ‌(أ) القاضى عياض

- ‌القسم الثالثموريتانيا

- ‌الفصل الأوّلالجغرافية والتاريخ

- ‌1 -الجغرافية

- ‌2 -التاريخ

- ‌الفصل الثّانىالمجتمع والثقافة

- ‌1 -المجتمع

- ‌(أ) صنهاجة وقبائل المعقل العربية

- ‌(ب) الزروع والمراعى

- ‌(ج) التجارة

- ‌(د) حياة يدوية

- ‌2 -الثقافة

- ‌(أ) نشاط دينى تعليمى كبير

- ‌(ب) التعليم والطلاب والشيوخ

- ‌(ج) أمهات الكتب والمتون والشروح المتداولة

- ‌(د) أعلام العلماء فى موريتانيا

- ‌(هـ) القراء والمفسرون والمحدثون والفقهاء

- ‌(و) أعلام النحاة والمتكلمين

- ‌الفصل الثالثنشاط الشعر والشعراء

- ‌1 -تعرّب موريتانيا

- ‌2 -شعراء المديح

- ‌ ابن رازكة

- ‌3 -شعراء الفخر والهجاء

- ‌(أ) شعراء الفخر

- ‌ المختار بن بون

- ‌(ب) شعراء الهجاء

- ‌4 -شعراء الرثاء

- ‌الفصل الرّابعطوائف من الشعراء

- ‌1 -شعراء الغزل

- ‌ الأحول الحسنى

- ‌ يقوى الفاضلى

- ‌2 -شعراء التصوف

- ‌ المختار الكنتى

- ‌الشيخ سيديّا

- ‌3 -شعراء المدائح النبوية

- ‌ محمد بن محمد العلوى

- ‌4 -الشعراء والشعر التعليمى

- ‌القسم الرابعالسودان

- ‌الفصل الأوّلالجغرافية والتاريخ

- ‌1 -الجغرافية

- ‌2 -التاريخ

- ‌3 -(ج) دولة الفونج

- ‌4 -محمد على والسودان-عهد إسماعيل

- ‌5 -حركة المهدى-خليفته عبد الله التعايشى

- ‌الفصل الثّانىالمجتمع السودانى-الثقافة

- ‌(أ) نزعة صوفية عامة

- ‌(ب) المرأة ومكانتها فى التصوف

- ‌(ج) التصوف والتربية الخلقية والدينية

- ‌(د) طرق صوفية جديدة

- ‌(هـ) دعوة المهدى ومبادئها الستة

- ‌2 -الثقافة

- ‌(أ) كتاتيب-زوايا-مساجد

- ‌(ب) حركة علمية نشيطة فى عهد الفونج

- ‌(ج) سودانيون أزهريون وعلماء مصريون

- ‌(د) التعليم المدنى الحديث وتوقفه

- ‌(هـ) إنشاء معهد دينى وعودة التعليم المدنى الحديث

- ‌الفصل الثالثنشاط الشعر والشعراء

- ‌2 -شعراء المديح

- ‌ الشيخ حسين زهراء

- ‌ الشيخ محمد عمر البناء

- ‌3 -شعراء الفخر والحماسة

- ‌ الشيخ يحيى السلاوى السودانى

- ‌ عثمان هاشم

- ‌4 -شعراء الرثاء

- ‌(أ) رثاء الأفراد

- ‌ الشيخ محمد سعيد العباسى

- ‌(ب) رثاء المدن

- ‌الفصل الرّابعطوائف من الشعراء

- ‌1 -شعراء الغزل العفيف

- ‌2 -شعراء النقد العنيف والشكوى من الزمن

- ‌الشيخ عبد الله البناء

- ‌ صالح عبد القادر

- ‌3 -شعراء التصوف

- ‌4 -شعراء المدائح النبوية

- ‌ الشيخ عمر الأزهرى

- ‌ الشيخ عبد الله عبد الرحمن

الفصل: أرجو من الله فيه توفيقا وتسديدا بحسب قدرى لا على

أرجو من الله فيه توفيقا وتسديدا بحسب قدرى لا على قدركم، وعلى مثل فكرى القاصر لا على عظيم فكركم. .»

