المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(ج) نمو الحركة العلمية - تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف - جـ ١٠

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدّمة

- ‌1 - [الجزائر]

- ‌2 - [المغرب الأقصى]

- ‌3 - [موريتانيا]

- ‌4 - [السودان]

- ‌القسم الأولالجزائر

- ‌الفصل الأوّلالجغرافية والتاريخ

- ‌1 -الجغرافية

- ‌3 -الفتح والولاة-الأغالبة-الإباضية-تلمسان

- ‌(ب) الأغالبة

- ‌(ج) الإباضيون

- ‌(د) تلمسان

- ‌4 -الدولة العبيدية-الدولة الصنهاجية-بنو حماد

- ‌(أ) الدولة العبيدية

- ‌(ج) بنو حماد

- ‌5 -دولة الموحدين-الدولة الحفصية-بنو عبد الواد

- ‌الفصل الثّانىالمجتمع الجزائرى

- ‌2 -المعيشة

- ‌(أ) الثراء

- ‌(ب) الرّفة

- ‌(ج) الموسيقى

- ‌4 -الدين-المالكية والحنفية-الإباضية-المعتزلة

- ‌(أ) الدين

- ‌(د) المعتزلة

- ‌الفصل الثالثالثقافة

- ‌1 -الحركة العلمية

- ‌(أ) فاتحون ناشرون للإسلام ومعلمون

- ‌(ب) دور العلم:‌‌ الكتاتيب-‌‌المساجد-المدارس-الزوايا-المكتبات

- ‌ الكتاتيب

- ‌المساجد

- ‌المدارس

- ‌الزوايا

- ‌المكتبات

- ‌(ج) نمو الحركة العلمية

- ‌5 -التاريخ

- ‌الفصل الرّابعنشاط الشعر والشعراء

- ‌2 -كثرة الشعراء

- ‌3 -شعراء المديح

- ‌ عبد الكريم النهشلى

- ‌ ابن خميس

- ‌ الشهاب بن الخلوف

- ‌ محمد القوجيلى

- ‌4 -شعراء الفخر والهجاء

- ‌(أ) شعراء الفخر

- ‌(ب) شعراء الهجاء

- ‌ بكر بن حماد التاهرتى

- ‌ سعيد المنداسى

- ‌5 -الشعراء والشعر التعليمى

- ‌ عبد الرحمن الأخضرى

- ‌الفصل الخامسطوائف من الشعراء

- ‌1 -شعراء الغزل

- ‌ ابن على

- ‌2 -شعراء وصف الطبيعة

- ‌ عبد الله بن محمد الجراوى

- ‌3 -شعراء الرثاء

- ‌4 -شعراء الزهد والتصوف

- ‌(أ) شعراء الزهد

- ‌(ب) شعراء التصوف

- ‌ إبراهيم التازى

- ‌5 -شعراء المدائح النبوية

- ‌الفصل السّادسالنثر وكتّابه

- ‌1 -الخطب والوصايا

- ‌2 -الرسائل الديوانية

- ‌3 -الرسائل الشخصية

- ‌4 -المقامات

- ‌5 -كبار الكتاب

- ‌[(ب)] الوهرانى

- ‌القسم الثانىالمغرب الأقصى

- ‌الفصل الأوّلالجغرافية والتاريخ

- ‌1 -الجغرافية

- ‌3 -الفتح والولاة-ثورة الصفرية-بنو مدرار-الأدارسة-بعد الأدارسة والمدراريين

- ‌(ب) ثورة الصفرية

- ‌(د) الأدارسة

- ‌4 -المرابطون-الموحدون-بنومرين

- ‌(أ) المرابطون

- ‌(ب) الموحدون

- ‌5 -السعديون-الطرق الصوفية-العلويون

- ‌(أ) السعديون

- ‌(ج) العلويون

- ‌الفصل الثّانىالمجتمع المغربى

- ‌1 -عناصر السكان

- ‌2 -المعيشة

- ‌3 -الثراء-الرّفة-الموسيقى-المرأة

- ‌(أ) الثراء

- ‌(ب) الرّفة

- ‌(ج) الموسيقى

- ‌(د) المرأة

- ‌4 -المالكية-الصفرية-المعتزلة-الظاهرية

- ‌(أ) المالكية

- ‌(ب) الصفرية

- ‌(ج) المعتزلة

- ‌(د) الظاهرية

- ‌5 -الزهاد-المتصوفة

- ‌(أ) الزهاد

- ‌(ب) المتصوفة

- ‌الفصل الثالثالثقافة

- ‌1 -الحركة العلمية

- ‌(أ) فاتحون ناشرون للإسلام ومعلمون

- ‌ الكتاتيب

- ‌(ب) دور العلم: الكتاتيب-المساجد-المدارس-الزوايا-المكتبات

- ‌المساجد

- ‌المدارس

- ‌الزوايا

- ‌المكتبات

- ‌(ج) نمو الحركة العلمية

- ‌2 -علوم الأوائل

- ‌3 -علوم اللغة والنحو والعروض والبلاغة

- ‌5 -التاريخ

- ‌الفصل الرّابعنشاط الشعر والشعراء

- ‌1 -تعرب المغرب الأقصى-كثرة الشعراء

- ‌(أ) تعرب المغرب الأقصى

- ‌(ب) كثرة الشعراء

- ‌2 -شعراء الموشحات والأزجال

- ‌(أ) شعراء الموشحات

- ‌ ابن غرلة

- ‌ ابن الصباغ

- ‌ ابن زاكور

- ‌(ب) شعراء الأزجال

- ‌ابن عمير

- ‌3 -شعراء المديح

- ‌ ابن زنباع

- ‌ ابن حبوس

- ‌الجراوى

- ‌ ابن عبد المنان

- ‌الهوزالى

- ‌الدغوغى

- ‌البوعنانى

- ‌4 -شعراء الفخر والهجاء

- ‌(أ) الفخر

- ‌ الشاذلى

- ‌(ب) الهجاء

- ‌5 -الشعراء والشعر التعليمى

- ‌ عبد العزيز الملزوزى

- ‌ابن الونان

- ‌الفصل الخامسطوائف من الشعراء

- ‌1 -شعراء الغزل

- ‌ أبو الربيع الموحدى

- ‌ عمر السلمى

- ‌2 -شعراء الوصف

- ‌3 -شعراء الرثاء

- ‌ ابن شعيب الجزنائى

- ‌4 -شعراء الزهد والتصوف

- ‌(أ) شعراء الزهد

- ‌(ب) شعراء التصوف

- ‌ ابن المحلى

- ‌5 -شعراء المدائح النبوية

- ‌ميمون بن خبازة

- ‌ مالك بن المرحل

- ‌الفصل السادسالنثر وكتّابه

- ‌1 -الخطب والمواعظ

- ‌2 -الرسائل الديوانية

- ‌3 -الرسائل الشخصية

- ‌4 -المقامات والرحلات

- ‌(أ) المقامات

- ‌(ب) الرحلات

- ‌ رحلة ابن رشيد

- ‌ رحلة العياشى

- ‌ رحلة ابن ناصر

- ‌5 -كبار الكتّاب

- ‌(أ) القاضى عياض

- ‌القسم الثالثموريتانيا

- ‌الفصل الأوّلالجغرافية والتاريخ

- ‌1 -الجغرافية

- ‌2 -التاريخ

- ‌الفصل الثّانىالمجتمع والثقافة

- ‌1 -المجتمع

- ‌(أ) صنهاجة وقبائل المعقل العربية

- ‌(ب) الزروع والمراعى

- ‌(ج) التجارة

- ‌(د) حياة يدوية

- ‌2 -الثقافة

- ‌(أ) نشاط دينى تعليمى كبير

- ‌(ب) التعليم والطلاب والشيوخ

- ‌(ج) أمهات الكتب والمتون والشروح المتداولة

- ‌(د) أعلام العلماء فى موريتانيا

- ‌(هـ) القراء والمفسرون والمحدثون والفقهاء

- ‌(و) أعلام النحاة والمتكلمين

- ‌الفصل الثالثنشاط الشعر والشعراء

- ‌1 -تعرّب موريتانيا

- ‌2 -شعراء المديح

- ‌ ابن رازكة

- ‌3 -شعراء الفخر والهجاء

- ‌(أ) شعراء الفخر

- ‌ المختار بن بون

- ‌(ب) شعراء الهجاء

- ‌4 -شعراء الرثاء

- ‌الفصل الرّابعطوائف من الشعراء

- ‌1 -شعراء الغزل

- ‌ الأحول الحسنى

- ‌ يقوى الفاضلى

- ‌2 -شعراء التصوف

- ‌ المختار الكنتى

- ‌الشيخ سيديّا

- ‌3 -شعراء المدائح النبوية

- ‌ محمد بن محمد العلوى

- ‌4 -الشعراء والشعر التعليمى

- ‌القسم الرابعالسودان

- ‌الفصل الأوّلالجغرافية والتاريخ

- ‌1 -الجغرافية

- ‌2 -التاريخ

- ‌3 -(ج) دولة الفونج

- ‌4 -محمد على والسودان-عهد إسماعيل

- ‌5 -حركة المهدى-خليفته عبد الله التعايشى

- ‌الفصل الثّانىالمجتمع السودانى-الثقافة

- ‌(أ) نزعة صوفية عامة

- ‌(ب) المرأة ومكانتها فى التصوف

- ‌(ج) التصوف والتربية الخلقية والدينية

- ‌(د) طرق صوفية جديدة

- ‌(هـ) دعوة المهدى ومبادئها الستة

- ‌2 -الثقافة

- ‌(أ) كتاتيب-زوايا-مساجد

- ‌(ب) حركة علمية نشيطة فى عهد الفونج

- ‌(ج) سودانيون أزهريون وعلماء مصريون

- ‌(د) التعليم المدنى الحديث وتوقفه

- ‌(هـ) إنشاء معهد دينى وعودة التعليم المدنى الحديث

- ‌الفصل الثالثنشاط الشعر والشعراء

- ‌2 -شعراء المديح

- ‌ الشيخ حسين زهراء

- ‌ الشيخ محمد عمر البناء

- ‌3 -شعراء الفخر والحماسة

- ‌ الشيخ يحيى السلاوى السودانى

- ‌ عثمان هاشم

- ‌4 -شعراء الرثاء

- ‌(أ) رثاء الأفراد

- ‌ الشيخ محمد سعيد العباسى

- ‌(ب) رثاء المدن

- ‌الفصل الرّابعطوائف من الشعراء

- ‌1 -شعراء الغزل العفيف

- ‌2 -شعراء النقد العنيف والشكوى من الزمن

- ‌الشيخ عبد الله البناء

- ‌ صالح عبد القادر

- ‌3 -شعراء التصوف

- ‌4 -شعراء المدائح النبوية

- ‌ الشيخ عمر الأزهرى

- ‌ الشيخ عبد الله عبد الرحمن

الفصل: ‌(ج) نمو الحركة العلمية

الإباضيين فى البصرة بألف دينار ليشتروا له كتبا بها، فاشتروا له كثيرا من الكتب وأرسلوها إليه على أربعين بعيرا كما يقول البارونى فى الأزهار الرياضية. وما زال خلفاؤه يجمعون لتلك المكتبة الكتب مسمين لها باسم المعصومة حتى بلغت ثلاثمائة ألف كتاب فى الدراسات الدينية واللغوية والرياضية وغير الرياضية من علوم الأوائل، وهالت أبا عبيد الله داعية العبيديين حين استولى على تاهرت سنة 296 للهجرة، فأمر بإحراقها ما عدا الكتب الخاصة بعلوم الأوائل من طب وغير طب.

وظل الاهتمام بجمع الكتب لمكتبات المساجد مطردا فى عهد الدولة الحمادية، ولها وللمدارس والزوايا فى عهد الدولة الزيانية. وينوه المؤرخون بما كان فى زاوية إبراهيم التازى بالقرن التاسع الهجرى من خزائن متعددة مكتظة بالكتب العلمية. وظلت-طوال القرون المختلفة فى العصر-الكتب تهاجر مع طلبة العلم الوافدين على المشرق إلى الجزائر، وظلت تودع فى المكتبات المختلفة للزوايا والمدارس والمساجد. ومن يقرأ تراجم العلماء فى كتاب مثل عنوان الدراية يشعر أنه لم يؤلف فى المشرق ولا فى تونس والأندلس كتاب مهم إلا نقل إلى الجزائر: فى القراءات والتفسير أو الحديث النبوى أو الفقه المالكى أو النحو أو الأصول أو المنطق أو علوم الأوائل وخاصة كتب الشفاء والنجاة والإشارات والتنبيهات لابن سينا، وبالمثل كتب ابن رشد الأندلسى. فالتيار العلمى فى الأقطار العربية كان جارفا، وكانت كتبه شرقا وغربا تصبّ فى مكتبات كل بلد عربى جزائر وغير جزائر، فيما بها من مساجد وزوايا ومدارس. وكثير من الأسر التى كانت تتوارث العلم اشتهرت باقتنائها مكتبات كبيرة مثل أسرة الفكون فى قسنطينة، وكان بالجزائر هواة للكتب ينفقون فى جمعها أموالا طائلة، وكانوا منبثّين لا فى المدن فحسب بل أيضا فى الواحات والصحارى، ويذكر العياشى فى القرن الحادى عشر الهجرى برحلته أن مكتبة شيخ يسمى محمد بن إسماعيل تيكوران كانت تضم نحو ألف وخمسمائة كتاب، فما بالنا بما ضمته مكتبات المساجد والمدارس والزوايا.

