الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أن هذه المقامة الثالثة تبعد بدورها عن فن المقامة كما رسمه بديع الزمان والحريرى، وكان حريا بابن حمادوش أن لا يسمى تلك الأعمال الثلاثة مقامات. وكأن الجزائر لم تعرف فن المقامة برسومه وتقاليده وخصائصه، ولذلك يكون من الصعب أن يقال إنها شاركت فيه، لأن أديبا سمى عملا له مقامة أو سمّاه له آخرون، بينما هو لا يمت إلى فن المقامة بصلة حقيقية.
5 -
كبار الكتاب
[(أ)] أبو القاسم عبد (1) الرحمن القالمى
أغفلت كتب التراجم الحديث المفصّل عن سيرة هذا الكاتب الفذ الذى تنبّه إليه عبد المؤمن سلطان دولة الموحدين حين استولى على بجاية سنة 547 هـ/1152 م وقضى فيها على الدولة الحمادية، فألحقه بكتّابه كما يقول عبد الواحد المراكشى، ويذكر أنه من ضيعة من أعمالها تعرف بقالم، وكان من كتاب الدولة الحمادية وربما قرأ له عبد المؤمن رسالة عن يحيى بن العزيز آخر ولاة هذه الدولة إليه فأعجب بكتابته، وكان قد استسلم له يحيى وصحبه معه إلى مراكش، فربما هو الذى أشار عليه به. على كل حال صحبه معه عبد المؤمن-كما صحب يحيى-إلى مراكش، وألحقه بكتاب الإنشاء فى ديوانه، وكان يكتب معه فيه أبو جعفر أحمد بن عطية وأخوه أبو عقيل وعبد الملك بن عياش، ولما توفى عبد المؤمن سنة 558 هـ/1162 م وخلفه ابنه يوسف ظل يكتب له مع عبد الملك بن عياش، ويبدو أنه لم يعمر طويلا فى عهده، وأنه ظل فيه سنوات معدودة، إذ لم تؤثر له رسالة عنه دوّنت فى مجموع رسائل موحدية المنشور بالرباط، وكل ما له فيه رسالتان عن عبد المؤمن، يتحدث فى إحداهما عن تنكيله بالنصارى فى ضواحى قرطبة، حين حاولوا الإغارة على الجيش العربى وولوا على وجوههم مدحورين، وفى الثانية يتحدث عن هزيمة الأعراب الهلاليين واستسلام الكثرة من القبائل للموحدين ودخولهم فى طاعتهم، بحيث لم تدخل سنة خمس وخمسين وخمسمائة حتى اندمحوا فى دعوة الموحدين والشعب المغربى بعد أن ظلوا يعيثون فسادا فى ديار المغرب نحو قرن كامل، وهو يستهل الرسالة الثانية بقوله (2):
«من أمير المؤمنين-أيّده الله بنصره، وأمدّه بمعونته-إلى الطلبة والشيوخ والأعيان
(1) انظر فى القالمى كتاب الخريدة 1/ 180 وكتاب المعجب فى تلخيص أخبار المغرب للمراكشى (طبع القاهرة) ص 266، 269، 317 وله فى مجموع رسائل موحدية (طبع الرباط) رسالتان.
(2)
انظر مجموع رسائل موحدية ص 113.
والكافّة من الموحدين من أهل فاس، أعزّهم الله بتقواه، وأدام كرامتهم بحسناه-سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد فالحمد لله الذى تمّم مقاصد أوليائه فيما اعتمدوه من إقامة أمره الواجب، وأناف (1) بأغراضهم المقصورة على مرضاته على مطامح المطالب ومدارك الرغائب. وبلّغهم فى أعدائهم- الذين ولّوا أمر الله-وقد استقبلهم-جانب الإعراض والإدبار، و {بَدَّلُوا (2)} نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَاارِ -أمانىّ الظافر الغالب. ووكّل بهم أيّة ولجوا، وعلى أى مدرج درجوا من النّصر المحالف المصاحب ما يكون لعامّة أكنافهم، وجنبات أوساطهم وأطرافهم، عين المحافظ المراقب. ومكن لهم إنقاذا لمقدوره، وإفاضة لأشعة نوره، أسباب التقلب فى أفياء (3) الأمنة وظلال السكون من جانب إلى جانب، وأحظاهم (4) نعمة منه وفضلا وقد فاءوا (5) بشرف الفتح الجسيم (6)، واحتقاب (7) الحظ العميم، وابتغوا {رِضْاانَ (8)} اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ وجعل أمرهم الذى هو أمره ناظما إلى قيام الساعة بين أطراف المشارق والمغارب. والصلاة على محمد عبده ورسوله الحاشر (9) العاقب (10)، الصادع (11) بنوره الثاقب (12)، لبابة (13) الانتخاب وسلالة الانتجاب من لؤى بن غالب، المنبعث لتتميم مكارم الأخلاق بما خصّه من الضرائب (14) المقدسة والمناقب، وعلى آله وصحبه أولى العزم العاكف الدائب، والجدّ الثابت اللازب (15) والأثرة (المنزلة) المشتملة على شرف المناسب، وزلف المناصب. وأسأل الله الرضا عن الإمام المعصوم، المهدىّ المعلوم، القائم بأمر الله وقد التفّت حجب الغياهب، وتفرّقت سبل المذاهب، وخبط من ليل الحيرة فى حيث لا منقذ لجاء ولا مخلّص لذاهب، فهدى الله بهداه إلى الواضح اللاحب (16)، وأنقذ به من هوة العاثر وشفا العاطب».