ويختم الرسالة بالصلاة على سيد الخلق ويذكر أنها كتبت فى سابع أو ثامن رجب من عام 1038 للهجرة. وواضح ما يجرى فى الرسالة من سجع متكلف وأنها تقوم على المبالغة المسرفة حتى لينسب الشيخ إلى نفسه الإسراف فى الشهوات والآثام، لا لأن ذلك حقيقة ولكن لأنه يريد صنع سجعات، ويقول إن نفسه عميت عن الأهوال التى أشابت رءوس الأطفال وقطعت أعناق كمّل الرجال، والمبالغات فى الرسالة أكثر من أن نحصيها أو نقف عندها، وقد اجتلبت من أجل السجعات ورصفها.

ودائما نلتقى فى رسائل العهد العثمانى بمثل هذه المبالغات حتى فى رسائل التعزية، على نحو ما نجد فى تعزية للمفتى محمد بن حسين عزّى بها عبد الرزّاق بن حمادوش فى ابن له توفاه الله، فكتب إليه (1):

«بلغنا ما أحار الأذهان وأشجاها (2)، وأطار النوم من الأجفان وأبلاها، وأضرم لواعج الأشواق، وأذكى (3) زواعج الاحتراق، بالذى صدع أعشار (4) القلوب، وأفاض على صحن الخدّ الدموع من الغروب (5). . حتى أدركتنى محنتك وموت ولدك فأخذتنى الصدمة، وهيجت لى المحنة، فلقد رمانا الدهر بسهام صروفه فأصمانا (6)، وتعهدنا خطبه فهدّ عروشا وأركانا.

والرسالة مبنية على المبالغة الشديدة فقد بلغه ما أشجاه وأغصّه، وأطار النوم من جفونه وجعلها بالية خلقة، وهى مبالغة شديدة أتبعها بلواعج الأشواق، ومكانها فى التعزية قلق وأشد منها قلقا السجعة التالية لها. وقد بلغه ما صدع وشقق قطع قلبه. والمجئ بصحن الخد شديد التكلف. ويبدو أنه كان فقد عزيزا قبل ذلك فتكسر النصل على النصل فى فؤاده، وأصابته سهام الدهر فى الصميم كما أصابت ابن حمادوش، وقد بالغ مبالغات شتى فى تصوير حزنه. ولعله حشدها من أجل السجع.

‌4 -

المقامات

يبدو أن الجزائر-مثل بقية البلدان العربية-عرفت المقامات مبكرة، إذ كانت فنا جديدا أعجب به أدباء العرب فى كل مكان وأخذوا يتدارسونه، ونلتقى فى القرن السادس الهجرى

(1) تاريخ الجزائر الثقافى 2/ 205.

(2)

أشجاها: أغصّها.

(3)

أذكى: أوقد.

(4)

أعشار: قطع.

(5)

الغروب: المآقى.

(6)

فأصمانا: أصابنا فى الصميم.

ص: 237

بجزائرى يكتب فى هذا الفن هو الوهرانى المتوفى سنة 575 هـ وسنفرد له ترجمة، ويذكر الغبرينى فى كتابه عنوان الدراية طائفة من الأساتذة كانوا يدرسون مقامات الحريرى للطلاب طوال القرن السابع الهجرى مثل عبد الله بن نعيم الحضرمى ويوسف بن يخلف ومحمد بن الحسن بن ميمون القلعى، غير أن أدباء الجزائر قبل العهد العثمانى لم يحاولوا محاكاة الوهرانى فى مقاماته ولا محاكاة كتابها الأصليين من أمثال بديع الزمان الهمذانى والحريرى. أما فى عهد العثمانيين فنجد غير أديب يحاول كتابتها على نحو ما نجد عند أحمد البونى، إذ كتب سنة 1106 هـ/1694 م مقامة (1) فى أربع صفحات بعنوان:«إعلام الأخيار بغرائب الوقائع والأخبار» وهى فى بيان علاقة العلماء بالسلطة والشكوى من وشايات أهل العصر، ويستهلها بقوله:

«الحمد لله الذى جعل المصائب وسائل لمغفرة الذنوب، والنوائب فضائل لذوى الأقدار والخطوب، وسلط-سبحانه وتعالى-على الأشراف أرباب الزور والفجور والإسراف. . . وبعد أيها العلماء والفضلاء النبلاء الكملاء فرّغوا أذهانكم وألقوا آذانكم، وتأملوا ما يلقى إليكم من الخبر الغريب، وما يرسله الله تعالى على كل عاقل أريب، فقد ارتفعت الأشرار، واتضعت أرباب المعارف والأسرار، وانقلبت الأعيان، وفشا فى الناس الزور والبهتان، وأهملت أحكام الشريعة، وتصدّى لها كل ذى نفس للشر سريعة. بينما نحن فى عيش ظله وريف، وفى أهنأ لذة بقراءة العلم الشريف، إذ سعى فى تشتيت أحوالنا وقلوبنا، وهتك أستارنا وعيوبنا، من لا يخاف الله ولا يتقيه، فرمى كل صالح وفقيه، بما هو لاقيه، واعتدّ فى ذلك بقوم يظنون أنهم أفاضل، وهم-والله-أوباش أراذل. وما كفاه بثّ ذلك فى كل ميدان. . حتى أوصله لمسامع السلطان، فلم نشعر إلا ومكاتبات واردة علينا من جانب الأمير، بعزل صديقنا الشهير. . من خطة الفتوى، مع أنه ذو علم وتقوى، وتحيرنا من ذلك أشد التحير، وتغيرنا بسببه أعظم التغير» .

ومن التجوز تسمية ذلك مقامة إذ لا تقوم على الكدية والشحاذة الأدبية وأقاصيص الأدباء السيارين الذين يجولون فى البلاد متفاصحين بأدبهم، محتالين على الناس حيلا شتى فى أخذ دراهمهم ودنانيرهم، على نحو ما نعرف عند بديع الزمان والحريرى، إنما ذلك أشبه برسالة تتناول موضوعا هو وشاية الناس النمامين لذوى السلطان للوقيعة بينهم وبين بعض العلماء، ولا مقامة، ولا ما يشبه المقامة.

وبعد نحو عشر سنوات أو تزيد قليلا ألف محمد بن ميمون ترجمة لوالى الجزائر محمد بكداش سماها التحفة المرضية فى الدولة البكداشية فى بلاد الجزائر المحمية»، وجعلها فى ستة

(1) انظر فى هذه المقامة تاريخ الجزائر الثقافى 2/ 218.

ص: 238

عشر فصلا، وسمىّ كل فصل مقامة تحكى جانبا من سيرة الوالى العثمانى محمد بكداش (1117 - 1121 هـ) والمقامة الأولى أو الفصل الأول فى نبذة من أخلاق محمد بكداش، ثم تتوالى المقامات أو الفصول عن أعماله. والصلة الوحيدة بين الفصول وبين المقامة هو تسمية فصولها مقامات، أما بعد ذلك فهى ترجمة متكاملة لسيرة وال عثمانى وكل ما يمكن أن يكون بينها وبين المقامة من شبه هو كتابتها سجعا، وقديما كتب العتبى المتوفى سنة 427 هـ/1035 م سيرة محمود الغزنوى سجعا فى كتابه عنه الذى سماه اليمينى نسبة إلى لقب محمود الذى لقبه به الخليفة العباسى: يمين الدولة، ونسج على منواله العماد الأصبهانى فى كتابه:«الفيح القسّى فى الفتح القدسى» وفيه يصف بإسهاب فتح صلاح الدين لبيت المقدس سجعا. ولم يقتبس محمد بن ميمون فى كتابه من أسلوب المقامات السجع وحده، فقد اقتبس أيضا ألفاظا لغوية وأنواعا بديعية كما قال فى مقدمته.

ويقدم ابن حمادوش الجزائرى المتوفى بأخرة من القرن الثانى عشر الهجرى ثلاث مقامات فى رحلته المنشورة بالجزائر بتحقيق د. أبى القاسم سعد الله، وأولاها تصف الطريق من تطوان إلى مكناس وما رآه فيها من غرائب، يقول (1):

