الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل السادس
النثر وكتّابه
1 -
الخطب والمواعظ
طبيعى أن تكثر الخطب والمواعظ فى المغرب الأقصى كثرتها فى بلدان العالم الإسلامى جميعا، إذ كانت تكرّر فى كل مسجد أسبوعيا فى صلاة الجمعة وبالمثل فى صلاة العيدين، وربما كانت كثرة تكرارها هى السبب فى أنه لم يتجرد أحد من القدماء لتدوينها تدوينا عاما، ومع ذلك فقد أثرت بعض خطب قالها بعض الحكام أو بعض كبار الوعّاظ. ومن أوائل ما نلتقى به منها خطبة إدريس الثانى فى دولة الأدارسة سنة 193 هـ/808 م حين فرغ من بناء مدينة فاس وحضر صلاة الجمعة فقد صعد المنبر وخطب الناس الخطبة الأولى قائلا (1):
وهذه الخطبة المأثورة عن إدريس الثانى إنما هى قطعة من خطبته، وفيها يعلن أنه لم يبن فاسا مباهاة ولا ابتغاء لشهرة، إنما بناها ابتغاء لوجه الله وثوابه حتى يعبد فيها ويتلى كتابه وتقام حدوده وسنة رسوله الكريم، وتحققت سريعا نيّته، فقد أقامها مدينتين متقابلتين: مدينة القرويين من أهل المغرب ومدينة الأندلسيين الذين لجئوا إليه زمن الحكم الربضى فى الأندلس وثورة الفقهاء عليه ونفيه لطائفة كبيرة منهم، فنزلت كثرتهم المدينة الغربية ولم يلبث أن شيّد فى مدينة القرويين الجامع المشهور باسمها: جامع القرويين وأصبح أقدم جامع فى إفريقيا للدراسات الدينية إذ بنى الجامع الأزهر بعده بنحو مائة عام. وازدهرت فى جامع فاس هذه الدراسات الدينية إذ بنى الجامع الأزهر بعده بنحو مائة عام. وازدهرت فى جامع فاس هذه الدراسات حتى العصر الحديث. ودعا إدريس لسكان فاس دعوات كريمة. أن يوفق الله أهلها للخير ويمدهم بعونه ويكفيهم مئونة أعدائهم، ويوفّر الرزق لهم ويقيهم الفتنة والشقاق.
(1) النبوغ المغربى 2/ 33.
وكان حكمه حكما عادلا رشيدا. وهدم يوسف بن تاشفين أمير المرابطين ما كان بين مدينتى فاس من أسوار وجعلهما مدينة واحدة، وأقام على النهر الفاصل بينهما جسورا يمكن الانتقال من إحداها إلى الأخرى بسهولة.
ومرّ بنا فى نشأة دولة المرابطين أن أصلهم من قبيلة صنهاجة التى كانت تشغل الصحراء جنوبى المغرب وبعض بقاع إفريقيا المدارية السوداء حتى السنغال، وكانوا يعيشون معيشة بدوية واتخذوا اللثام على وجوههم شعارا لهم، ولذلك يسمون الملتمين، ولم يكونوا يعرفون تعاليم الإسلام معرفة قويمة، فجلب لهم رئيسهم يحيى بن إبراهيم الكدالى-كما مرّ بنا-الشيخ عبد الله بن ياسين ليقفهم بدقة على تعاليم الإسلام وسرعان ما أصبح زعيمهم الدينى بجانب يحيى الكدالى الزعيم الحربى، ودفعهم الشيخ ابن ياسين جنوبا لنشر الإسلام وشمالا لجمع كلمة المسلمين فى تلك الأراضى النائية. واستولت صنهاجة بزعامته الدينية على إقليمى سجلماسة والسوس، ودفعها شمالا على المحيط لقتال برغواطة وكانت قد ظلت-منذ الأيام الأولى لدولة الأدارسة-خارجة على الإسلام، وتنبأ فيها متنبئون وآمنوا بهم، واتجهت إليهم جيوش صنهاجة. . وتوفى يحيى الكدالى فخلفه فى القيادة الحربية لصنهاجة أخوه أبو بكر واستطاع استئصال شأفة البرغواطيين سنة 553 غير أن عبد الله بن ياسين طعن طعنة قاتلة فى إحدى المعارك سنة 551 فخطب فى صنهاجة وهو مشرف على الموت، ومما قال فى خطبته، وكان قد سماهم المرابطين أى للجهاد فى سبيل الله ونصرة دينه (1):
وهو يناديهم باسم المرابطين حثا على جهاد برغواطة المارقة، ويقول لهم إنكم تواجهون أعداءكم فاحذروا أن تجبنوا فى حربهم، فيقضوا عليكم القضاء المبرم، وينصحهم أن يتعاونوا على نصرة الحق وأن يكونوا إخوانا فى ذات الله ينشرون دينه الحنيف، كما ينصحهم أن يبتعدوا عن هذا المرض الخبيث: مرض التحاسد على طلب الرياسة، فإنه لم يهلك الدول العربية مرض مثله، ويقول إن الله يؤتى ملكه من يشاء فلا داعى للتحاسد والتباغض. ويقول: لقد انتهيت وذهبت عنكم فاختاروا لكم زعيما عادلا ذا بأس وقوة يقود جيوشكم ويغزو عدوكم ويقسم
(1) النبوغ المغربى 2/ 34.