(ج) نمو الحركة العلمية

أخذت الحركة العلمية تنمو فى الجزائر منذ القرن الثانى الهجرى، وخاصة منذ عهد الدولة الأغلبية إذ كانت ترعاها فى شرقىّ الجزائر فى بونة (عنابة) وقسنطينية وطبنة وغيرها من البلدان. وتأسست منذ سنة 160 للهجرة فى غربى الجزائر بمدينة تاهرت الدولة الرستمية الإباضية، وظلت طوال قيامها حتى سنة 296 للهجرة ترعى العلم والعلماء، ويعدّ الأستاذ محمد على دبوز فى الجزء الثالث من كتابه: تاريخ المغرب الكبير عشرات منهم قائلا إن الدولة الرستمية كانت دولة العلم والمعرفة وإن العلماء كثروا فيها، وزخرت بهم مدنها وقراها، حتى

ص: 81

ليعدون بالمئات. وخلفت الدولة الرستمية دولة بنى حماد واتسع سلطانها، فشمل الجزائر أو أكثرها، وقد بنى حماد مؤسسها قلعة سنة 398 على منحدر جبلى بالقرب من المسيلة (المحمدية) وسرعان ما أصبحت مدينة عربية ضخمة، يقول ابن خلدون فى الجزء السادس من تاريخه إن «حمادا استكثر فى القلعة من المساجد والفنادق فاستبحرت فى العمارة واتسعت فى التمدن ورحل إليها من الثغور القاصية والبلدان البعيدة طلاب العلوم وأرباب الصنائع لرواج أسواق المعارف والحرف والصنائع بها» وظلت-من حينئذ-مركزا كبيرا للدراسات الدينية واللغوية، حتى بعد انتقال الناصر الحمادى منها سنة 473 هـ/1080 م إلى عاصمته الجديدة: بجاية وكان كثير من أبنائه وأحفاده يكرمون العلماء ويعقدون لهم مناظرات فى مجالسهم وبعثوا فى القلعة ثم فى بجاية نهضة علمية وأدبية، وأمّ حاضرتيهما بعض العلماء والشعراء المرموقين من أمثال ابن حمديس مادح المنصور بن الناصر بن علناس (481 - 498) بالقصائد الطنانة فى مدحه ووصف قصوره، واشتهر ابنه العزيز (498 - 518 هـ) بأن بلاده كانت سلاما وأمنا وأن العلماء-كما يقول ابن خلدون-كانوا يتناظرون فى مجالسه وقد بذل جهودا خصبة فى إنماء الحركة العلمية ببجاية، حتى أصبحت مركزا علميا ضخما لا بعلمائها المحليين فحسب، بل أيضا بوفود العلماء المنتقلين إليها من القلعة ووفودهم اللاجئة إليها من الأندلس والبلاد المغربية، واطردت هذه المكانة العلمية لبجاية بعد سقوط دولة بنى حماد سنة 547 هـ/1152 م إذ اشتهرت بها طائفة أو طوائف من العلماء والأدباء وظل يفد عليها غير عالم وأديب وخاصة من الأندلس، ويوضح ذلك كتاب عنوان الدراية فى علماء بجاية للغبرينى إذ ترجم فيه لأكثر من مائة عالم من علماء بجاية فى القرنين السادس والسابع للهجرة، وهؤلاء هم المشهورون ووراءهم كثيرون لم يبلغوا مبلغهم فى الشهرة. ويدل على كثرة غير المشهورين ما رواه الغبرينى عن أبى على المسيلى المتوفى سنة 580 هـ/1184 م من أنه قال:«أدركت ببجاية ما ينيف على تسعين مفتيا» ويعلق الغبرينى على كلمته بقوله: وإذا كان من المفتين ببجاية تسعون فكم يكون من المحدثين ومن النحاة والأدباء وغيرهم ممن تقدم عصرهم ممن لم يدركهم. وظلت النهضة العلمية بها مزدهرة فى القرون التالية وزارها الحسن الوزان حوالى سنة 925 هـ/1519 م وقال إنها «مجهزة بالجوامع بشكل طيب وبالمدارس التى يكثر فيها الطلاب وأساتذة الشريعة والعلوم سوى الزوايا للنساك المتعبدين» .

ومنذ سنة 633 هـ/1240 م تنشأ فى تلمسان دولة بنى زيان، وقد بثّت فيها نهضة علمية وأدبية رائعة، ويقول التنسى فى كتابه تاريخ بنى زيان ملوك تلمسان عن مؤسس الدولة: يغمراسن (633 - 681 هـ) إنه كان له فى أهل العلم رغبة عالية يبحث عنهم أينما كانوا ويستقدمهم إلى بلده ويقابلهم بما هم أهله، وممن استقدمهم إبراهيم بن يخلف

ص: 82

التنسى وأقطعه إقطاعات واسعة، ولما اشتهرت عنايته بأهل العلم والأدب وفد عليه من الأندلس أبو بكر بن خطاب الكاتب، فأكرمه، وجعله رئيس ديوانه. ويقول التنسى عن حفيده أبى حمو موسى الأول (701 - 718 هـ) إنه كان محبا للعلم وأهله معتنيا به قائما بحقه، ولما وفد عليه الفقيهان أبو زيد وأبو عيسى ابنا الإمام محمد بن عبد الله من أهل برشك بالقرب من تنس على الساحل الشمالى للجزائر احتفل بهما، وبنى لهما المدرسة التى سميت مدرسة أولاد الإمام فنشرا بتلمسان كثيرا من العلوم، وكان ابنه أبو تاشفين حفيّا مثله بالعلم وأهله ولما وفد عليه الفقيه أبو موسى عمران المشدالى الزواوى احتفى به وولاه التدريس بمدرسته التاشفينية الجديدة. وكان على شاكلته أبو حمو موسى الثانى (760 - 791 هـ) فى رعاية العلم والعلماء، وكان أديبا وشاعرا بارعا وله كتاب نظم السلوك فى سياسة الملوك ضمنه بعض أشعاره، وهو أول من احتفل من ملوك الدولة بليلة المولد النبوى، وبلغ من احتفائه بالفقيه أبى عبد الله محمد بن أحمد الإدريسى أن بنى له مدرسة ليلقى فيها دروسه. ويشيد التنسى بأبى زيان محمد بن أبى حمو (796 - 801 هـ) قائلا إنه «كلف بالعلم حتى صار منهج لسانه وروضة أجفانه، فلم تخل حضرته من مناظرة ولا عمرت إلا بمذاكرة ومحاضرة، وكتب بيده نسخا من القرآن الكريم ونسخة من صحيح البخارى ونسخا من كتاب الشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضى عياض، ووقفها جميعا بخزانته فى مقدم الجامع الأعظم أو الكبير بتلمسان، وألف كتابا نحا فيه نحو التصوف، سماه «كتاب الإشارة فى حكم العقل بين النفس المطمئنة والنفس الأمارة» ووجه هدية إلى برقوق سلطان مصر ومعها قصيدة بديعة. وينوه التنسى بأبى مالك عبد الواحد (814 - 833 هـ) قائلا: «فى أيامه نفق (راج) سوق الأدب، وجاء بنوه إلى بابه ينسلون (يسرعون) من كل حدب (موضع) فينقلبون بجر (مملوئى) الحقائب ظافرين بجزيل الرغائب (بوافر العطايا). ونرى يحيى بن خلدون فى كتابه «بغية الرواد فى ذكر الملوك من بنى عبد الواد يعدّد من أنجبته تلمسان أو استقر بها من العلماء الصالحين ويبلغ بهم مائة وتسعة وجمهورهم من العلماء الذين دوّى صيتهم، وإذا كان عددهم قد بلغ ذلك فى عهد يحيى بن خلدون المتوفى فى أواسط عصر الدولة الزيانية حول سنة 780 هـ/1378 م فإن عددهم-لا شك-تضاعف بعده، وبلغ بعددهم بعده ابن مريم فى أوائل القرن الحادى عشر الهجرى فى كتابه: «البستان فى ذكر الأولياء والعلماء بتلمسان» مائة واثنين وخمسين عالما. وأخذت تلمسان-كما أخذت بجاية- تتراجع علميا وثقافيا فى العهد العثمانى، إذ أصبحت مدينة الجزائر العاصمة، وأخذت تجذب إليها العلماء والأدباء وإن ظلوا مبثوثين فى عاصمتى بنى حماد وبنى زيان وبونة وبسكره وغيرها، وخاصة قسنطينية إذ ظل بها فى العهد العثمانى نشاط علمى غزير.

ص: 83

ولم أتحدث-حتى الآن-عن هجرات الأندلسيين إلى الجزائر منذ هزيمة دولة الموحدين فى واقعة العقاب بالأندلس سنة 609 هـ/1212 م فقد بدا لكثيرين منهم أن المستقبل ينذر برجحان كفة الإسبان وقرب استيلائهم على البلدان الأندلسية، وأخذ نفر منهم غير قليل يهاجر إلى البلاد المغربية باحثا له عن وطن جديد يلتجئ إليه، وأخذت مدنهم تتساقط فى حجر الإسبان منذ العقد الرابع من القرن السابع الهجرى، وسقطت جوهرتهم الكبرى قرطبة، وتبعتها فى السقوط دانية وشاطبة وإشبيلية عروس الأندلس وبلنسية ثم مرسية. وكانت كل مدينة أندلسية تسقط ينزح منها إلى مدن الجزائر وغيرها من المدن المغربية أندلسيون كثيرون، وكان الأثرياء منهم والعلماء ينزلون مدن الساحل الشمالى فى الجزائر وينزل معهم بعض أصحاب الحرف والصناعات. أما أهل القرى الأندلسية فكانوا ينزلون فى السهول والوديان-وربما نزلوا فى سفوح الجبال كما كانوا ينزلون فى الأندلس-وكانوا يعنون بالزراعة وغرس الأشجار وإنشاء الحدائق والبساتين. وأخذت تكتظ بهم المدن الشمالية مثل وهران ومستغانم وبونة (عنابة) وبجاية، ومن يرجع إلى كتاب عنوان الدراية فى علماء بجاية بالقرن السابع الهجرى سيجد من بينهم أكثر من عشرين عالما وأديبا نزحوا من الأندلس إلى بجاية حينذاك وملئوها علما وأدبا، وكانوا من العوامل الفعالة فى نهضتها العلمية والأدبية. وتهبط إلى الجزائر من الأندلس موجة ثانية كبيرة بعد سقوط غرناطة سنة 897 هـ/1492 م ويستوطنون المدن الساحلية المذكورة آنفا وأخواتها على الساحل الشمالى مثل شرشال ويقول الحسن الوزان «إن كثيرا من الغرناطيين قصدوها وأعادوا بناء قسم كبير من منازلها وكذلك قلعتها وزرعوا أراضيها، وزاولوا فيها أعمال صناعة الحرير لأنهم وجدوا بها كمية لا تحصى من أشجار التوت الأبيض والأسود وتحسنت أحوالهم يوما بعد يوم حتى أصبحوا يسكنون ألفا ومائتين من البيوت وتوطّنوها مثل إخوانهم فى المدن الجزائرية الأخرى، وبنوا كثيرا من سفن الملاحة لمطاردة السفن الإسبانية فى البحر المتوسط والاستيلاء على ما فيها من غنائم انتقاما من فرديناند واستيلائه على غرناطة. ويدور الزمن دورة حتى سنتى 1016 - 1017 هـ/1608 - 1609 م فينفى ملك إسبانيا كل من بقى فى إسبانيا من المسلمين، وتتجه أفواج كبيرة منهم إلى المدن الجزائرية، ويتخذوها وطنا ثانيا لهم، وقد نقلوا معهم كل حضارتهم ومدنيتهم مما كان له تأثير واسع فى الجزائر أثناء العهد العثمانى. وقد بعثوا فيها حركة تعليمية واسعة منذ جاءت أعدادهم الكبيرة بعد سقوط غرناطة، وكانوا يؤسسون جمعيات خيرية للإنفاق على فقرائهم ولإنشاء المدارس كمدرسة مازونة ومدرسة الأندلسيين فى مدينة الجزائر، ولا بد أن كانت لهم مدارس فى المدن الأخرى، وكانوا يحبسون عليها أموالا أو عقارات للإنفاق منها على الأساتذة والطلاب. وتنبه العثمانيون لقدرة الأندلسيين التعليمية، فكانوا يعينون منهم كبار المعلمين فى المدارس ويفرضون لهم رواتب مجزية.

ص: 84

2 -

علوم (1) الأوائل

اهتمت الجزائر-كما اهتمت البلدان العربية المختلفة-بمدارسة علوم الأوائل من فلسفة وطب وغير طب، وانصبت عناية علمائها خاصة على ما سموه علوم التعاليم، يقصدون بها علوم الرياضيات وما يتصل بها من حساب وجبر وهندسة وفلك. ولم يحدث بين الفقهاء وهذه العلوم وما يتصل بها من الفلسفة والطب أى تخاصم أو تقاطع طوال هذا العصر، بل إن من يرجع إلى تراجمهم سيجد كثيرين من كبارهم ينعتون بأنهم سادوا أهل عصرهم فى العلوم العقلية أو يقال إن فلانا بذّ فقهاء عصره فى علوم التعاليم أو كان مستبحرا فى فنونها إلى غير ذلك من نعوت تدل على أخذهم منها بحظ وافر، وكثيرا ما يجمع الفقيه المشهور بين الفقه والطب.

