الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهو يدعو النائمين عن العمل للآخرة أن يفتحوا عيونهم ويعزموا عزما صادقا على العمل لها والجد فيه فالعاقل من بادر إلى ذلك اشتياقا للآخرة، وعمل لدار الخلد المشتملة على جميع اللذات من راحة وخمر ومسرات وريحان عطر، وظل وماء جار وأزهار عبقة أشكال وألوان وقيعان مسك تجرى من تحتها الأنهار وخمر غير مسكرة وعسل مصفى وألبان، ويسترسل فى وصف من بالجنة من الحور العين منشدا:
بيض نواعم أبكار منعّمة
…
تحار فيهن ألباب وأذهان
ير فلن من سندس الفردوس فى حلل
…
من فوقها حلل من تحتها بان (1)
نشأن وسط مقاصير مزخرفة
…
لم يطمثها بها إنس ولا جان (2)
ريق لذيد وأنفاس معطّرة
…
ومنطق ساحر الألفاظ فتّان
مهورهنّ صلاح دائم وتقىّ
…
زهد وصبر وإخلاص وإيمان
وهو يستمد فى وصفه للحور العين من سورة الرحمن فى القرآن الكريم، فيقول إنهن بيض ناعمات أبكار مترفات تحار فى جمالهنّ العقول والألباب يتبخترن فى حلل الفردوس السندسية، وقد نشأن فى غرف مزخرفة، لم يلامسهن إنس ولا جان، ريقهن لذيذ ونفحهن شذى وعطر، ويتحدثن حديثا ساحرا فتانا، ومهورهن صلاح وتقى وزهد وتقشف وإخلاص لله ودينه الحنيف وإيمان صادق.
الشيخ سيديّا
(3)
هو الشيخ سيديّا (بتشديد الياء ومدّها) بن المختار بن الهيب التندغى الأبييرىّ، يقول الشنقيطى: «هو العلم الذى رفع على أهل قطره، واستظلّ به أهل دهره. . اشتغل فى شبابه بالعلوم وبرع فيها بملازمته لأستاذه حرم بن عبد الجليل العلوى. ولما تضلع من علمه شدّ الرحال إلى الشيخ المختار الكنتى بآزواد. . ولازمه ستة أشهر، ثم مات الشيخ المختار فبقى عند ابنه محمد خليفته فى الطريق الصوفى، ولازمه عشرين سنة حتى برع فى معرفة الطريق، ورجع إلى قبيلته أولاد أبيير فتلقوه بما هو أهله واعترفوا بفضله. ولم تزل فضائله تنمو حتى أذعنت له قبائل الزوايا وحسان وصار مثل الملك بينهم فلا يرد أمره، وكان أهلا لذلك كرما وحلما وعلما، ولم تزل الدنيا تنثال عليه. وجعلت العرب منزله فى أرض شنقيط حرما آمنا،
(1) يرفلن: يتبخترن. بان: شجر يشبه به الحسان فى جمال القوام.
(2)
يطمثها: يمسسها.
(3)
انظر فى الشيخ سيديا الشنقيطى ص 240 والشعر والشعراء فى موريتانيا ص 391 وما بعدها وفى مواضع متفرقة.
ولم يكن يمضى عليه يوم إلا وعنده آلاف من الناس يطعمهم ويكسوهم ويقضى جميع حوائجهم ومآربهم. . وكان تلاميذه ومريدوه يحاولون أن يقلّل من هذا الكرم الفياض فلا يستمع إليهم إلى أن توفى سنة 1284 هـ/1868 م. وكان شاعرا بارعا، وله من قصيدة:
رفعت إلى مولاى جلّ شكيّتى
…
وأمّلت نشلى عنده من بليّتى
بليت وهل يبلى مريد بمثل ما
…
بليت به من خبث نفس غويّة
حجاب عماها عن شهود صفاتها
…
به حجبت عن مشهد الأحديّة
لذلك أفنت جدّها واجتهادها
…
ومرغبها فى الفانيات الدّنيّة
صحت من سحاب الواردات سماؤها
…
بعصف رياح الهاجسات الرّديّة
مددت إليك الكفّ يا خير واهب
…
فلا تحرم الخير المفاض يديّتى (1)
وهو يقول إنه رفع شكواه إلى ربه ضارعا إليه أن ينقذه من بليته، وهل يبلى مريد محب ربه بمثل ما بلى به من نفس خبيثة ممعنة فى الغواية إمعانا حجبها عن مشهد الصوفى لأحديته واتحاده بربه، ويقول إنها جعلت كل همها واجتهادها فى المتاع الفانى، مما جعل الواردات الربانية تنحسر عن سمائها بهبوب رياح الخواطر الرديئة. ويضرع إلى ربه مادّا كفّيه أن لا يحرم يده من خيره الذى يفيضه على عباده، ويريد الخير الصوفى من النسك له والاتحاد به والفناء فيه. وله دعاء طويل يستهلّه بقوله:
يا واسع الرّحمات يا فتّاح
…
يا من دعاه لبابه مفتاح
يا برّ يا رزّاق رزقك شامل
…
تغذى به الأرواح والأشباح
يا فارج الهمّ المربّ وكاشفا
…
كرب العبيد إذا دعوك وباحوا (2)
فرّج كروب المسلمين جميعهم
…
وأغث بما لهم به إصلاح
أنت المغيث وأنت ذو الرّحمى التى
…
بنزولها شدد الورى تنزاح (3)
تلك الأراضى وهدها ونجادها
…
جرز بها تتخافق الأرواح (4)
وهو يدعو ربه قائلا: اشملنى برحمتك الواسعة وافتح لى باب الرزق المغلق، يا من يستجيب للداعين، يا محسن، يا رزاق رزقا شاملا للناس وغير الناس، يا فارج الهم المقيم وكاشفا غم العبيد فرّج كروب المسلمين وأغثهم بما يصلحهم، فأنت المغيث الرحيم الذى برحمته تزول كل الشدائد. ويصور الشدائد فى شنقيط ومراعى تيرس وريفها، فالأراضى منخفضاتها ومرتفعاتها أجدبت، ولم يعد بها إلا رياح تهب يمينا وشمالا ويقول إن البهائم لا تجد ما ترعاه
(1) يديّتى: تصغير يد.
(2)
المرب: المقيم.
(3)
شدد جمع شدة.
(4)
جرز: مجدبة. تتخافق: تضطرب. الأرواح: الرياح.