الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكبرى إن أهلها من كبار الأغنياء لأنها مركز تجارى يتبادل فيه تجار البربر من قسنطينة وتونس منتجات بلادهم بالسلع التى جلبها تجار بلاد السودان.
وزاد فى ثراء سكان المدن الشمالية الساحلية-على مر العصور-تحول بعضها إلى ما يشبه قاعدة للقرصنة فى البحر المتوسط، ونقرأ أخبار هذه القرصنة منذ أيام الدولة الحمادية، فقد كان من قراصنة الجزائر من يتخذ بونة (عنابة) فى عهدهم مركزا ينطلق منه للقرصنة، ومثلها بجاية عاصمة الحماديين وظل ذلك دأب أهلها طويلا، ويقول الحسن الوزان:«كان أهل بجاية على قدر كبير من الغنى، فكانوا يسلحون مراكب وسفنا حربية ويرسلونها لغزو إسبانيا ولجلب غنائم البحر من السلع والرقيق رجالا ونساء» وكثير منهم كانوا يسلمون ويصبح لهم ما للمسلمين من الحقوق، واتسعت هذه القرصنة فى الموانى الشمالية حين استقر بها الغرناطيون والأندلسيون فى هجرتهم الكبرى أواخر القرن التاسع الهجرى وكان يحفزهم عليها محاولتهم الانتقام من نصارى إسبانيا الذين أخرجوهم من ديارهم ومواطنهم فى الأندلس، ولم يلبث أن ظهر خير الدين (بربروس) وعروج القائدان التركيان البحريان العظيمان واستوليا على الجزائر، وأخذ خير الدين يطرد الإسبان من الموانى التى كانوا قد استولوا عليها واستطاع خلال عشرين عاما أن يطهر الساحل الجزائرى منهم واستدار بالبحارة الترك ومن انضم إليهم من المهاجرين الأندلسيين يتوغل فى البحر المتوسط، وظل ذلك طوال هذا العصر حتى العقد الثانى من القرن التاسع عشر، وظلت بجاية والجزائر ووهران تستقبل جميعا غنائم البحر من السلع والرقيق وبالمثل غنائم ميورقة ومنورقة والساحل الإسبانى. ولكى يتضح لنا مدى هذه الغنائم ينبغى أن نعرف أنه كان يجلب أحيانا فى الغزوة البحرية الواحدة مئات من رقيق النصارى رجالا ونساء سوى ما كان يجلب من الغنائم، وكان ذلك مصدر ثروة واسعة لقراصنة الساحل الجزائرى من جهة وللدولة نفسها من جهة ثانية، مع ما كانت تموج به الجزائر من طيبات الرزق فى الزراعة والصناعات اليدوية والتجارة الواسعة.
(ب) الرّفة
معروف أن الغنى الواسع يجر إلى الرّفة ورغد العيش، ولم يكن هذا الغنى أو الثراء خاصا بفرد أو أفراد قليلين فى المدن الجزائرية، بل كثيرا ما كان يشمل كل أفراد المدينة فالجميع فى يسار وبلهنية وسعة من العيش تتيح لسكان المدينة رفاهية واسعة، ومن خير المدن التى تصور ذلك مدينة نقاوس، وفيها يقول الحسن الوزان: «مدينة رومانية على مسافة نحو ثلاثين ميلا من مدينة المسيلة، وسكانها أغنياء شرفاء كرماء ويلبسون ثيابا لائقة مثل سكان بجاية، وبالبلدة بيت معد لسكنى الغرباء وفيها مدرسة للطلاب الذين جرت العادة أن يعفوا من نفقات الكساء والغذاء، كما أن فيها جامعا جميلا فسيحا جدا ومجهزا بكل ما تمسّ الحاجة إليه،