وأول رياضى فلكى نلتقى به فى الجزائر على بن أبى الرجال التاهرتى الذى هاجر من بلدته تاهرت إلى القيروان وأصبح معلما ومربيا لحاكمها الصنهاجى المعز بن باديس ثم وزيرا له ورئيسا لديوان الإنشاء حتى وفاته سنة 426 هـ/1034 م وباسمه ألف ابن رشيق بعض مؤلفاته الأدبية مثل كتاب «العمدة فى صناعة الشعر ونقده» . وهو أول مغربى تعمق علم الفلك والتنجيم وألف فيه كتابه: البارع فى علم الفلك الذى ترجمه قسطنطين الإفريقى إلى اللاتينية فى القرن الحادى عشر الميلادى وتناقلته اللغات الأوربية المختلفة وانتفع به العلماء الغربيون الفلكيون أيما نفع. وظل الجزائريون يعنون بعلم الفلك وغيره من العلوم الرياضية مثل محمد بن يحيى النجار التلمسانى المتوفى سنة 749 هـ/1348 م وكان إماما فى النجوم وأحكامها، وكان يعاصره محمد بن إبراهيم الآبلى المتوفى سنة 757 هـ/1356 م الذى فاق أهل زمانه فى جميع العلوم العقلية، وهو شيخ ابن خلدون وأحد معلميه. وكتب عالم قسنطينة المشهور ابن قنقذ المتوفى سنة 809 هـ/1408 م شرحا على أرجوزة فلكية لابن أبى الرجال ضمنه جداول فلكية. ومن أهم الفلكيين فى القرن التاسع بعده الحباك محمد بن أحمد المتوفى سنة 867 هـ/1463 م وله منظومة فى الأسطرلاب الفلكى عدّت-منذ زمنه-ألفيّة لعلم الأسطرلاب كألفية ابن مالك فى النحو. وقد شرحت مرارا وممن شرحها الفقيه الكبير محمد السنوسى المتوفى سنة 895 هـ/1490 م وظلت تتدارس حتى نهاية هذا العصر. ومن الأعمال الفلكية بعده

(1) انظر فى ابن أبى الرجال دائرة المعارف الإسلامية وراجع فى غيره عنوان الدراية للغيرينى وتعريف الخلف برجال السلف للحفناوى ومقدمة عبد الرحمن بن خلدون فى علمى الهيئة والعدد وبغية الرواد لأخيه يحيى وطبقات الأطباء لابن أبى أصيبعة ووفيات ابن قنفذ والبستان فى ذكر الأولياء والعلماء بتلمسان لابن مريم وتاريخ الجزائر الثقافى من القرن العاشر إلى القرن الرابع عشر لأبى القاسم سعد الله ومعجم الأعلام الجزائريين لعادل نويهض.

ص: 85

منظومة السراج لعبد الرحمن الأخضرى التى الفها سنة 939 هـ/1532 م وقد شرحت مرارا وطبعت فى مصر مع شرح لها من تأليف سحنون الراشدى. وفى العهد العثمانى ألف محمد الصخرى الجزائرى سنة 1043 هـ/1633 م كتابا فى علم الأسطرلاب سماه: «القلادة الجوهرية فى العمل بالصفيحة العجمية» جعله فى مقدمة وخمسة عشر بابا وخاتمة، ولعبد الرزاق بن حمادوش المتوفى حوالى سنة 1170 هـ/1756 م مؤلف فى علم الفلك وآخر فى علم الأسطرلاب.

ومنذ نظم عبد الله بن الحجاج بن الياسمين المغربى المتوفى سنة 601 هـ/1204 م منظومة الياسمينية فى الجبر والمقابلة وكذلك منذ ألف أبو العباس بن البناء المراكشى المتوفى سنة 721 هـ/1326 م كتابه: «تلخيص أعمال الحساب» وعلماء الجزائر يتدارسون العملين للطلاب ويشرحونهما، وللفقيه سعيد العقبانى التلمسانى المتوفى سنة 811 هـ/1408 م شرح على كل منهما، ولمعاصره ابن قنفذ القسنطينى شرحان على تلخيص ابن البناء سمى أحدهما شرح التلخيص ويقال «التمحيص فى شرح التلخيص» وسمىّ الثانى:«حطّ النقاب عن وجوه أعمال الحساب» . وممن شرح التلخيص معاصرهما على بن موسى البجائى المتوفى سنة 816 هـ/1414 م ونظم ابن مرزوق الحفيد المتوفى سنة 842 هـ/1438 م كتاب التلخيص شعرا. ونزل البلاد المغربية القلصادى على بن محمد القرشى الغرناطى المتوفى ببجاية سنة 891 هـ/1486 م وكان رياضيا كبيرا وظل المغاربة يتداولون كتبه وخاصة كتابه: «كشف الجلباب عن علم الحساب» . وفى أواخر النصف الأول من القرن العاشر الهجرى عنى عبد الرحمن الأخضرى القسنطينى بعلمى الحساب والفرائض وألف فيهما منظومة سماها «الدرة البيضاء» طبعت مع شرحها بمصر.

ويبدو أنه كان للهندسة حظ غير قليل من الجزائريين. وقد مر بنا فى الفصل الماضى كيف أن عالما تلمسانيا رياضيا ومهندسا كبيرا فى زمن أبى حمو موسى الثانى (760 - 791 هـ) هو أبو الحسن على المعروف بابن الفحام اخترع ساعة دقاقة عجيبة فى أعلاها أيكة تحمل طائرا معه فرخاه احتضنهما تحت جناحية وثعبان خارج من كوة يخاتله فيهما، وقمر تكتمل دورته كل تمام ساعة أمام باب مغلق فيفتح وينقضّ منه عقابان وينهش الثعبان أحد الفرخين فيصفر الطائر أبوه. ويفتح باب الساعة الذهبية، وتتراءى جارية جميلة بيدها صحيفة تعلن رقم الساعة، والساعة تدق. ومن المهندسين المهمين فى القرن التاسع الهجرى الفلكى المار ذكره الحباك، وله كتاب فى شكل من الأشكال الهندسية هو الربع المجيب يقول فى مقدمته:«لما كان الربع المجيب أحسن الآلات شكلا وأحقها عملا وأخفها حملا، مع استخراج الأعمال منه لجميع العروض للوقت المفروض هجس فى خاطرى أن أقيد عليه رسالة تذكرة لنفسى ولمن شاء الله من جنسى» وقد جعله-كما يقول الدكتور أبو القاسم سعد الله-فى مقدمة وعشرة أبواب تناول فيها الجيب وجيب التمام والسهم والقوس والقطر والدائرة والارتفاع

ص: 86

الذى لا سمت له إلى غير ذلك من مباحث هندسية مع بيان حركات الشمس والقمر ومعرفة مواقيت الصلاة.

ورأينا فى القسم الخاص بتونس أنه كان بها نهضة كبيرة فى دراسة الطب منذ أواخر القرن الثالث الهجرى وامتدت إلى القرن العاشر، وكان القسم الشرقى من الجزائر حتى قسنطينة وبجاية مندمجا فى الإقليم التونسى إلى نهاية القرن الرابع، وقامت فيه دولة بنى حماد، وتكاد تستولى على أكثر الجزائر، وعنيت بتشجيع العلوم والآداب، فكان طبيعيا أن تعنى بالطب، ويلقانا من أطبائها فى القرن الخامس الهجرى ابن النباش محمد بن عبد الله البجائى، وكان يعنى بعلم الطب وعلاج مرضاه عناية شديدة، ومن أطباء هذه الدولة فى القرن السادس ابن أبى المليح ويقول العماد الأصبهانى فى الخريدة إنه كان طبيبا ماهرا وشاعرا مجيدا، غير أن اشتهاره إنما هو فى الطب. ونلتقى فى قلعة بنى حماد بصيدلى هو أبو جعفر القلعى عمر بن اليدوخ وكان خبيرا بمعرفة الأدوية المفردة والمركبة، ومن مؤلفاته حواش على كتاب القانون فى الطب لابن سينا. ومن أطباء بجاية فى القرن السابع ابن أندراس محمد بن أحمد الأموى أندلسى من مدينة مرسية هاجر منها إلى بجاية فى عشر الستين وستمائة مستوطنا وكان يدرس للطلاب الطب ويقرئهم كتبه ويقول الغيرينى إنه قرأ عليه أرجوزة ابن سينا فى الطب وجملة من كليات القانون، وكان يحضر دروسه نبهاء الطلبة ويثير فيها من الأبحاث الطبية ما تعجز الكتب عن بيانه، وكان متوليا لطب الولاة ببجاية مع بعض خواص الأطباء بها، وله رجز نظم فيه بعض الأدواء، واستدعاه المستنصر الحفصى إلى تونس ولم يلبث أن توفى سنة 674 هـ/1275 م. وكان يعاصره محمد بن يحيى بن عبد السلام وكان له حظ من الطب علمى وعملى، وكان مزاولا له يعالج المرضى. وننتقل إلى تلمسان فى عهد الدولة الزيانية، ومن أطبائها المهمين محمد بن أبى جمعة التلالسى أحد أطباء أبى حمو موسى الثانى (760 - 791 هـ) وكان شاعرا مجيدا. ويذكر عبد الباسط بن خليل المصرى الذى زار تلمسان فى أواخر القرن الثامن الهجرى وسجل زيارته لها فى رحلته أنه رأى فيها طبيبين: طبيبا مسلما هو محمد بن على بن فشوش وهو أحد أطبائها فى تدريس الطب ومزاولة المهنة، وطبيبا يهوديا وفد على تلمسان من الأندلس يسمى موسى بن صمويل ويعرف بابن الأشقر اليهودى ويقول إنه كان ملازما لسلطان تلمسان محمد بن أبى ثابت (796 - 801 هـ). ومن تلاميذ ابن فشوش فى القرن التاسع الهجرى أبو الفضل محمد المشدالى، وكان يعاصره إبراهيم بن أحمد الثغرى وله معجم صغير فى الطب. ونلتقى فى العهد العثمانى بعبد الرزاق بن حمادوش المتوفى حوالى سنة 1170 هـ/1765 م وله كتاب الجوهر المكنون من بحر القانون فى الطب وفروعه، وقد طبع منه قسم خاص بالصيدلة يسمى كشف الرموز.

وإذا تركنا العلوم الطبية والرياضية إلى الفلسفة وبدأنا ببجاية التى كانت عاصمة للدولة الحمادية التقينا فيها بنزيلها الأندلسى الحرالى على بن أحمد من قرية من قرى مدينة مرسية المتوفى

ص: 87

سنة 638 هـ/1241 م ويقول الغيرينى إنه كان أعلم الناس بالطبيعيات والإلهيات، وإنه كان يقرأ عليه مع بعض الطلاب كتاب النجاة لابن سينا فيوضح منه ما يليق ويقرره بأحسن طريق ثم ينقضه ويوهنه. ونزل بجاية بعده من مالقة أحمد بن خالد المتوفى حوالى سنة 660 هـ/1262 م وكانت له مشاركة فى الفلسفة فى الطبيعيات والإلهيات، وكان طلاب بجاية يقرءون عليه كتاب الإشارات والتنبيهات لابن سينا من فاتحته إلى خاتمته. وكان يعاصره ابن أساطير على بن عمران المليانى المتوفى سنة 670 هـ/1271 م وهو من تلامذة الحرالى ومن خواصهم، وكان الطلاب يقرءون عليه أيضا كتاب الإشارات والتنبيهات لابن سينا. ونمضى إلى تلمسان فنلتقى بالشريف الحسنى التلمسانى المتوفى سنة 771 هـ/1369 م والذى انتهت إليه إمامة المالكية بالمغرب، ويقول يحيى بن خلدون إنه لم يكن يعزب عن علمه فن عقلى ولا نقلى، وكانت تقرأ عليه كتب ابن سينا من مثل الإشارات والتنبيهات وكتاب الشفاء كما كانت تقرأ عليه تلاخيص ابن رشد لفلسفة أرسطو وبعض كتب التعاليم الرياضية فضلا عما كان يقرأ عليه من كتب الدراسات الدينية وما كان يلقيه من محاضرات فى تفسير الذكر الحكيم.

ومنذ القرن التاسع الهجرى يقل القول بأن هذا الفقيه أو ذاك درس الحكمة أو درس معقولات الحكماء أو له مشاركة فى الحكمة أو كان حاذقا فى الطبيعيات والإلهيات أو كان يقرأ عليه كتاب النجاة أو كتاب الشقاء لابن سينا فقد أخذ يحل محل ذلك أنه من أهل الورع والنسك أو من أهل التصوف أو أنه من المتصوفة أو الأولياء الكبار مكاشف يتبرّك به أو أنه متصوف من أهل العرفان أو أنه من العلماء الصالحين الأولياء أو زاهد ورع ذو كرامات أو من أهل الخلوة ترك الدنيا وما فيها أو سالك طرق المتصوفة أو سنن الفضلاء الصلحاء الأمجاد إلى غير ذلك من نعوت تدل على انغماس الفقهاء مع الشعب فى التصوف وطرقه الكثيرة التى عمت الجزائر وخاصة الطريقة الشاذلية وفروعها المتعددة، وكلما قطعنا شوطا أو شطرا من الزمن فى العهد العثمانى ازدادت موجة التصوف-كما مر بنا فى الفصل الماضى-حدة، وازدادت المؤلفات فيه وفى شيوخه وأقطابه وفرة.