قسمة عادلة ما تغنمون من عدوكم وتؤدون إليه زكاتكم. وهكذا ظل الشيخ عبد الله بن ياسين ينصح للمرابطين حتى الأنفاس الأخيرة من حياته.
ومر بنا أن محمد بن تومرت المصمودى مؤسس دعوة الموحدين قد اقترض لنفسه من دعوة الشيعة الإمامية التى تعرّف على مبادئها أثناء مقامه بالعراق ثلاثة مبادئ هى أنه إمام ومهدى ومعصوم، واقترض من مبادئ المعتزلة التى تعرف عليها هناك مبدأ الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، ومبدأ التوحيد، وهو عند المعتزلة يعنى نفى التشبيه بالمخلوقات عن الذات العلية نفيا باتّا معارضين بذلك أهل السنة الذين يرون عدم تأويل الآيات القرآنية التى يفهم منها التشبيه مع الإيمان بترك ذلك لله جلّ شأنه. ومن خطية لابن تومرت قوله (1):
وابن تومرت فى هذه القطعة من خطبته يشير إلى مبدأين تعتنقهما جماعته هما المبدئان الاعتزاليان اللذان أشرنا إليهما: مبدأ التوحيد، ويقول إن الله خصّهم من بين أهل العصر بحقيقة توحيده، ويقصد-كما قلنا آنفا-أنه منزّه عن التشبيه بالمخلوقات، ويقول إن الله خصّهم بذلك من بين أهل العصر ويريد المرابطين وفقهاءهم من أهل السنة الذين لا يتأولون آيات التشبيه المذكور فى القرآن الكريم من مثل (يد الله فوق أيديهم) ويقولون علم ذلك عند الله بينما يتأول المعتزلة اليد بمعنى القدرة. والمبدأ الاعتزالى الثانى الذى أشار إليه ابن تومرت هو ما يزعمه دائما من أن خصوم جماعته من المرابطين لا يعرفون معروفا ولا ينكرون منكرا، أما أتباعه الموحدون فهم-فى رأيه دائما-يأمرون بالمعروف وينكرون المنكر، ولا يلبث أن يسميهم -لعدم أخذهم بهذين المبدأين-مارقين عن الدين خارجين عليه، ينبغى حربهم ومحو سلطانهم، ويعد أصحابه بأنهم سيزيلون هذا السلطان ويرثون أرضهم وديارهم.
وكان الموحدون يدعون للأخذ فى الفقه بمذهب داود الظاهرى القائل بإلغاء الإجماع
(1) النبوغ المغربى 2/ 36.
