الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أما فى السلم فدائما راكعون ساجدون لله وعلى وجوههم أثر السجود وعلاماته. ويوم النزال تظنهم أسدا وقد بدت رماحهم الطويلة فوقهم وكأنها غابة ضخمة. ويقول إنهم يبادرون إلى الحرب فيركبون خيولهم، وما هى إلا ساعات يغادرون بعدها ساحة الحرب وقد خلّفوا للنسور طعامها من لحوم أعدائهم، وتسيل الأرض بدمائهم وكأنما أنبتت جماجم ورءوسا لكثرة القتلى. ويشيد البنّا عقب ذلك بانتصاراتهم وإعلائهم لكلمة الله وإرضائهم لرسوله وقمعهم لأعدائهم، ويحث المهدى على غزو الخرطوم وإخراج الغواة المفسدين منها ضاربا له المثل بجهاد الرسول والصحابة ضد العتاة الظالمين، ويهنئ الشهداء من جيشه، فالحور العين تنتظر لقاءهم فرحا بهم، والجنات تزينت لقدومهم. والقصيدة شعلة من الحماسة الملتهبة. وللبنّا قصيدة يمتدح بها عثمان دقنه قائد جيش المهديين فى شرقى السودان، وفيها يصور بسالة جنوده منشدا:
بعثت لهم همم الجهاد ملابس
…
النّصر العزيز يمدّه التصويب
وأمدّهم جيش الملائك ناشرا
…
رايات نصر للبلاد تجوب
فسيوفهم مسلولة ورماحهم
…
مسنونة وعدوّهم مرعوب
وعدوّهم دوما يغصّ بريقه
…
والرعب منهم للقلوب يذيب
إن نوزلوا كانوا الليوث معاركا
…
أو غولبوا فعدوّهم مغلوب
أو حوربوا فالرّعب من أعوانهم
…
دوما وعقل عداتهم مسلوب
وهو يقول: كأنما همم الجهاد القعساء أرسلت إليهم ملابس النّصر ترافقها إصابة الأهداف، بل لقد زوّدهم جيش الملائكة برايات نصر نشرها فى البلاد، وسيوفهم مسلولة من أغمادها ورماحهم مسنونة قاطعة، وأعداؤهم غاصّون بريقهم من شدة رعبهم، بل ليكاد الرعب يذيب قلوبهم. وإن نوزلوا فى معركة كانوا أسودا وإن غولبوا غلبوا وقهروا الأعداء قهرا، أو حوربوا كان الرعب من أنصارهم دائما، ودائما كان عقل أعدائهم مسلوبا من هول حربهم ونزالهم الضارى.
3 -
شعراء الفخر والحماسة
مرت بنا أشعار حماسية زمن الدعوة المهدية لمحمد الطاهر المجذوب ومحمد عمر البناء، ونلتقى بالشاعر يحيى السلاوى السودانى يرحل إلى مصر للمشاركة فى الثورة العرابية، وسنفرد له ترجمة عما قليل، نعرض فيها له قصيدة حماسية. وتلقانا عند عثمان هاشم حماسية بديعة فى حرب مصطفى كمال لليونان وإخراجهم على وجوههم مدحورين من الأناضول، وسنخصه
بترجمة، ولغير شاعر سودانى فخر حماسى، وهو يتخذ صورا متعددة، من ذلك فخر الشخص بنفسه وآبائه مثل قول عبد الله الكردى المولود سنة 1301 هـ/1884 م (1):
إنّى ابن أنثى حرّة عربية
…
آباؤها بيض الوجوه فحول (2)
إنّي عريق فى النّجار وأبلج
…
فى برده كرم يكاد يسيل (3)
تنميه للحىّ اللّقاح عشيرة
…
وأب وقور ماجد بهلول (4)
وأنا امرؤ زين المحافل شاعر
…
لى هزّة نحو السماح تميل
هتفت بذكرى فى البلاد قصائدى
…
وشدا بهنّ على الغصون هديل
وهو يفتخر بأن أمه عربية وأن آباءه بيض الوجوه فائقون لأعمالهم الجليلة وأنه عريق فى أصله مشرق الوجه، غيث مدرار، يكاد الكرم يسيل من برده، ينسب فى عشيرته لحىّ لم يدن لملوك أبدا، وأبوه وقور ماجد سيد، وإنه لزين المحافل شاعر يهتز للشيم الكريمة من سماحة وغير سماحة، وقد شاع ذكره فى البلاد لقصائده البديعة، وغنى بها على الغصون هديل الحمام وكأنه يرددها فى تلاحينه. ويقول على أرباب مفاخرا بنفسه فيما يقدم لوطنه (5):
إذا أنا لم أرفع إلى المجد موطنى
…
فلا ساعدى يوما علته مناكبه
أقومى إن متّ اذكرونى فإنما
…
حياتى وقف للعلا ومراكبه
ومالى مقسوم لكلّ عشيرتى
…
وصدرى رحب لا تضيق جوانبه
ولا أنا فعّال لشئ يشيننى
…
ولست بعذّال لخلّى أعاتبه
هل الخير إلا أن تقوم بواجب
…
تساعد مسكينا ويعطى رغائبه
وهو يقول إنه حرىّ به الموت إن لم يعش ليرفع من مجد وطنه وشأنه، وحرىّ بقومه أن يذكروه حين يموت، فحياته كانت وقفا للعلا وأسبابه. ويذكر أن لكل فرد فى عشيرته حظا فى ماله، وأنه حليم لا يضيق صدره بشئ، مكرم لنفسه لا يعمل شيئا يشينه، ومكرم لصديقه فلا يلومه ولا يعتب عليه فى شئ، ويقول إن الخير كل الخير أن تؤدى واجبا فتساعد مسكينا، وتحقق له بعض رغائبه وأمانيه. ويفاخر عبد الرحمن شوقى بجدوده فى الزمان القديم (6):
(1) شعراء السودان ص 183.