على أن فرعا من فروع الفلسفة ظل مزدهرا فى حلقات الشيوخ بالجزائر حتى نهاية هذا العصر ونقصد علم المنطق، وقد ألف فيه الحرالى المار ذكره كتابا سماه «المعقولات الأول». وألف الخونجى المتوفى سنة 648 هـ/1250 م كتابا فى المنطق سماه:«الجمل فى المنطق» تداوله علماء الجزائر سريعا يدرسونه للطلاب ويشرحونه. ويقال إنه لم يكن يوجد ببجاية فى القرن السابع الهجرى أعلم بكتاب الجمل للخونجى من عبد الوهاب بن يوسف المتوفى سنة 680 هـ/1281 م. وللشريف الحسنى التلمسانى المار آنفا شرح للجمل، يقول ابن مريم فى كتابه البستان إن العلماء انتفعوا به وأكبّوا عليه قراءة ونسخا. ولابن قنفذ القسنطينى شرح

ص: 88

له، ولسعيد العقبانى معاصره شرح له كان يتداوله العلماء والطلاب، وشرحه محمد بن مرزوق الحفيد المار ذكره وسمى شرحه:«نهاية الأمل فى شرح الجمل للخونجى. ولمحمد بن يوسف السنوسى المحدث المتوفى سنة 895 هـ/1489 م ثلاثة أعمال فى المنطق: مختصر له فيه شرح مرارا، وشرح على الجمل للخونجى، وحاشية على شرح إيساغوجى فى المنطق للبقاعى. وللفقيه محمد بن عبد الكريم المغيلى التلمسانى المتوفى سنة 909 هـ/1503 م ثلاثة أعمال أيضا فى المنطق: مختصر فيه وشرح الجمل للخونجى ومنظومة فيه سماها فتح «الوهاب» وكتب لها ثلاثة شروح. وكان عبد الرحمن السيوطى المصرى المشهور معاصره كتب كتابا نهى فيه عن الاشتغال بعلم المنطق وذكر فيه بعض ما قاله العلماء فى ذمه، فكتب إليه قصيدة بديعة يدافع فيها عن علم المنطق وأنه الحق أو يهدى إلى الحق بدلالاته وأشكاله المنطقية السديدة. وقد ظل علم المنطق يدرس فى الأزهر كما يدرس فى الجزائر وشغف الأزهريون والجزائريون بمنظومة فيه لعبد الرحمن الأخضرى القسنطينى الجزائرى المتوفى سنة 953 هـ/1546 م وسماها السلّم وشرحها وهى فى مائة وثلاثة وأربعين بيتا، ويقال إنه نظمها فى الحادية والعشرين من عمره، ووضعت عليها شروح كثيرة لجزائريين ومصريين كما وضعت حواش كثيرة من أهمها حاشية الفقيه الكبير سعيد قدورة المتوفى سنة 1066 هـ/1655 م ويقول فى مقدمته لها إنها «إضافة لشرح الأخضرى على منظومته كالتذييل لما أغفله فى شرحه، مظهرا لمقاصده ومستخرجا بعض فوائده» . وظلّ يدرس مع السلم فى الجزائر مختصر السنوسى فى المنطق وتوضع له بعض الشروح مثل شرح عبد الرزاق بن حمادوش، المار ذكره سماه «الدرر على المختصر» . وظلت لسلم الأخضرى وشروحه وحواشيه الشهرة المدوية.

3 -

علوم (1) اللغة والنحو والعروض والبلاغة والنقد

أخذت الجزائر تعنى بعلم اللغة منذ ألّم بها أبو على القالى فى طريقه إلى الأندلس زمن عبد الرحمن الناصر، ونرى بين تلاميذه تلميذا جزائريا هو إبراهيم بن عبد الرحمن التنسى وقد حمل عنه كتابه الأمالى ومحاضراته فى اللغة، ونجد مدينة طبنة عاصمة الزاب تعنى بمادة اللغة ومدارستها، وينبغ فيها زيادة الله بن على الطبنى نزيل قرطبة فى عهد المنصور بن أبى عامر وزير

(1) انظر فى علماء اللغة والنحو والعروض والبلاغة إنباه الرواة للقفطى وبغية الوعاة للسيوطى وعنوان الدراية للغبرينى وبغية الرواد ليحيى بن خلدون والبستان لابن مريم ومعجم الأعلام الجزائريين لعادل نويهض، وتاريخ الجزائر الثقافى لأبى القاسم سعد الله، وتعريف الخلف برجال السلف للحفناوى. وكتاب الجزائر لأحمد توفيق المدنى وراجع فى النهشلى الأنموذج لابن رشيق ص 170 وكتابه العمدة فى مواضع متعددة. ونشر الدكتور المنجى الكعبى كتابه الممتع.

ص: 89

الخليفة المؤيد منذ سنة 366 إلى 392 فاحتفى به. يقول ابن بسام فى الذخيرة إنه اتخذه نديمه إذ كان من أمتع الناس حديثا وأنصعهم ظرفا، وأحذقهم بالملاطفة وآخذهم بالقلوب، وكان عالما لغويا يقول القفطى:«كان من أهل العلم بالآداب واللغات والأشعار، روى الناس عنه علما كثيرا، وكان كثير الإغراب» توفى سنة 415 هـ/1024 م ونشّأ ابنه عبد الملك- وكان محدثا-تنشئة لغوية جيدة حتى ليقول السيوطى فى البغية إنه كان إماما فى اللغة له رواية وسماع. وتنهض الدولة الحمادية بالقلعة عاصمتها الأولى وبجاية عاصمتها الثانية نهضة علمية خصبة حتى نهاية مدتها سنة 547 وتظل النهضة مطردة فى العاصمتين وتجتذبان كثيرا من علماء الأندلس، كما مر بنا، فضلا عن علماء المدن والأصقاع الجزائرية. وينزل بجاية المحدث الأندلسى الكبير عبد الحق الإشبيلى المتوفى سنة 581 هـ/1185 م ويتولى بجامعها الأعظم الخطبة وصلاة الجمعة كما يتولى بها القضاء، ويؤلف فى غريب القرآن الكريم والحديث النبوى كتابا ضخما فى ثمانية عشر مجلدا سماه الحاوى ضاهى به كتاب الغريبين فى القرآن والحديث للهروى. وللفقيه التلمسانى محمد بن عبد الحق المتوفى سنة 625 هـ/1227 م كتاب فى غريب الموطأ للإمام مالك. وكان يعاصره يحيى بن عبد المعطى الزواوى المتوفى سنة 628 هـ/1230 م من كبار علماء العربية، وكان قد أخذ يكثر فى الجزائر نظم العلوم والمعارف، وقد نظم معجم الجمهرة فى اللغة لابن دريد، وحاول نظم معجم الصحاح للجوهرى ولم يكتب له أن يتمه.

وكان محمد بن الحسن بن ميمون القلعى المتوفى سنة 673 هـ/1274 م يقرأ للطلاب ببجاية كتاب الأمالى للقالى وكتاب زهر الآداب للحصرى ومقامات الحريرى ومنتخبات من شعر أبى تمام والمتنبى، وكان شاعرا ونحويا كبيرا مثل ابن عبد المعطى. وكان يعاصره أحمد بن يوسف اللّبلى نزيل بجاية المتوفى بها سنة 691 هـ/1292 م وله شرح على كتاب الفصيح لثعلب وكتاب فى التصريف ضاهى به كتاب الممتع لابن عصفور. ومن لغويى القرن السابع الهجرى ونحاته الكبار يوسف بن يخلف الجزائرى وكان يدرس لطلابه فى بجاية شعر أبى تمام والمتنبى والأشعار الستة برواية الشنتمرى المسندة إلى الأصمعى، وهى دواوين امرئ القيس وزهير والنابغة وطرفة وعنترة وعلقمة ودواوين أبى العلاء: سقط الزند واللزوميات والحماسة للتبريزى والمرزوقى وإصلاح المنطق لابن السكيت والأمالى لأبى على القالى والمقامات وغير ذلك من الكتب الأدبية. ولعل فى عمل ابن يخلف اللغوى ببجاية ما يدل بوضوح على مدى العناية الواسعة فيها بمدارسة كتب اللغة والأدب ودواوين الشعر الجاهلية وغير الجاهلية. ولابن مالك كتاب لامية الأفعال عنى به غير جزائرى، ولابن العباس محمد التلمسانى المتوفى سنة 871 هـ/1467 م شرح عليها نوّه به معاصروه. وتكثر الشروح للأشعار وخاصة قصيدة البردة النبوية للبوصيرى، ومن أهم شروحها شرح سعيد العقبانى المتوفى سنة 811 وشرح ابن مرزوق الحفيد

ص: 90

المتوفى سنة 842 وشرح القلصادى المتوفى سنة 891. وتتكاثر الشروح اللغوية فى العهد العثمانى ومن أهمها شرح عبد الكريم الفكون على أرجوزة المكودى الفاسى فى التصريف ألفه سنة 1048 للهجرة، وكتب محمد بن بدوى الجزائرى سنة 1127 رسالة الارتضاء فى الفرق بين الضاد والظاء. وبأخرة من العصر كتب محمد بن أحمد الجليلى الملقب بأبى راس المتوفى سنة 1238 هـ/1823 م كتابا لغويا فى نقد القاموس المحيط سماه: إضاءة القابوس على كتاب القاموس.

وعلى شاكلة ازدهار الدراسات اللغوية فى الجزائر منذ القرن السابع الهجرى تزدهر الدراسات النحوية وحامل لوائها فى هذا القرن يحيى بن عبد المعطى الزواوى المار ذكره بين اللغويين والمتوفى بالقاهرة بعد أن تصدّر لتدريس النحو واللغة بها فى الجامع العتيق: جامع عمرو، وله فى النحو ألفية على غرارها نظم ابن مالك ألفيته، ومن مؤلفاته النحوية شرح لكتاب الجمل للزجاجى وحواش على كتاب أصول النحو لابن السراج، وكتاب فى النحو سماه العقود والقوانين، وله كتاب فى شرح أبيات سيبويه. ولعبيد الله النفزى الشاطبى نزيل بجاية المتوفى بها سنة 642 هـ/1244 م شرح على كتاب المفصل للزمخشرى المتوفى سنة 538 للهجرة وكان يتقن شرحه ودرسه للطلاب.

ومن كبار نحاة بجاية فى القرن السابع لغويها المار ذكره يوسف بن يخلف الجزائرى وكان يشرح لطلابه الكتب التالية: كتاب الجمل للزجاجى وكتاب الإيضاح لأبى على الفارسى وكتاب المفصل للزمخشرى ومقدمة ابن بابشاذ النحوى المصرى وقانون أبى موسى الجزولى المتوفى سنة 607 هـ/1211 م أو متنه النحوى المقتضب الذى أخذه عن ابن برى المصرى المتوفى سنة 582 هـ/1186 م. وكان يعاصره محمد بن الحسن بن ميمون القلعى المار ذكره آنفا بين اللغويين وهو من قلعة بنى حماد، وكان لغويا ونحويا كبيرا مثل ابن يخلف، استوطن بجاية، وعاش يدرس لطلابها ويقول تلميذه الغبرينى فى ترجمته:«كان له درس يحضره من الطلبة فضلاؤهم ونبهاؤهم، وتجرى فيه المذاكرات المختلفة فى التفسير والحديث وأبيات الغريب من الأشعار، ويعرض من المعانى والأفكار ما لا يكاد يوجد مثله فى نوادر الكتب، وكان قويا فى علم التصريف ومحبا للتعليل، جاريا فى ذلك على سنن أبى الفتح بن جنى، وكان كثير التلامذة والأصحاب، وتقرأ عليه جميع الكتب النحوية واللغوية والأدبية، ويقوم على جميعها أحسن قيام، وهو أفضل من لقيت فى علم العربية» . ويذكر الغبرينى من كتب النحو التى كان يدرسها ابن ميمون القلعى للطلاب كتاب الإيضاح لأبى على الفارسى وكتاب سيبويه والمفصل للزمخشرى وقانون أبى موسى الجزولى المسمى بالجزولية. ومن نحاة بجاية فى القرن السابع عبد الله بن محمد الأغماتى نزيل بجاية، وكان فى علم العربية بارعا، وكان يفقه كتاب سيبويه فقها حسنا، إذ كان من أعلم الناس به، وكان يقرن مسائله بعضها إلى بعض ويدرك مقاصده

ص: 91

إدراكا دقيقا، ويقول عنه الغبرينى ناقلا عن بعض تلاميذه:«أما كتاب مفصل الزمخشرى وقانون أبى موسى الجزولى فكانا عنده من المبادئ دالا بذلك على تعمقه لكتب النحو ومسائله وقواعده» . ولمحمد بن عبد الرحمن الخزرجى قاضى بجاية المتوفى سنة 691 هـ/1292 م شرح محكم على الجزولية، وكان يدرسها للطلاب دراسة جيدة. وللفقيه الكبير ابن قنفذ أحمد بن حسن القسنطينى المتوفى سنة 811 هـ/1409 م الإبراهيمية فى مبادئ علم العربية، وله على ألفية ابن مالك شرح سماه «آية السالك إلى ألفية ابن مالك» . وكان ابن مرزوق الحفيد يقرأ لطلابه-أو يقرأ عليه-كتاب سيبويه وكتاب الإيضاح لأبى على الفارسى والألفية وكتاب التسهيل لابن مالك والكافية لابن الحاجب وكتاب المغنى وأوضح المسالك لابن هشام. ولمعاصره إبراهيم بن فائد القسنطينى المتوفى سنة 857 هـ/1453 م شرح على ألفية ابن مالك، ومنذ ألّف ابن آجرّوم الصنهاجى الفاسى المتوفى سنة 723 هـ/1323 م متنه البديع فى النحو المسمّى الآجرّومية. والعلماء فى الجزائر وغير الجزائر يتناولونه بالدرس والشرح، ومن شروحه فى الجزائر شرح المحدث الكبير محمد السنوسى المتوفى سنة 895 هـ/1490 م وشرح معاصره القلصادى الأندلسى نزيل تلسمان وبجاية المتوفى سنة 891 هـ/1486 م.

ويظل علماء النحو فى العهد العثمانى يعنون بشرح متن الأجرومية وألفية ابن مالك، ومن شروح الأجرومية حينئذ شرح محمد بن محمد الصباغ القلعى من نحاة القرن العاشر الهجرى، ونظمها فى القرن الثانى عشر خليفة بن حسن القمارى فى أرجوزة قيل إنه «يرقص لها المبتدى لسلاسة نظمها وعذوبة موسيقاها» . ومن نحاة الجزائر المهمين فى القرن الحادى عشر يحيى الشاوى المتوفى سنة 1096 هـ/1685 م ومن مصنفاته حاشية على شرح المرادى لألفية ابن مالك، وله شرح على كتاب التسهيل لابن مالك، ومختصر فى أصول النحو استضاء فيه بكتاب الاقتراح للسيوطى. ويكثر الشارحون لشواهد كتب النحو، ولأبى القاسم بن محمد البجائى من نحاة القرن الحادى عشر الهجرى شروح لشواهد ثلاثة من كتب ابن هشام، هى القطر وشذور الذهب والقواعد الصغرى.