«ومن غريب ما رأيت فى مرج طويل أنى رأيت غرّتين، كل واحدة فى أفحوصها (2) فوق الماء، تحضن بيضها، وشهد أهل الحى كبيرهم وصغيرهم أن الغر وأبا غطاس وطيورا أخرى لا تلد إلا فوق الماء فى الموضع الذى يكون عليه كقطعة حصير من الكلأ (3)، يبنون به أفحوصهم ويبيضون ويفرخون، ولا يمسّ بيضهم الماء، وإن مسّه الماء فسد، وهو يبنى بناء صحيحا جدا. وأتونا ببيض الغرّ، معظمه كبيض الدجاج، ولونه كلون بيض الحجل (4)، إلا أنه أشد بياضا من بيض الحجل، وفيه نقط سود. والغر طائر قدر الدجاج أسود اللون وبين عينيه غرة بيضاء. . ومن غرائب ما رأيت أن فى هذا المرج قوارب يصطادون بها السمك والطير وبيضه، ويعدّون (يجتازون) عليها من ناحية إلى أخرى، ويحملون عليها أحمال الزرع وغيره، وهى من حزم البردى (5)، يعقدون حزمة بحبال الدوم الرقاق ويجعلونها وسطى، ويعقدون حزمتين، يجعلون من كل ناحية واحدة عالية يمينا وشمالا، ووسطها منخفض، ويجمعون بينها بالربط من مقدمها، ويشدّون الكل بالربط بينها. ويركب فيها، ويمسك الراكب فى يده عودا طويلا يكتدّ (6) به ولا يقذف» .

(1) رحلة ابن حمادوش الجزائرى (طبع المكتبة الوطنية بالجزائر) ص 73.

(2)

أفحوص الطائر: مكان بيضه ورقاده عليه-والغرّ نفس الطائر المعروف فى مصر.

(3)

الكلا: العشب.

(4)

الحجل: طير فى حجم الحمام.

(5)

قوارب النيل والبحيرات فى الدلتا كانت تصنع أيضا من البردى أيام الفراعنة.

(6)

يكتد بالعود: يدفع القارب بعود فى يده وعلى صدره كما فى مصر حين يقترب من البر.

ص: 239

وابن حمادوش يقول إن أغرب ما رآه فى طريقه من تطوان إلى مكناسة طائرات من الغر فى بركة بأحد المروج، والغر معروف فى مصر بنفس الاسم ويرى كثيرا شتاء فى الإسكندرية ودمياط وبور سعيد أو بعبارة أدق فى البرك والبحيرات هناك. ويذكر للناس هناك قصة عنه: أنه بينى أفحوصه أو مرقده للبيض على قطعة من حصير الكلأ، وإنه ما يزال يتعهد بيضه حتى لا يمسه الماء فيفسد، وحتى يفرخ، ويصف بيضه وصفا دقيقا، ثم يذكر ما رآه فى نفس المرج وبركته من قوارب صيد السمك والطير وبيضه، وكيف أنها كانت تصنع من نبات البردى، وتضم حزمه بعضها إلى بعض بحبال الدوم الرقاق، وهى بذلك تشبه أدق الشبه قوارب الصيد أيام الفراعنة، وتطورت هذه القوارب عند المصريين حتى أصبحت سفنا كبيرة تجرى فى المياه بمجاديف متعددة، ولم تكن أعواد القوارب التى رآها ابن حمادوش تقذف بمياه أى أنها لم تكن مجاديف، إنما كانت ما يسمى فى مصر عند صياديها وملاحيها باسم مدرى، وهى عود طويل من خشب يدفع به النّوتىّ القارب، ممسكا به بيديه ودافعا له بصدره بمنتهى ما يملك من قوة، ليندفع القارب كما يريد. وليس فى المقامة كدية ولا شحاذة أدبية بل هى وصف لطريق ومشاهده وصفا أدبيا. ولا يلبث ابن حمادوش أن يورد فى رحلته مقامة ثانية باسم المقامة الهركلية، ويستهلها قائلا (1):

«الحمد لله حدا بى حادى الرحلة إلى أن دخلت فى بعض أسفارى هركلة (2)، فنزلت بها فى خان (3) كأنه من أبيات النيران، أو كنائس الرهبان، بل لا شك أنه من أبيات العصيان، فلذلك لا يسرّ به الناظر، ولا ينشرح له الخاطر، فاختصصت منه بحجرة، أو نقرة فى حجرة، وكأنى وقعت من السماء فى حفرة، أو تبعت أفعوانا فدخلت جحره، فغلّقت بابى، لأحفظ حيائى وأومّن جنابى، من شدة أتعايى. . حتى مدّ الليل جناحه، وأوقد فى السماء مصباحه، وهدأت الأصوات، وصرنا كالأموات، وتوغلت فى حبائل النوم، ولم أدر ما هنالك من القوم، ولم توقظنى إلا جلبة الأصوات. . . وشددت الرحال، وتهيأت للترحال» .