وهذه فاتحة الرسالة وهو يطيل فى تحميدها وشكر الله على ما أتاح للموحدين من نصر عظيم، وكأنه يجعل ذلك استهلالا وإرهاصا لموضوع الرسالة، وهو هزيمة العرب الهلالية هزيمة ساحقة. ولا نكاد نقرأ فى التحميد حتى نلاحظ طول السجعة البائية التى بناها عليها، بل لقد بنى عليها سجعات المقدمة جميعها فى التحميد والصلاة على الرسول الكريم والدعاء
(1) أناف: أشرف.
(2)
الآية رقم 28 فى سورة إبراهيم.
(3)
أفياء: ظلال.
(4)
أحظاهم: أتاح لهم حظوة.
(5)
فاءوا: رجعوا.
(6)
الجسيم: العظيم.
(7)
احتقاب: ادخار.
(8)
الآية 174 فى آل عمران.
(9)
الحاشر: اسم من أسماء الرسول ومعناه الحاشد.
(10)
العاقب: اسم من أسماء الرسول ومعناه خاتم الرسل
(11)
الصادع: مبلغ الرسالة.
(12)
الثاقب: المصيب.
(13)
لبابة: خلاصة.
(14)
الضرائب: الطبائع والشمائل.
(15)
اللازب: المتماسك.
(16)
اللاحب: البيّن.
لابن تومرت مهدى الموحدين. وهذا الطول فى السجعات قصد إليه قصدا، لكى يضمّن كل سجعة فى داخلها سجعتين أو أكثر. وهو يبتدئ ذلك منذ السجعة الثالثة:«وبلّغهم فى أعدائهم الذين ولوا أمر الله وقد استقبلهم جانب الإعراض والإدبار، و (بدّلوا نعمة الله كفرا وأحلّوا قومهم دار البوار) أمانىّ الظافر الغالب. والسجعة بائية وفى داخلها سجعتان رائيتان حتى تتشابك الكلمات فى داخلها وتتعانق، فيتم بذلك تناسق صوتى بديع. وهو تناسق تضيئه آية قرآنية وتزينه وتضيف إليه روعة. وتليها هذه السجعة: وو كلّ بهم أيّة ولجوا وعلى أى مدرج درجوا، من النصر المحالف المصاحب، ما يكون لعامة أكنافهم، وجنبات أوساطهم وأطرافهم، عين المحافظ المراقب» . وفى داخل السجعة البائية سجعة جيمية فى أولها ثم سجعة ميمية، وكأن الكلمات داخل السجعة تريد أن تتعانق عن طريق هذه الإرنانات المتلاحقة. وتكثر بجانب ذلك الصور والاستعارات، ويكثر تلاحم الألفاظ لدقة انتخابها واختيارها مما يدل على أن القالمى كان كاتبا بارعا حقا.
والرسالة طويلة، غير أنها-بجانب بلاغتها-ذات أهمية تاريخية فإن القالمى يذكر أنه لم يعد للقبيل الرياحى من بنى هلال المستولى على أنحاء كثيرة فى الجزائر ذكر يسمع ولا حديث يرفع، ولا أثر يتقصّى ويتتبّع، إذ لحقوا بقبيل العدم وأصبحوا كهشيم ألهبته نفحة ضرم (شرر) ولم يجدوا إلى مستخلص سبيلا ويتمثل بالذكر الحكيم:(أينما ثقفوا أخذوا وقتّلوا تقتيلا) إلا ما كان من قبيلة بنى محمد الرياحية، إذ ألقوا بمقاليد الانقياد، وانخرطوا فى سلك أهل التوحيد بجميع الأنفس والأموال والأولاد، وربطوا أنفسهم مدى أعمارهم على مضافرة (1) الغزو ومصابرة الجهاد. وأما قبيلة جشم فهم بمحلات أهل التوحيد معسكرون وعلى أعدل طريق المطاوعة والمتابعة مستمرون، وهم عدد لا يحمله إلا البساط الفيّاح (2)، وكل من هذين الحيّين: الجشمى والفخذ المحمّدى الرّياحى عزم-وعزم به-على أن تختطّ إن شاء الله بالمغرب دارهم، ويبوّأ هنا لك قرارهم ويقصر على خدمة هذا الأمر العزيز (يقصد دعوة الموحدين) جوارهم. فالحيان الأعرابيان الكبيران: فخذ بنى محمد الرياحى الهلالى وفخذ جشم سيختط لهما منازل فى الديار المغربية يكون فيها مستقرهم. وأما قبائل الأثبج وزغية فيقول القالمى عنهم إن أعيانهم وصلوا مراكش عاصمة الموحدين يمدون يد الاستتابة، ويطلقون ألسنة الإنابة والعودة إلى الطاعة. يقول القالمى:«وعلى الجملة فقد أظهر الله تعالى من بركة هذه الحركة الميمونة السعيدة ما لم يكن ينشأ بسماء الوهم والإحساس، ولا يجرى على أساليب القياس» . فإن من درس القرن السابق لتلك الحركة وتسلط الأعراب فيه على المغرب الأوسط وتونس يظن أنهم لن يغلبوا على ما فى أيديهم، حتى كانت هذه الحركة لعبد المؤمن بعد أن
(1) مضافرة: معاونة.
(2)
الفياح: المنداح، الواسع.