وبعض النحاة كان يدرس العروض لطلابه، ولذلك ينعت بالعروضى مثل عبد الله بن محمد القسنطينى المتوفى بأخرة من القرن السادس الهجرى، وليحيى بن عبد المعطى المذكور بين النحاة واللغويين منظومة فى العروض بجانب ألفيته فى النحو ونظمه اللغوى لمعجم الجمهرة. وينظم ضياء الدين الخزرجى السبتى فى عصر الموحدين قصيدة فى العروض فى نحو مائة بيت ضمّنها قواعد علم العروض والقوافى، وطارت شهرتها وسميت الخزرجية نسبة إليه، وينسبها بعض الباحثين المعاصرين خطأ لابن أبى الجيش وليس هو صاحب الخزرجية. وشغف بها الجزائريون وتناولها كثير من أعلامهم بالشرح مثل ابن قنفذ المذكور بين النحاة وسمى شرحه:

ص: 92

«بسط الرموز الخفية فى شرح عروض الخزرجية» وشرحها ابن مرزوق الحفيد وسمى شرحه: «المفاتيح المرزوقية فى استخراج رموز الخزرجية» وشرحها القلصادى، وله بجانب شرحها مختصر فى العروض. ومن شروح العهد العثمانى على الخزرجية شرح لسعيد قدورة الحفيد المتوفى سنة 1066 هـ/1655 م وشرح ثان لبركات بن باديس المتوفى فى أوائل القرن الثانى عشر الهجرى.

وكانت الجزائر-فيما بيدو-تعتمد فى دراسة البلاغة على ما كتبه ابن رشيق المتوفى سنة 456 هـ/1063 م فى كتابه «العمدة فى صناعة الشعر ونقده» وكان قد طار صيته لا فى القيروان وحدها بل فى جميع البلدان المغربية والمشرقية. وأخذت تشيع شرقا وغربا دراسة المتون البلاغية وشروحها فى القرن السابع وما بعده منذ وضع السكاكى مصنّفه أو كتابه المفتاح وعرض فيه علمى المعانى والبيان، وألحق بهما دراسة للمحسنات اللفظية والمعنوية، وخلفه الخطيب القزوينى وصنع لعرض السكاكى هذه العلوم فى القسم الثالث من كتابه المفتاح تلخيصا، ولم يلبث أن بسط قضاياه فى كتاب ثان سماه الإيضاح، منذ ذلك ودارسو البلاغة العربية فى الجزائر وغير الجزائر يعنون عناية واسعة بكتابيه المذكورين، وخاصة بالتلخيص إذ أخذ يتجرد غير عالم فى كثير من البلدان العربية لشرحه. وكان الفقيهان الكبيران التلمسانيان ابنا الإمام أبو زيد عبد الرحمن بن محمد الشريف التلمسانى وأخوه أبو موسى عيسى رحلا إلى المشرق فى شبابهما لأوائل القرن الثامن الهجرى للتزود من حلقات علمائه ولقيا فى رحلتهما بدمشق أو فى القاهرة الخطيب القزوينى قاضى القضاة بهما فى عهد الناصر بن قلاوون، فحضرا دروسه وحملا عنه مصنفيه البلاغيين: متن التلخيص وكتاب الإيضاح، وأذاعاهما فى موطنهما، وكأن الجزائر اشتغلت بهما عقب تأليفهما سريعا مثل مصر والبلدان المشرقية، ونرى الشريف الحسنى التلمسانى محمد بن أحمد المتوفى سنة 771 كما مر بنا يعنى بالتلخيص والإيضاح جميعا ويأخذهما عنه الطلاب، وبالمثل كان يدرسهما للطلاب بتلمسان الحافظ الكبير ابن مرزوق الحفيد المتوفى سنة 842 وضم إليهما كتاب المصباح فى علوم المعانى والبيان والبديع لبدر الدين ابن النحوى الكبير ابن مالك المتوفى سنة 686 هـ/1287 م. ولمعاصره إبراهيم بن فائد شرح وضعه على متن التلخيص، وشرحه أيضا محمد بن عبد الكريم المغيلى. ويضع عبد الرحمن الأخضرى فى أوائل العهد العثمانى صاحب متن السلم فى المنطق كتابا مختصرا فى علوم البلاغة سماه:«الجوهر المكنون فى الثلاثة فنون: المعانى والبيان والبديع» وشرح مرارا، ومن شروحه شرح محمد بن يوسف الثغرى المتوفى سنة 1115 هـ/1703 م سماه:«موضح السر المدفون فى الجوهر المكنون» ويضع على بن عبد القادر المشهور باسم ابن الأمين حاشية على شرح السعد التفتازانى لمتن التلخيص.

ص: 93

وتهدى مدينة المسيلة (المحمدية) فى الجزائر إلى القيروان ناقدا مبكرا فى أواخر عهد المنصور بن بلكين (368 - 386 هـ) هو عبد الكريم النهشلى، وكان شاعرا يحسن الكتابة كما كان شاعرا مجيدا فألحقته الدولة بدواوينها وظل بها إلى أن توفى سنة 403 هـ/1012 م. وله فى النقد كتاب يعد باكورة الكتابات النقدية فى البلاد المغربية هو كتاب الممتع فى علم الشعر وعمله. ونشر الدكتور منجى الكعبى اختيارا منه لأحد الأدباء السابقين يقع فى خمسمائة صفحة حققها تحقيقا علميا جيدا. ويدل هذا الاختيار على أن النهشلى بن الكتاب على منتخبات شعرية ونثرية تتخلّلها نظرات نقدية، ووزّع المنتخبات على أبواب متعاقبة انتفع بها ابن رشيق فى تأليفه لكتابه:«العمدة فى صناعة الشعر ونقده» كما أوضح ذلك الدكتور منجى فى هوامش التحقيق ببيان ما يلتقى فيه الكتابان من أبواب ونصوص مختلفة منذ الصفحة الثالثة من الممتع إذ نقل ابن رشيق عن عبد الكريم ما قاله من أن «أصل الكلام منثور ثم تعقبت العرب ذلك واحتاجت إلى الغناء بأفعالها وذكر سابقتها ووقائعها وتضمين مآثرها، إذ كان المنطق هو المؤدى عن عقولهم، وألسنتهم خدم أفئدتهم» وتبعه ابن رشيق فقال: «وكان الكلام كله منثورا، فاحتاجت العرب إلى الغناء بمكارم أخلاقها وطيب أعراقها وذكر أيامها الصالحة» . ويعقد عبد الكريم ص 24 فصلا فى فضل الشعر، ويتابعه ابن رشيق بفصل مماثل يردد فيه ما يقوله (انظر صفحتى 24 و 25). ومن الحق أنه قد يصرح به ولكن فى مواطن معدودة من العمدة، وقد يأخذ عنه أبوابا مثل باب ألقاب الشعراء ص 192 وهو فى العمدة (تحقيق محيى الدين عبد الحميد) 1/ 33 وباب احتماء العرب بالشعر وذبهم به عن الأعراض ص 220 وهو عند ابن رشيق فى 1/ 49 وباب الأنفة من السؤال ص 249 وهو عند ابن رشيق باب التكسب بالشعر والأنفة منه ص 63 ويقول الدكتور منجى فى الهامش: «وتجد عند ابن رشيق فصولا كثيرة من هذا الباب ضمن أبواب أخرى لها علاقة به مثل باب الاقتضاء والاستنجاز فى الجزء الثانى من العمدة. ومن ذلك باب فيمن نوه به المدح وحطّه الهجاء ص 243 وهو عند ابن رشيق 1/ 29. ومن ذلك باب فيه النهى عن تعرض الشعراء ص 279 وهو عند ابن رشيق 1/ 59. والكتاب يحمل فى كل باب وفى كل موضوع نصوصا أدبية: شعرية ونثرية بديعة تدل-دلالة واضحة-على ما كان يمتلكه عبد الكريم النهشلى من ذوق أدبى مرهف مع حسن العرض. ويبدو أن أصل الكتاب كان يحمل بعض نظرات نقدية بارعة لم يعن صانع المختار من الكتاب بإثباتها، بدليل ما سجل ابن رشيق منها، إذ عقد فى الجزء الأول من العمدة فصلا للقدماء والمحدثين ذهب فيه مذهب ابن قتيبة فى أنه ينبغى أن لا يقدّم فى الشعر القديم لقدمه ولا الحديث لحداثته، إذ المعوّل فى ذلك على جودة الشعر لا على قدمه أو حداثته، ولا يلبث أن يقول: «ولم أر فى هذا النوع أحسن من فصل أتى به عبد الكريم (النهشلى) فإنه قال:

ص: 94

«قد تختلف المقامات والأزمنة والبلاد، فيحسن فى وقت ما لا يحسن فى آخر، ويستحسن عند أهل بلد ما لا يستحسن عند أهل غيره، ونجد الشعراء الحذاق تقابل كل زمان بما استجيد فيه وكثر استعماله عند أهله، بعد أن لا تخرج من حسن الاستواء وحدّ الاعتدال وجودة الصنعة، وربما استعملت فى بلد ألفاظ لا تستعمل كثيرا فى غيره كاستعمال أهل البصرة بعض كلام أهل فارس فى أشعارهم ونوادر حكاياتهم. قال: والذى أختاره أنا التجويد والتحسين الذى يختاره علماء الناس بالشعر، ويبقى غابره على الدهر، ويبعد عن الوحشىّ المستكره، ويرتفع عن المولد المنتحل، ويتضمن المثل السائر والتشبيه المصيب والاستعارة الحسنة» .

فعيد الكريم يرى أن الجودة فى الشعر تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة وأن المدار فيها ليس على القدم والحداثة ولا على بلد شرقا دون بلد غربا إنما المدار فيها على حسن النسق وجمال الصياغة بحيث لا يكون الكلام حوشيا جافيا ولا مولّدا سفسافا غثّا بل يكون رصينا جزلا أو رقيقا سلسا مع ما يحمل من تلاوين التشبيهات والاستعارات البارعة. ونمضى مع ابن رشيق فى الجزء الأول من كتابه العمدة فنجده يعقد بابا فى الشعراء والشعر يذكر فيه عن عبد الكريم قوله: «الشعر أصناف، فشعر هو خير كله، وذلك ما كان فى باب الزهد والمواعظ الحسنة والمثل العائد على من تمثّل به بالخير وما أشبه ذلك، وشعر هو ظرف كله، وذلك القول فى الأوصاف والنعوت والتشبيه وما يفتنّ به من المعانى والآداب، وشعر هو شر كله، وذلك الهجاء وما تسرّع به الشاعر إلى أعراض الناس، وشعر يتكسّب به، وذلك أن يحمل إلى كل سوق ما ينفق فيها ويخاطب كل إنسان من حيث هو ويأتى إليه من جهة فهمه» .

وهى أنواع تستقصى أغراض الشعر، فمنه الخيّر الذى يهدى إلى السّنن القويم من الزهد والسلوك المستقيم إيثارا لما عند الله من الثواب على متاع الحياة الفانى، ومنه ما تستريح إليه النفس من وصف الطبيعة ومن الحكم والمعانى الطريفة، ومنه ما هو شر خالص وهو الهجاء المقذع الذى ينتهك الأعراض، ومنه ما يتكسب به، وهو شعر المديح الذى يعود على صاحبه بالنفع فى كل سوق. ويعقد ابن رشيق عقب هذا الباب بابا لحد الشعر وبنيته، ويذكر فيه لعبد الكريم قوله:

«يجمع أصناف الشعر أربعة: المديح والهجاء والحكمة واللهو، ثم يتفرّع من كل صنف من ذلك فنون فيكون من المديح المراثى والافتخار والشكر، ويكون من الهجاء الذم والعتاب والاستبطاء، ويكون من الحكمة الأمثال والتزهيد والمواعظ، ويكون من اللهو الغزل والطرد والخمر والمخمور» . وفنون الشعر الأربعة التى ذكرها عبد الكريم نقلها عن ابن وهب فى كتابه نقد النثر، وقد عرف كيف يرد إليها كل أغراض الشعر، فالمديح منه الرثاء إذ هو مديح لميت، ومنه الفخر إذ هو مديح للشاعر الذى نظمه، مديح لنفسه، وكذلك الشكر مديح لمن يقدم إليه وعرفان بفضله، ومن السهل إدخال الذم فى الهجاء أما العقاب والاستبطاء فيدخلان فيه بشئ من التوسع إذ قد ينقلبان هجاء. وبحق تدخل الأمثال فى الحكمة كما يدخل فيها

ص: 95

التزهيد والوعظ لأنهما يقومان على ضرب الأمثال والتأمل فى مصير الإنسان وما ينتظر من السعادة أو الشقاء فى الآخرة، ويدخل فى اللهو الانشغال عن الحياة الجادة بالغزل أو بالصيد أو بالخمر أسوأ صور اللهو الماجن».