والمقامة ليس فيها إلا هذا الوصف للخان، فهى أضعف من صاحبتها أدبيا أو من حيث المشاهد الأدبية، وسمى البلد هركلة ولعله يريد هرجلة لما سمع فى الفندق من هرج وصياح وجلبة هنا وهناك، مما جعله يشد الرحال ويعزم على الترحال. ويورد فى رحلته مقامة ثالثة لكن لا فى وصف بعض المشاهد أو المدن أو الفنادق، وإنما فى وصف زوجته التى كانت تمتلئ عليه سخطا كما يقول فى رحلته حين تجده يخسر أمواله فى التجارة، وكذلك حين

(1) رحلة ابن حمادوش الجزائرى ص 78.

(2)

هركلة: بلدة.

(3)

خان: فندق.

ص: 240

تجد علمه لا يروج ولا يردّ عليه ما يخسره، مما كان يجعلها تعمد إلى مغاضبته، وفيها يقول فى مقامته الثالثة التى سماها المقامة الحالية واصفا لها (1):

«قرنت بجارة غرّة (2)، عيشتها مرة، آمالها ظنون ورغبتها فيما لا يكون، الدهر كله ساخطة، ومطالبها شائطة (3)، تخزيك أو تحرجك أو تحزنك، لا تطلب إلا العنقاء (4)، ولا ترغب إلا فى الرّخ (5)، ولا تتغذى إلا بيض (6) الأنوق، ولا تجنى إلا ثمرة الخلاف، ولا تركن إلا لعدم الإسعاف. . غذتها أمّها لبن القرود، فشبّت لا تألف المقصود. . بيد أنها تسرّ الناظرين، وتصبى السّامعين، يصبو إليها الحليم، ويرنو إليها الكريم. . أشبهت فى القدّ الغصن القويم، والسّمهرىّ (7) المستقيم، وقد صدق عليها قول الشاعر:

أسيلات أبدان رقاق خصورها

وثيرات ما التاثت عليه المآزر (8)

كأنها درّة مصونة، أو جوهرة مكنونة. . فلذا اخترتها أما لأولادى، ومنفقة (9) لطارفى وتلادى علما منى أن الدنيا دار كدر، وقليل فيها ما يسرّ، نظرا لقول الصادق الصدوق:«اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة» .

وهو قضاؤه وقضاء كثيرين مثل ابن حمادوش يسيئون اختيار زوجاتهم، لما قد يصبيهم فيهنّ من حسن وجمال كما أصبى ابن حمادوش، ومع ذلك فهناك زوجات كثيرات جميلات خلقة وخلقا لأنهن من أصل كريم. وقد صوّر ابن حمادوش زوجته غرة يسهل انخداعها، بل جمعت السوء كله إذ عيشتها مرة، ودائما غاضبة ساخطة تطلب ما لا يتأتّى ولا يكون، ولا تترك وسيلة لخزى زوجها وإحراجه إلا تقترفها، ودائما تطلب منه المستحيل من مثل طير العنقاء والرخ الأسطوريين وبيض النوق الذى لا يمكن أن يوجد. ودأبها دائما الخلاف بل لكأنما تجد فيه لذتها فهى تجنيه وتقطفه من كل واد ومن كل طريق، ولكأنما غذّتها أمها بلبن القرود فهى ما تنى تقفز من خلاف إلى خلاف ومن نكد وغمّ إلى نكد وغم. وقد يكون ابن حمادوش أراد أن أن يداعب زوجته، فجرته المداعبة إلى هذه المبالغات التى استخدم فيها محفوظاته من مثل العنقاء وطائر الرخ وبيض الأنوق وثمر الخلاف أو شجره. وقد يدل على ذلك أنه عاد يصفها بصفات جمال مختلفة، ويجعلها درة مصونة أو جوهرة مكنونة. وواضح

(1) رحلة ابن حمادوش ص 164.

(2)

غرة: يسهل أن تخدع.

(3)

شائطة: متجاوزة الحد.

(4)

العنقاء: طائر خرافى لا وجود له.

(5)

طائر الرخ: طائر خرافى.

(6)

بيض الأنوق: بيض وهمى لأن النوق لا تبيض.

(7)

السمهرى: السيف.

(8)

أسيلات: ناعمات. وثيرات: ممتلئات. التاثت: التفت.

(9)

فى الأصل: نافقة.

ص: 241