(2)
بيض الوجوه كناية عن حسن أفعالهم. فحول: متفوقون.
(3)
النجار: الأصل. أبلج: مشرق الوجه.
(4)
قوم لقاح: لم يدينوا لملوك. بهلول: سيد كريم.
(5)
شعراء السودان ص 243.
(6)
نفثات اليراع ص 183.
زمان تولّى كان فيه جدودنا
…
ليوثا يقودون الخميس العرمرما (1)
إذا ابتسموا فالخلد فى بسماتهم
…
وإن عبسوا فالكون صار جهنّما
وإن عصروا عود الزمان أطاعهم
…
ولان لهم عاصيه حتى تقوّما
وإن ضربوا دكّوا القلاع بعزمهم
…
وأوموا إلى بنيانها فتهدّما
شموس سماء المجد أيان أشرقوا
…
بدور الدياجى حيث كانوا وأنجما
لقد نصروا الدين الحنيف وسدّدوا
…
إلى الكفر سهما فى الفؤاد مصمّما
وساسوا فما جاروا ولا تبعوا هوى
…
ولا حمّلوا النّفس الضعيفة مغرما
إلى أن دعا داعى الرّدى فتتابعوا
…
نجوما هوت فالكون أصبح مظلما
وهو يصور المجد التاريخى العظيم لأمتنا العربية فى الأزمنة الغابرة، ذاكرا أن زمانا مضى كان جدودنا فيه أسدا ضارية، إذا رضوا وابتسموا فكأنما فتحت أبواب الجنان، وإذا عبسوا ونازلوا قوما فقد أصبح الكون نارا حامية، وإن عصروا عود الزمان انعصر لهم، وإن عصا قوّموه حتى ينعصر، وإن ضربوا دكّت القلاع بعزمهم الجبار، بل لو أشاروا إلى بنيانها لخرّ منقضّا. هم شموس سماء المجد فى كل مكان يحلون فيه وبدور الدياجى فى كل بقعة ينزلونها ونجوم ساطعة، وطالما نصروا الدين الحنيف وسددوا إلى صدور الكفر وأفئدته سهاما مصمية. وساسوا الأمم والشعوب سياسة عادلة لا تميل مع الهوى، مليئة بالرحمة للضعفاء فلا تحمّلهم مغرما، ودار بهم الزمان دورات إلى أن دعاهم داعى الموت فتتابعوا نجوما تهاوت وأصبح الكون مظلما. وينشد الشيخ محمد سعيد العباسى حماسية فى الحرب الطرابلسية الإيطالية سنة 1330 هـ/1912 م، وقد انتصر الطرابلسيون فى بعض المواقع، وفيها يقول (2):
يروم بنو روما طرابلسا وقد
…
غزوها بحيش ضاق ذرعا به القفر (3)
أثاروا وغى دارت رحاها عليهم
…
وراموا بها فخرا ففاتهم الفخر
أعدّوا لها من عدّة الحرب كلّ ما
…
يضيق به التعداد والبرّ والبحر
وقد زعموا أن سوف ينجح سعيهم
…
ولكنه زعم الأضاليل والهذر
أبيدوا فكانوا عبرة الناس بعدهم
…
وحلّق فى آثار موتاهم النّسر
وهو يقول إن أبناء روما قصدوا طرابلس بجيش كثيف ضاق به القفر وسعا، ودارت رحا حرب ضارية أراد بها الطليان فخرا ففاتهم، مع ما أعدوا للحرب من عدة وأسلحة لا يحيط بها العد والإحصاء ولا البر والبحر، وزعموا أن نصرهم قريب وهو زعم أضاليل وهذيان فقد
(1) الخميس العرمرم: الجيش الكثيف الكثير.
(2)
شعراء السودان ص 288 وكتاب محمد سعيد العباسى للدكتور أحمد عبد الله سامى (طبع الخرطوم) ص 239 وانظر ديوانه.
(3)
ذرعا: وسعا.