وواضح أننا عرفنا عن طريق الفقر الثلاث السالفة التى نقلها ابن رشيق عن كتاب الممتع فى علم الشعر وعمله لعبد الكريم النهشلى جانبا من نظراته النقدية التى ضمنها كتابه، ونظن ظنا أنه كان فى الكتاب نظرات نقدية أخرى مماثلة أهملها-كما ذكرنا-صانع هذا الاختيار الذى حققه ونشره الذكتور منجى الكعبى. ولم يظهر بعد عبد الكريم فى الجزائر ناقد على شاكلته إلا ما كان من ظهور ابن رشيق الناقد الفذ مواطنه الذى ولد مثله بالمسيلة الجزائرية ونشأ بها وعلمه أبوه صنعته وهى الصياغة وهاجر فى سن السادسة عشرة إلى القيروان فتأدب بها ونضجت فيها موهبته الأدبية والنقدية وظل مستوطننا لها بقية حياته بحيث عدّ من أهلها وأدبائها، ولذلك تحدثنا فى القسم الخاص بالإقليم التونسى عنه وعن كتابه العمدة فى صناعة الشعر ونقده الذى يعد بحق أروع عمل نقدى أنتجته البلدان المغربية طوال هذا العصر.

4 -

علوم (1) القراءات والتفسير والحديث والفقه والكلام

يعكف المسلمون فى مشارق الأرض ومغاربها على حفظ القرآن الكريم وتلاوته، وحين نشأت فيه القراءات أخذ يحملها عن أئمتها فى المشرق مقرءون كثيرون فى المغرب ولا بد أن

(1) راجع فى القراء غاية النهاية فى طبقات القراء لابن الجرزى وعنوان الدراية فى علماء بجاية للغيرينى وبغية الرواد ليحيى بن خلدون والبستان فى ذكر الأولياء والعلماء بتلمسان لابن مريم وتعريف الخلف برجال السلف للحفناوى وتاريخ الجزائر الثقافى للدكتور سعد الله. وانظر فى المفسرين عنوان الدراية وبغية الرواد والبستان وتعريف الخلف برجال السلف وكتاب الجزائر لأحمد توفيق المدنى فى الحالة العلمية فى الجزائر وتاريخ الجزائر الثقافى من القرن العاشر إلى القرن الرابع عشر لسعد الله. وراجع فى المحدثين طبقات أبى العرب والديباج المذهب لابن فرحون والجزء الأول من الذخيرة لابن بسام فى أسرة بنى الطبنى وعنوان الدراية وبغية الرواد والوفيات لابن قنفذ والبستان وتعريف الخلف وكتاب الجزائر للمدنى وتاريخ الجزائر الثقافى لسعد الله. وانظر فى الفقهاء طبقات أبى العرب والخشنى والرياض للمالكى وما ذكر من مصادر الإباضية والديباج المذهب لابن قرحون وعنوان الدراية وما ذكر معه من المصادر فى المحدثين، وعلم الفقه فى مقدمة ابن خلدون. وراجع فى المذاهب الكلامية وخاصة الاعتزال والأشعرى ما كتبناه عنهما فى العصرين العباسيين الأول والثانى وكذلك ما كتبناه فى تونس وانظر فى مبادئ الإباضية دبوز فى تاريخ المغرب الكبير، وراجع فى الاعتزال ونشره فى المغرب والجزائر لعهد واصل مؤسسه كتاب فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة بتحقيق فؤاد سيد. وانظر فى المناظرة بين إباضية تاهرت والمعتزلة ونشوب الحرب بينهما أخبار الأئمة الرستميين لابن الصغير، وانظر فى تآليف علم الكلام وكثرتها البستان وتعريف الخلف، وتاريخ الجزائر الثقافى، وراجع فى كتابات الإباضيين فى علم الكلام كتاب الجزائر لأحمد توفيق المدنى.

ص: 96

كان للجزائر حظ كبير من هؤلاء المقرئين مثل بقية البلاد الإسلامية، ويذكر ابن الجزرى من كبار قرائها فى القرن الرابع الهجرى عبد الحكم بن إبراهيم نزيل بجاية تلميذ ابن خيرون كبير القراء فى القيروان وقد حمل عنه قراءة ورش المصرى عن نافع وهى القراءة التى لا تزال فى البلاد المغربية إلى اليوم. ومن كبار القراء فى القرن الخامس الهجرى يوسف بن على بن جبارة من بسكرة عاصمة الزاب، وله كتاب الكامل فى القراءات العشر، ويقول ابن الجزرى إنه طاف البلاد فى طلب القراءات، ويذكر فى كتابه الكامل إنه لقى ثلاثمائة وخمسة وستين مقرئا من شيوخ القراء وذكر منهم فى كتابه مائة واثنين وعشرين شيخا. ومن قراء القرن السادس ابن عفراء محمد بن عبد العزيز وعنه حمل القراءات محمد بن عبد الله القلعى المتوفى سنة 611 هـ/1214 م ويقول الغبرينى إنه جلس للأستاذية ببجاية وأقرأ الناس وانتفعوا به. وكان يعاصره ببجاية المقرئ أحمد بن محمد المعافرى قرأ عليه عالم واستفاد منه خلق كثير، وله مختصر كتاب التيسير للدانى فى القراءات السبع، وبالمثل أحمد بن محمد الصدفى المتوفى سنة 674 وله كتابان فى قراءة ورش. ومن قراء القرن السابع الذين ذكرهم ابن الجزرى فى غاية النهاية سعيد بن على بن زاهر المتوفى سنة 654 هـ/1256 م استوطن بجاية وأقرأ بها الطلاب، ومثله محمد بن صالح الكنانى المتوفى سنة 699 هـ/1297 م ولى إقامة الفريضة والخطبة بجامع بجاية الأعظم ما ينيف على ثلاثين عاما، وكان مع إملائه القراءات يقرأ للطلاب مفصل الزمخشرى ودواوين الأشعار الستة وأبى تمام والمتنبى. ومن مقرئى القرن الثامن الهجرى محمد بن محمد بن غريون البجائى تلميذ محمد بن صالح الكنانى وأستاذ محمد بن محمد البلفيقى ببجاية، وكان يقرئ القراءات الثمان. ومن المقرئين فى منتصف القرن الثامن أحمد بن محمد الزواوى مقرئ قسنطينة، ومن مقرئى النصف الثانى من هذا القرن يحيى بن موسى الغمارى مقرئ بجاية. وكان يعاصره يعقوب بن على الصنهاجى شيخ أهل تلمسان فى القراءات.

ومن كبار القراء فى القرن التاسع ابن مرزوق الحفيد، وله فى القراءات أرجوزة فى محاذاة الشاطبية المشهورة، وتلاه فى العناية بالقراءات بأخرة من القرن محمد بن يوسف السنوسى وله شرح كبير على الشاطبية ومختصر فى القراءات السبع، وكان يعاصره محمد بن أحمد المصمودى وله فى القراءات رجز باسم:«المنحة المحكية لمبتدئ القراءة المكية» عرض فيها الخلاف بين قراءة ابن كثير المكى ونافع المدنى، ومن معاصريه محمد بن شقرون الوهرانى وله كتاب تقريب النافع فى الطرق العشر (طرق الروايات) لنافع، وهى أكثر من ذلك فى حديث ابن مجاهد عن أسانيد قراءة نافع فى مقدمته لكتابه:«السبعة» . واشتهرت زواوة فى العهد العثمانى بكثرة المقرئين فيها، ومن أشهرهم فى أواخر القرن الحادى عشر وأوائل الثانى عشر محمد بن صولة وكان الطلاب يأخذون عنه القراءات السبع. ولا بد أن كان بالجزائر مقرءون آخرون فى

ص: 97

زواوة وغيرها يتجاوزون القراءات السبع إلى ما بعدها من القراءات العشر، وربما إلى ما وراءها من القراءات.

وللجزائر نشاط فى التفسير مماثل لنشاطها فى القراءات، وخاصة منذ القرن السادس الهجرى، وفيه نلتقى بيوسف بن إبراهيم الورجلانى الإباضى المتوفى ببلدته: ورجلان سنة 570 هـ/1175 م ويذكر أحمد توفيق المدنى فى كتاب الجزائر أنه كان له فى التفسير كتاب كبير فى 70 جزءا. ويتكاثر المفسرون بالجزائر منذ القرن السابع، ومنهم على بن أحمد الحرالى نزيل بجاية المار ذكره، ويقول الغبرينى:«له تفسير على كتاب الله تعالى سلك فيه سبيل التحرير فتكلم عليه لفظة لفظة وحرفا حرفا» ومن مفسرى القرن السابع بتلمسان ابن أبى العيش الخزرجى محمد بن عبد الرحيم وفيه يقول يحيى بن خلدون فى كتابه بغية الرواد: له مشاركات فى فنون العلم وكان مؤلفا متقنا فسّر الكتاب العزيز. ومن مفسرى القرن الثامن الهجرى الشريف الحسنى التلمسانى محمد بن أحمد إمام المغرب قاطية، وفيه يقول ابن مريم:«فسّر القرآن فى خمس وعشرين سنة أتى فيه بالعجب العجاب، وكان عالما بحروفه ونحوه وقراءاته وبيانه وبلاغته وأحكامه ومعانيه» . ومن مفسرى القرن التاسع سعيد العقبانى المتوفى سنة 811 هـ/1408 م وله تفسير لسورة الأنعام والفتح والفاتحة أتى فيه بفوائد جليلة، ولإبراهيم بن فائد المتوفى سنة 857 هـ/1453 م تفسير للقرآن الكريم. ونلتقي بالمفسر الكبير عبد الرحمن الثعالبى التلمسانى المتوفى سنة 875 هـ/1470 م وله تفسير دوّت شهرته فى عصره والعصور التالية اختصر فيه تفسير عبد الحق بن عطية الأندلسى ورجع فيه إلى عشرات من كتب التفسير، يقول فى مقدمته:«ضمنته-بحمد الله-المهم مما اشتمل عليه تفسير ابن عطية، وزدته فوائد جمة من غيره من كتب الأئمة وثقات أعلام هذه الأمة حسبما رأيته ورويته عن الأثبات، وذلك قريب من مائة تأليف، وما منها تأليف إلا وهو منسوب لإمام مشهور بالدين ومعدود فى المحققين، وكل من نقلت عنه من المفسرين شيئا فمن تأليفه نقلت وعلى لفظ صاحبه عوّلت، ولم أنقل شيئا من ذلك بالمعنى خوف الوقوع فى الزلل» وقد سمى تفسيره: «الجواهر الحسان فى تفسير القرآن» . وقوله إنه رجع فى التأليف إلى مائة تفسير يدل-بوضوح-على أن المشرق لم يؤلف تفسيرا مهما إلا نقله الشيوخ إلى الجزائر. ولا يختص هذا العمل من نقل التراث العلمى المشرقى إلى الجزائر بالتفسير وحده، فقد عم هذا التراث فى القراءات والحديث النبوى والفقه وعلم الكلام والتاريخ وكتب النحو ومعاجم اللغة، بفضل طلاب العلم الجزائريين وشيوخه البررة الذين ظلوا يحملونه طوال القرون الماضية إلى بلدان الجزائر وغير الجزائر من الأقاليم المغربية. ولمحمد السنوسى مختصر حاشية التفتازانى على تفسير الزمخشرى المسمى بالكشاف. ومن تلاميذ الثعالبى محمد بن عبد الكريم المغيلى المار ذكره، ومن مصنفاته:«البدر المنير فى علوم التفسير» . ونلتقى فى العهد العثمانى بيحيى الشاوى المار ذكره المتوفى سنة 1096 هـ/1685 م وله فى

ص: 98

التفسير كتاب فى أجوبته على اعتراضات أبى حيان الأندلسى فى تفسيره المحيط على عبد الحق بن عطية والزمخشرى. وبأخرة من هذا العصر نلتقى بمحمد بن أحمد بن عبد القادر الملقب بأبى راس، وله تفسير فى ثلاثة مجلدات.

وزخرت الجزائر بالنشاط فى دراسات الحديث النبوى مثلها فى ذلك مثل بقية البلاد الإسلامية فكثر بها المحدثون من أبنائها والنازحين إليها من الأندلس والبلدان المغربية والمشرقية، ومن أوائل الوافدين عليها من المحدثين أبو معمر عباد بن عبد الصمد التميمى من أهل البصرة كان قد لقى الصحابى أنس بن مالك وعليه معتمده وكذلك لقى الحسن البصرى وعطاء بن أبى رباح التابعين وروى عنهم جميعا الحديث وقدم البلاد المغربية فأخذ الحديث عنه أناس كثيرون فى طرابلس والقيروان وقسنطينة وبها توفى، ويقول أبو العرب فى طبقاته إنه روى مناكير فى الحديث عن أنس لم يروها غيره ولكنه مشهور بكثرة من أخذ الحديث عنه. وممن بكروا فى النزوح إليها من الأندلس سعيد بن فحلون نزيل بجاية المتوفى بها سنة 346 هـ/958 م عن ثلاث وتسعين سنة، وكان قد رحل إلى المشرق وحمل عن النسائى كتابه السّنن أحد كتب الصحاح الستة المشهورة، وكانت إليه الرحلة للسماع من البلدان الأندلسية. وفى نفس هذا القرن الرابع استوطن أحمد بن نصر الداودى تلمسان حتى وفاته سنة 402 هـ/1012 م، وكان فقيها كبيرا وله شرح على صحيح البخارى سماه النصيحة. واشتهرت فى طبنة عاصمة الزاب فى القرون الأولى أسرة بنى الطبنى برواية الحديث النبوى، ومنها عبد الملك بن زيادة الله الطبنى نزيل قرطبة المتوفى سنة 457. ومن محدثى القرن السادس بتلمسان يعقوب بن أحمد، لقى بمرسية فى الأندلس أبا على الصدفى سنة 511 وعاد إلى تلمسان فحدّث الطلاب بها إلى وفاته. ومن كبار المحدثين فى نفس القرن عبد الحق الإشبيلى نزيل بجاية المتوفى بها المار ذكره، وله الأحكام الكبرى فى الحديث ست مجلدات والأحكام الصغرى والأحكام الوسطى والجمع بين الصحيحين: صحيح البخارى وصحيح مسلم. وكان يعاصره مواطنه أبو بكر بن سعادة الإشبيلى نزيل تلمسان المتوفى سنة 600 هـ/1204 م ويقول ابن مريم: «كان ضابطا نقادا محدثا عالى الرواية» ومن تلاميذه ابن أبى العيش الخزرجى. ومن محدثى الإباضيين يوسف بن إبراهيم الورجلانى المار ذكره بين المفسرين وله ترتيب مسند الربيع بن حبيب الإباضى البصرى المتوفى سنة 170 هـ/787 م. ومن محدثى القرن السابع أبو زكريا الزواوى استوطن بجاية وتوفى بها سنة 611 هـ/1214 م وكان يقرأ عليه صحيح البخارى إلى وفاته عن سنّ عالية. ومن محدثى هذا القرن فى مدينة الجزائر محمد بن قاسم بن منداس المتوفى بها سنة 643 هـ/1246 م وكان يعكف على تدريس علوم الحديث. وكان يعاصره فى بجاية على بن فتح بن عبد الله المتوفى بها سنة 652 هـ/1255 م واشتهر بسنده العالى لصحيح البخارى الذى أخذه فى رحلته إلى المشرق، إذ أخذه عن أبى محمد بن يونس عن أبى الوقت وروايته إحدى الروايات الأساسية