والنساء هنا جميلات، لون بشرتهنّ أبيض، وشعورهن فاحمة ولامعة، لأنهن يكثرن من التردد على الحمامات ويعتنين بأنفسهن كثيرا، وبيوتها جميعا من طابق أرضى واحد، ومع ذلك أنيقة جدا وبهيجة المنظر، لأن لكل بيت منها حديقة مليئة بالزهور المتنوعة لا سيما من الورود والرّيحان والبنفسج والقرنفل وأزهار أخرى لا تقل عنها بهاء، ولجميع البيوت عيون ماء تسقى منها. وعلى الجانب الآخر من الحديقة تكعيبة بديعة تعطى فى الصيف ظلاّ ظليلا ومنعشا. ولذلك فإن من ينزل فى نقاوس يود لو يبقى فيا حينا طويلا من الدهر ويأسف لاضطراره إلى مغادرتها لما لقيه من أهلها المضيافين من حفاوة وترحاب». ونقاوس لم تكن ميناء تتوسط حقوق عناب مثل بونة مثلا ولا كانت تتلقى غنائم البحر مثل بونة وموانى الساحل الشمالى، إنما هى مدينة عادية فى البقاع الداخلية تعيش على ما تنتجه سهولها من قمح ومزارعها من تين وجوز، مثلها فى ذلك مثل بلدان عادية كثيرة فى الجزائر، ومع ذلك فيها دار ضيافة لإكرام الغرباء ومدرسة مجانية تكفل لطلابها الكساء والغذاء وجامع فسيح جميل مجهز بكل متطلباته ونساء جميلات، والبيوت جميعا من طابق أرضى واحد، فليس بينها قصر أو قصور، بل الجميع سواء فى المسكن والمعيشة، ولكل بيت حديقته المكتظة بالأزهار العطرة وتكعيبته التى تتيح لساكنيه فى الصيف ظلا ظليلا منعشا. ولكأن الحسن الوزان يصف فردوسا من فراديس الجنان امتلأ برفاهية لا حدّ لها ولا نهاية، وإنه لآسف أشد الأسف لمبارحته لها. وتلك كانت مدن الجزائر وقراها قبل أن يحتلها الفرنسيون، وبون بعيد بين نقاوس الأمس ونقاوس أيام الفرنسيين وما نزل عليها من بلاء حين وطئتها هى وأمثالها أقدام المحتلين الباغين. وبدون ريب كانت مدن-أو على الأقل بعض المدن وخاصة الساحلية بل أيضا الداخلية يغمرها مثل هذا الرفه الرائع. ويتوقف الحسن الوزان مرارا أمام بعض المدن التى بهرته مبانيها ليقول إنها بديعة، ومن قوله عن بجاية:«سائر بيوتها جميلة» ويذكر جوامعها ومدارسها وحماماتها وفنادقها ومارستاناتها ويقول: «كلها عمارات حسنة البنيان» ويقول عن وهران: إنها مجهزة بكل العمارات والمؤسسات التى تميز مدينة حضرية كالجوامع والمدارس والمارستانات والحمامات والفنادق. ويفيض فى الحديث عن رفه أهل تلمسان، ومما يذكره بها خمس مدارس بديعة حسنة البنيان جدا ومزدانة بالبلاط الملون وسواه من الأعمال الفنية». ومرّ بنا ما ذكره من أن سكانها يقضون الصيف فى كور بديعة لهم فيها منازل غاية فى الأناقة ومن حولها بساتين فاخرة تنتج كرزا وأعنابا من كل الألوان ودرّاقا وجوزا ولوزا وثمارا مختلفة، وينوه بملابس أهلها من صناع وغير صناع ومن أساتذة مدرسين وقضاة، ويتسع فى الحديث عن البلاط الملكى بها وموظفى الدولة ورئيس التشريعات، وكأننا بإزاء عاصمة دولة حديثة متحضرة غاية التحضر ناعمة بغير قليل من الرفاهية.
ويدل أبلغ الدلالة على ما نعمت به تلمسان من رفه أيام دولة بنى زيان ما نفذ إليه عالم