ص: 99

التى اعتمد عليها اليونينى فى إخراج صحيح البخارى وتحقيق نصوصه، وسمع أبو الوقت روايته عن أبى الحسن الداودى عن ابن حموية عن محمد بن يوسف الفربرى عن الإمام محمد بن إسماعيل البخارى. وهو سند عال لصحيح البخارى، تسامع به الأندلسيون فرحلوا إلى بجاية لأخذ رواية صحيح البخارى عنه لقصور سندهم له عن هذا السند. وكان يعاصره أحمد بن محمد بن السراج الإشبيلى نزيل بجاية المتوفى سنة 657 هـ/1258 م وكانت له فى الحديث رواية عالية. وكان يعاصرهما حسن بن على بن قنفذ محدث بلده: قسنطينة المتوفى بها سنة 664 هـ/1265 م. وتوفى بمطلع القرن الثامن المحدث الفقيه قاضى الجماعة ببجاية أحمد بن محمد الغبرينى صاحب كتاب عنوان الدراية فى علماء بجاية.

ومن محدثى القرن الثامن الهجرى محمد بن يحيى الباهلى البجائى المتوفى سنة 744 ومحمد بن أحمد بن مرزوق الخطيب التلمسانى المتوفى سنة 780 هـ/1378 م ويقول ابن قنفذ فى كتابه الوفيات: كان له طريق واضح فى الحديث وأسمعنا حديث البخارى وغيره، وله شرح جليل على كتاب عمدة الأحكام فى الحديث، وأيضا شرح على كتاب الشفاء للقاضى عياض. وفى سنة 784 هـ توفى محدث قسنطينة وقاضيها حسن بن ميمون بن باديس. ومن كبار المحدثين فى القرن التاسع الهجرى محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن مرزوق الملقب بالحفيد إشارة إلى أنه حفيد ابن مرزوق الخطيب، الحافظ المحدث الثقة جامع أشتات العلوم الشرعية والعقلية، وكان لا يترك علما عقليا ولا نقليا إلا ألف فيه، فهو يؤلف فى المنطق كما مر بنا وفى النحو وفى الفقه وينظم فى علوم الحديث أرجوزتين كبرى باسم الروضة وصغرى باسم الحديقة ويدرس للطلاب الصحيحين: صحيح البخارى وصحيح مسلم وجامع الترمذى وسنن أبى داود وعمدة الأحكام فى الحديث سوى الأمهات فى الفقه المالكى والنحو والعربية والبلاغة. وكان يعاصره أحمد بن زاغو المتوفى سنة 845 هـ/1442 م وله شرح على صحيح البخارى وشرح على صحيح مسلم. ونلتقى بأخرة من هذا القرن بالإمام محمد السنوسى، وله مختصر لشرح الأبّى على مسلم، وشرح خصه بمشكلات البخارى ومختصر لشرح الزركشى عليه. ونلتقى فى العهد العثمانى بأسماء علماء كثيرين يدرسون للطلاب بعض أمهات كتب الحديث وخاصة صحيح البخارى، وكانت تقام المهرجانات لختمه فى رمضان. وكان ابن أبى جمرة قد عنى بوضع مختصر لصحيح البخارى فشرحه عبد القادر المجاجى. ويضع بأخرة من العصر عبد العزيز الثمينى الإباضى مختصرا لحاشية مسند الربيع بن حبيب فى ثلاثة أجزاء، ويضع معاصره أحمد بن عمار حاشية على صحيح البخارى.

ومنذ الفتح الإسلامى يتجرد كثيرون من الجيوش الفاتحة لنشر الإسلام فى الجزائر وغيرها من البلاد المغربية وتعليم أهلها الشريعة الإسلامية وتحفيظهم القرآن الكريم. ومرّ بنا فى هذا

ص: 100

الفصل كيف أن موسى بن نصير (86 - 96 هـ) ظل خلال مسيرة جيشه حتى المحيط يترك فى كل بلد مغربى فى الجزائر وغير الجزائر معلمين يحفظون أهله القرآن ويقفونهم على تعاليم الإسلام وعلى قواعد العربية. ويظل معلمون قائمين بذلك طوال القرن الأول الهجرى، وكان عمر بن عبد العزيز فى آخر هذا القرن قد أرسل إلى القيروان عشرة من الفقهاء ليعلموا الناس فروض الشريعة، ومنذ هذا الحين أخذت تزدهر فى القيروان-عاصمة المغرب جميعه حينذاك- الدراسات الفقهية، وأخذ كثيرون من أهل الجزائر يؤمونها ليحسنوا معرفة الفقه ويبثوها فى بلدانهم، وكان منهم-من يقتدى بشباب القيروان فيرحل إلى المشرق للنهل من حلقات فقهائه الكبار فى الحجاز والعراق وخاصة حلقة الإمام مالك بن أنس (93 - 179 هـ). ومن أوائل الجزائريين الراحلين إلى المدينة للاستماع إليه والتلمذة عليه أبو القاسم عبد الله الزواوى. ونلتقى مع أواخر القرن الثانى وأوائل الثالث للهجرة بفقيه جزائرى هو إبراهيم الطبنى الذى كان يشارك أسد بن الفرات فى القضاء.

وكانت الدولة الرستمية الإباضية قد نشأت منذ أواسط القرن الثانى وتولى أمورها الإمام عبد الوهاب، وهو من أوائل الفقهاء الإباضيين إذ ينسب إليه الأستاذ دبوز فى تاريخ المغرب الكبير كتابا يجمع فتاويه الشرعية لأتباعه يسمى نوازل نفوسة. واشتهر قضاة مالكية فى أواسط القرن الثالث ولاّهم سحنون فى بعض مدن الجزائر حين أصبح قاضى القيروان: عاصمة الإقليم التونسى وشرقى الجزائر حينذاك منهم حمدون قاضى طبنة وعلى بن منصور قاضى ميلة ويحيى بن خالد السهمى قاضى الزاب، وكانوا جميعا يعنون بنشر الفقه المالكى الذى درسوه على أستاذهم سحنون. ومن الفقهاء الجزائريين فى النصف الثانى من القرن الثالث الهجرى عبد الملك بن سيانح أستاذ فضل بن سلمة البجائى المتوفى سنة 319 هـ/932 م وكان من أعرف الفقهاء باختلاف أصحاب مالك، وكان يرحل إليه للسّماع منه، أقرأ-ودرّس-بالمسجد الجامع فى بجاية، وله مختصر لمدوّنة سحنون فقيه القيروان ومختصر ثان لكتاب الواضحة لعبد الملك بن حبيب فقيه قرطبة المعاصر لسحنون والمتوفى سنة 238 هـ/852 م وقد زاد فيه من فقهه كثيرا، وله مختصر ثالث لكتاب الفقيه المالكى المصرى ابن المواز. ونلتقى فى القرن الخامس بمروان بن على نزيل بونة (عنابة) المتوفى قبل سنة 440 هـ/1048 م وله شرح على الموطأ لمالك نوّه به ابن فرحون.

وفى نفس القرن الخامس يلمع بين الإباضيين فقيه يسمى أحمد بن محمد بن بكر ولد لأبيه القادم إلى وادى ميزاب من جبل نفوسة بليبيا. ويقال إن أباه هو الذى أسس هيئة العزابة فى بلدان قرى ومدن ميزاب، ويقال بل مؤسسها هناك ابنه أحمد المذكور المتوفى سنة 504 هـ/1111 م كما يذكر معمر فى كتابه الإباضية فى موكب التاريخ، وهى هيئة دينية عليا تشرف على جميع شئون المجتمع الإباضى فى كل مدينة وقرية ومنها يختار شيخ البلد والمفتى

ص: 101

وناظر الأوقاف ومؤدّب الناشئة والمؤذن والإمام. وكان أحمد فقيها وله من المصنفات كتاب أحكام الحرب وكتاب القسمة وكتاب أصول الأرضين فى كل ما يتصل بها من شئون الملكية والاستثمار والضرائب وهو فى ستة أجزاء، وله أيضا كتاب الألواح وكتاب تبين أفعال العباد.

ومن كبار فقهاء المالكية فى القرن السادس أبو الحسن على بن عبد الرحمن بن أبى قنون المتوفى سنة 557 هـ/1162 م وله المقتضب الأشفى فى اختصار المستصفى للغزالى. ومن فقهاء الظاهرية عبد الله بن جبل الوهرانى الظاهرى المذهب قاضى عبد المؤمن مؤسس دولة الموحدين. ومنهم ميمون بن جبارة المتوفى سنة 584 هـ/1189 م قاضى بجاية، وكان الطلاب يقرءون عليه معيار المعالم والمقاصد للغزالى، ومنهم محمد بن على بن مروان بن جبل قاضى الناصر الموحدى المتوفى سنة 601 هـ/1204 م.

ومن فقهاء الإباضية فى هذا القرن يوسف بن إبراهيم الورجلانى المتوفى سنة 570 هـ/1174 م، وهو تلميذ أحمد بن محمد بن بكر السابق ذكره بين المفسرين-المحدثين، وله كتاب العدل فى أصول الفقه فى ثلاثة أجزاء وكتاب مرج البحرين. ومن كبار فقهاء المالكية فى القرن السابع الهجرى أبو زكريا الزواوى البجائى المتوفى سنة 611 هـ/1215 م ومنهم محمد بن عبد الحق التلمسانى المتوفى سنة 625 هـ/1228 م وله فى الفقه: المختار فى الجمع بين المنتقى للباجى والاستذكار، وكتاب غريب الموطأ، ومنهم أبو الحسن على المشهور بابن الزيات مستوطن بجاية، وكان الطلاب يقرءون عليه تهذيب مدوّنة سحنون وكتاب التلقين لعبد الوهاب إمام المالكية وكتاب التفريع لابن الجلاب وكتاب الرسالة لابن أبى زيد. ومنهم إبراهيم بن أبى بكر التلمسانى المتوفى بأخرة من سنة 697 هـ/1297 م وكان فقيها نابها، وله فى الفرائض أرجوزة لقّبت بلقب «التلمسانية» وهى ضابطة للفرائض محكمة عجيبة الوضع كما يقول ابن فرحون، وشرحها غير فقيه جزائرى مثل ابن زاغو والحباك.

ومن فقهاء بجاية المهمين أبو على ناصر الدين الزواوى وهو الذى جلب إلى بجاية والمغرب مختصر ابن الحاجب فى الفقه المالكى آخر المائة السابعة ومن هذا التاريخ عكف عليه أهل بجاية والمغرب يدرسونه ويشرحونه. ومن كبار الفقهاء فى القرن الثامن الهجرى أبو زيد بن الإمام المتوفى سنة 743 هـ/1343 م وأبو موسى بن الإمام المتوفى سنة 749 هـ/1349 م نزلا تلمسان أيام أبى حمو موسى الأول (701 - 718 هـ) فبنى لهما المدرسة المعروفة باسم مدرسة أبناء الإمام كما مر، وكان يعاصرهما عمران المشدالى المتوفى سنة 745 هـ/1345 م ويقول يحيى بن خلدون:«لم يكن فى معاصريه أحد مثله علما بمذهب مالك وحفظا لأقوال الصحابة وعرفانا بنوازل الأحكام وصوابا فى الفتيا» وفى كتاب تعريف الخلف برجال السلف مناظرة بينه وبين أبى زيد الإمام موضوعها الفقيه المصرى عبد الرحمن بن القاسم الذى حمل عنه سحنون المدوّنة المنسوبة إليه خطأ وهى من إملاء أستاذه عبد الرحمن.

ص: 102

وقد تناظر الفقيهان فى عبد الرحمن بن القاسم هل هو مقلد أو هو مجتهد. وقال عمران إنه مجتهد اجتهادا مطلقا بدليل مخالفته لمالك فى كثير من المسائل. ونلتقى فى القرن الثامن بالإمام العالم الفذ فارس المعقول والمنقول محمد بن أحمد الشريف الحسنى التلمسانى المتوفى سنة 771 هـ/1370 م ومرّ ذكره فى علوم الأوائل وبين المفسرين وإليه انتهت إمامة المذهب الفقهى المالكى فى عصره، وكان مع علمه الواسع بالفقه عالما بأصوله، ومن مصنفاته مفتاح الوصول فى بناء الفروع على الأصول طبّق فيه الأصول على مسائل الفقه، ويقول ابن خلدون إنه ملأ المغرب معارف وتلاميذ. ومن فقهاء هذا القرن عبد الرحمن الوغليسى المتوفى سنة 786 هـ/1385 م شيخ العلماء فى بجاية وعالمها ومفتيها، وله «الجامعة فى الأحكام الفقهية على مذهب الإمام مالك، وتسمى: «الوغليسية» نسبة إليه.

ومن كبار فقهاء القرن التاسع الهجرى أحمد بن حسن المشهور باسم ابن قنفذ قاضى قسنطينة المتوفى سنة 809 هـ/1406 م، وله شرح على رسالة ابن أبى زيد فى الفقه المالكى وشرح ثان على كتاب التفريع لابن الجلاب المالكى وشرح ثالث على الأرجوزة التلمسانية باسم معونة الرائض فى مبادئ الفرائض. ومن فقهاء القرن الكبار محمد بن مرزوق الحفيد المار ذكره فى علوم الأوائل وبين العروضيين والبلاغيين والمحدثين، وله: شرح على باب الطهارة بمختصر خليل بن إسحاق الفقيه المصرى المتوفى سنة 749 هـ/1348. ومنذ ألف خليل هذا الكتاب الموجز وشروحه تتكاثر فى الجزائر كما تتكاثر شروح مختصر ابن الحاجب الفقيه المصرى المالكى المتوفى قبله بنحو قرن. ومن الفقهاء أحمد بن زاغو التلمسانى المتوفى سنة 845 هـ/1441 م، ومن تآليفه شرح التلمسانية فى الفرائض.

ونلتقى بعبد الرحمن الثعالبى كبير المفسرين فى العصر، ومن مصنفاته الفقهية شرح ابن الحاجب الفرعى فى سفرين، وجواهر المدوّنة وعيون مسائلها فى سفرين، وجامع الأمهات فى أحكام العبادات. ويلقانا بعده تلميذه وتلميذ ابن زاغو الفقيه يحيى المازونى المتوفى سنة 883 هـ/1479 م وله الدرر المكنونة فى نوازل مازونة، جمع فيه فتاوى الفقهاء المتأخرين من أهل تونس وبجاية والجزائر وتلمسان وغيرهم فى سفرين. ونلتقى فى أواخر القرن التاسع الهجرى وأوائل العاشر بالفقيه أحمد بن يحيى الونشريسى المتوفى سنة 914 هـ/1508 م حامل لواء المذهب المالكى فى أيامه، وكان يدرس لطلابه مدونة ابن سحنون وابن الحاجب الفرعى ومن مؤلفاته: تعليق على ابن الحاجب الفرعى والقواعد فى الفقه والفروق، وأهم مؤلفاته المعيار المعرب عن فتاوى علماء إفريقية والأندلس والمغرب فى ستة أسفار، وهو موزع على أبواب الفقه فى العبادات والمعاملات والأحوال الشخصية.

ونمضى إلى العهد العثمانى فى الجزائر وكان سلاطين آل عثمان يرسلون مع ولاتهم قضاة

ص: 103

أحنافا، وعادة كانوا يعودون مع الولاة بعد حكمهم نحو سنتين، ويأتى الوالى الذى خلفه ومعه قاض جديد، وبعد عدة أجيال كان يدرس لهم الفقه الحنفى فى بعض المدارس والجوامع أخذ ينشأ فى الجزائر علماء أحناف من أبناء العثمانيين المولودين فيها. وأخذ الولاة يولون منهم القضاة دون حاجة إلى جلب قضاة من العاصمة: إستانبول، وأول قاض حنفى جزائرى هو الحسين بن رجب الذى تولى القضاء سنة 1102 هـ/1691 م وكان القاضى الحنفى يسمى المفتى وشيخ الإسلام ودائما كان بجواره فى المدن قاض مالكى، إذ كانت جماهير الشعب مالكية، وله بدوره حق الفتوى، وإذا اختلف مع القاضى الحنفى عقد لهما مجلس من العلماء للمناظرة ومن انتصر منهما أخذ بفتواه وقد يعزلان معا ويولّى غيرهما.

وعلى الرغم من كثرة الدروس فى المذهب الحنفى لم ينشط أصحابه فى التأليف إذ ظلوا طويلا يمكثون سنتين فى الجزائر ويعودون إلى استانبول فلم تهيّأ لهم الفرصة حينئذ للتأليف طوال القرن الحادى عشر الهجرى إنما تهيأ ذلك حين أصبح القضاة يختارون من أبناء العثمانيين الجزائريين، ويوضح ثبت فى كتاب تعريف الخلف برجال السلف مدد توليهم فى القرن الثانى عشر الهجرى وكيف كانت تتوارث وظيفة القضاء الحنفى بعض الأسر مثل أسرة العنابى ولها نشاط محمود فى التأليف، وعلى شاكلتهم عبد القادر الراشدى القاضى الحنفى فى أوائل القرن الثانى عشر ولكنه عنى بمباحث علم الكلام. أما الفقه المالكى فظل التأليف بالعهد العثمانى متصلا فيه وخاصة فى وضع الشروح والحواشى ونظم المتون، ولمصطفى الرماصى المتوفى فى أوائل القرن الثانى عشر حاشية على شرح لمختصر خليل بن إسحاق، ونظمه أحمد البونى المتوفى سنة 1139 هـ/1727 م تيسيرا لحفظه على الناشئة، ولعبد الرحمن الأخضرى صاحب متن السلم فى المنطق مختصر فى العبادات شرحه عبد الكريم الفكون (الحفيد) المتوفى سنة 1173 هـ/1760 م ولعبد الرحمن البيدرى التلمسانى ياقوتة الحواشى على شرح الإمام الخراشى لمختصر خليل فى أربعة أسفار فرغ منه سنة 1179 هـ/1766 م ونظم المختصر خليفة بن حسن القمارى فقيه بسكرة وفرغ من نظمه سنة 1192 هـ/1779 م.

ومن كبار فقهاء الإباضية فى العهد العثمانى عبد العزيز الثمينى المتوفى سنة 1223 هـ/1808 م وله كتاب النيل فى ثلاثة أجزاء وهو مرجع أساسى فى الفقه الإباضى وفروعه فى العبادات والمعاملات، وهو يقوم عند الإباضيين مقام مختصر خليل بن إسحاق المصرى فى الفقه المالكى وشروحه وحواشيه. وأكمله بكتابه: الورد البسام فى رياض الأحكام، وله مختصر المنهاج فى علوم الشريعة فى أربعة أجزاء وكتاب الألواح فى الفقه وكتاب التاج فى حقوق الأزواج وفيه يعرض الحقوق الزوجية وقضايا الأسرة إلى غير ذلك من كتب فى المنطق وعلم الكلام وأصول الدين.

ص: 104

ومرّ بنا فى القسم الخاص بالإقليم التونسى وما كان يتبعه من شرقى الجزائر أن كل ما كان يتحاور فيه علماء الكلام من مرجئة وجبرية ومعتزلة انتقل هناك مبكرا، وكان المعتزلة قد انضموا قديما فى البصرة إلى جيش إبراهيم بن عبد الله الحسنى فى حربه لأبى جعفر المنصور الخليفة العباسى سنة 145 ولم يكتب له الظفر بل دارت عليه وعلى أخيه محمد النفس الزكية فى المدينة الدوائر، وأخذ المنصور يتعقب أبناء الأسرة هو وخلفاؤه، فهرب إدريس أخوهما إلى المغرب، وغلب على مدينة فاس وأنحائها وأسس هناك دولة الأدارسة. وكان دعاة واصل بن عطاء رأس المعتزلة وصلوا إلى هذه الأنحاء وأصبح لهم فى كورتى طنجة والبيضاء أتباع كثيرون، فوضعوا أيديهم فى أيدى إدريس، وأعانوه فى تأسيس دولته كما أعان-من قبل-معتزلة البصرة أخاه إبراهيم فى ثورته على المنصور، ونراهم يتكاثرون فى شمال الجزائر الغربى لعهد عبد الوهاب أمير الدولة الرستمية (171 - 211 هـ)، وعقدت مناظرات طويلة بينهم وبين علماء دولته الإباضية، وأعلن الحرب عليه منهم نحو ثلاثين ألفا ولم يقدّر لهم النصر فهزموا ولم تقم لهم بعد ذلك فى الجزائر قائمة. وطبيعى أنهم كانوا يعتنقون مبادئ المعتزلة الخمسة المشهورة، وهى التوحيد بمعنى تنزيه الله عن التشبيه بالمخلوقين فهو ليس جسما ولا ما يشبه الجسم، والعدل مما يترتب عليه نفى سيطرة القدر على إرادة الإنسان حتى يكون مسئولا عن أعماله مما يستوجب له الثواب والعقاب، وحتمية وعد الله-جلّ شأنه-بالثواب ووعيده بالعقاب فلا تبدل لهما، مما يترتب عليه عقاب مرتكب الكبيرة إلا إذا تاب وأناب، ونفذوا فى مناقشة الحكم عليه إلى مبدئهم الرابع وهو أن مرتكب الكبيرة فى منزلة بين الكفر والإيمان بينما قال أهل السنة إنه مؤمن فاسق، وقالت الإباضية إنه كافر لكن لا كفر ملّة بل كفر نعمة، والمبدأ الخامس الذى اعتنقته المعتزلة هو الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. ويبدو أن أبا عبيد الله الصنعانى الداعية الإسماعيلى العبيدى كما قضى على الدولة الرستمية فى تاهرت لأواخر القرن الثالث الهجرى قضى أيضا على الدعوة الاعتزالية، فلم نعد نسمع عن جماهير تعتنقها فى الجزائر والمغرب، إنما يلقانا من حين لآخر بعض أفراد من العلماء يعتنقونها.

وكان أبو الحسن القابسى المتوفى بالقيروان سنة 403/ 1012 قد حمل مذهب أبى الحسن الأشعرى الكلامى إلى القيروان وأشاعه فيها وشاع فى الجزائر بعده إلى نهاية هذا العصر، ومذهبه يقوم على التوفيق بين آراء المعتزلة وأهل السنة، فإذا قال أهل السنة بالقضاء والقدر فى أفعال الإنسان وقال المعتزلة بل الإنسان هو الذى يخلق أفعاله قال إنها لله خلقا وتقديرا وللإنسان كسبا وإرادة، وإذا قال أهل السنة القرآن أزلى غير مخلوق وقال المعتزلة إنه محدث مخلوق قال إنه قديم وحادث فألفاظه دلالات على كلام الله الأزلى والدلالات مخلوقة محدثة والمدلولات قديمة أزلية، إلى غير ذلك من آراء مثل تفضيل الأنبياء على الملائكة.

ص: 105

وكان يعاصر الأشعرى الماتريدى السمرقندى المتكلم، ومذهبه مثل مذهب الأشعرى فى التوفيق بين آراء المعتزلة وآراء أهل السنة، ولم يشع مذهبه فى العالم العربى إنما الذى شاع مذهب الأشعرى حتى فى بيئة الماتريدى فى خراسان، ومن أكبر مؤيديه هناك إمام الحرمين الجوينى المتوفى سنة 478 هـ/1085 م الذى رأس المدرسة النظامية فى نيسابور، ويتردد اسم كتابيه البرهان والإرشاد فى أصول الدين فى تراجم عنوان الدراية للغبرينى فى القرنين السادس والسابع وتراجم الكتب التالية. وحاول جزائريون كثيرون أن يكتبوا فى علم الكلام-أو كما يسمى أحيانا علم التوحيد-وخاصة منذ القرن التاسع الهجرى، وكانت تكتب فيه قصائد وتشرح، ولعل أحدا لم تنل أعماله من الشهرة فيه ما ناله الحافظ محمد بن يوسف السنوسى المتوفى سنة 895 هـ/1490 م كما مر بنا فى علوم الأوائل وهو من كبار المفسرين والمحدثين، ويعد كبير علماء الجزائر فى زمنه، وقدم له أحمد بن عبد الله الجزائرى قصيدته فى علم التوحيد المسماة باسم «القصيد فى علم التوحيد» فشرحها وشاعت باسم الجزائرية وأيضا شرح لتلميذه أحمد بن عبد الرحمن الحوضى فى نفس الموضوع أرجوزته: «واسطة السلوك، ثم رأى أن يؤلف فى نفس الموضوع فألف فيه ثلاثة أعمال: العقيدة الكبرى وشرحها، والعقيدة الوسطى وشرحها، ثم العقيدة الصغرى وشرحها.

وهذه الأعمال سيطرت فى مباحث علم الكلام على الدارسين منذ وضعها وطوال العهد العثمانى لا فى الجزائر وحدها بل فى بلدان المغرب والعالم الإسلامى، وقد وضعت على العقيدة الصغرى شروح لا تكاد تحصى، يتقدمها شرح تلميذه محمد بن عمر الملالى وشرح عمر الوزان فى قسنطينة وتلميذه عبد الرحمن الأخضرى صاحب متن السلم فى المنطق وشرح ابن مريم صاحب كتاب البستان المتوفى سنة 1014 هـ/1605 م وشرح سعيد قدورة المتوفى سنة 1066 هـ/1656 م وشرح مصطفى الرماصى فى أوائل القرن الثانى عشر الهجرى وشرح خليفة القمارى بأخرة من هذا القرن إلى غير ذلك من شروح للعقيدة الصغرى، سوى ما وراءها من شروح للعقيدتين الأخريين ومن كتب أخرى فى علم الكلام أو علم التوحيد.

وللإباضيين نشاط واضح فى هذا العلم من قديم، على نحو ما نجد عند عبد الكافى الورجلانى فى القرن الخامس الهجرى، إذ له «الموجز فى علم الكلام» كتاب فى جزءين، ولتلميذه يوسف بن إبراهيم الورجلانى «الدليل والبرهان» فى علم الكلام، ولعمرو بن جميع فيه مختصر باسم «متن عقيدة التوحيد» عنى به علماء الإباضية وشرحوه مرارا، ولعبد العزيز الثمينى كتاب «معالم الدين» فى علم الكلام وأصول الدين.

ص: 106