والقياس أو الاجتهاد العقلى فى الأحكام الفقهية والاكتفاء بالكتاب أى القرآن والسنة أى الحديث النبوى. وأخذ بهذا المذهب فى كتبه ابن حزم الفقيه الأندلسى وأخذ به الموحدون كما مرّ بنا فى غير هذا الموضع، وانتصر للموحدين كثيرون من الشعراء والكتاب والفقهاء والخطباء. وللقاضى أبى حفص عمر السلمى خطبة ينتصر فيها للمذهب الظاهرى ضد المذاهب الأخرى، وفيها يقول (1):
وظن بعض من قرأ فى هذه الخطبة كلمة القدماء أنه يريد الفلاسفة وهو إنما يريد الأسلاف من الفقهاء الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، فهو يدعو دعوة الموحدين من إهمال فقههم وفتاويهم جميعا، والرجوع إلى الكتاب والسنة كما يقول الموحدون وأهل الظاهر فى عصره، وهو لا يخفى ذلك بل يعلنه إعلانا، إذ يقول «العلم كتاب الله وسنة محمد صلى الله عليه وسلم» ويقول فى موعظة له (2):«لا علم إلا علم الكتاب والسنة، هما أفضل العطايا والمنة» .
ونلتقى بالمنصور المرينى يعقوب بن عبد الحق 658 هـ/1260 م-685 هـ/1287 م وكان بطلا مغوارا وكأنما نذر نفسه لحرب نصارى الإسبان مساعدة للمسلمين وبنى الأحمر فى إقليم غرناطة. وكان لا يزال يعد العدة من الخيل والسلاح ويعبر الزقاق مع جنوده الأشداء لغزو حصون النصارى بإسبانيا ومدنهم، وكان ما يأخذه منهم يعطيه لبنى الأحمر، أمراء غرناطة فهو لا يحاربهم طلبا لمغنم، وإنما لما عند الله من ثواب المجاهدين فى سبيل دينه ونصرته. وأول سنة عبر فيها الزقاق بجنوده سنة 664 هـ/1266 م وعاد إلى عبوره بجيش كثيف سنة 677 وأبلى فى الحرب حينئذ بلاء عظيما، وبالمثل فى سنة 681 هـ/1282 م واستولى على بعض حصونهم وتركها لبنى الأحمر، وفى سنة 685 هـ/1286 م عبر الزقاق لجهاد النصارى وهزم نونيو جونذالث دى لارا جنوبى قرطبة هزيمة ساحقة. وفى أوبته أدركته المنية بالجزيرة الخضراء، وله من خطبة يحث فيها جيشه على الجهاد (3):
«يا معشر المسلمين وعصابة المجاهدين: إن هذا يوم عظيم، ومشهد جسيم، ألا إن الجنة قد فتحت لكم أبوابها، فخذوا فى طلابها، فإن الله (اشترى من المؤمنين أنفسهم
(1) النبوغ المغربى 2/ 37.
(2)
أزهار الرياض للمقرى 2/ 359.
(3)
النبوغ المغربى 2/ 38.
وأموالهم بأن لهم الجنة) فشمّروا عن ساعد الجدّ، معاشر المسلمين، فى جهاد المشركين. فمن مات منكم مات شريدا، ومن عاش عاش غانما مأجورا حميدا {اِصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاِتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} .
وهى كلمة فصلت من قلب مجاهد صادق أبلى فى سبيل دينه ونصرته بلاء عظيما، ويبشر جيشه بأن الجنة قد فتحت أبوابها لاستقبال الشهداء المبرورين، كما وعد الله عباده المجاهدين المؤمنين، ويدعوهم إلى الجهاد بكل ما يملكون من قوة، فإن من قتل منهم شهيدا فاز برضوان ربه، ومن عاش غنم من العدو غنما كبيرا، وأثابه الله ثوابا عظيما. ويذكرهم بآية كريمة تدعو إلى الصبر فى الحرب والمرابطة للعدو حتى النصر العظيم.
ومما أثر من خطب يوم الجمعة ومواعظها لأبى عبد الله محمد الرّهونى الفقيه المالكى الكبير المتوفى سنة 1230 هـ/1815 م وكان قد اشتغل بالخطابة الدينية والموعظة، وله مجموعة فى خطب الجمعة، ومن خطبة له فى التذكير والترغيب (1):
وواضح أن الرهونى يحسن رصف السجع فى خطبه، ويحاول أن يستتم جرسها بما التزم فى نهاية عباراتها من حرف الراء المضمومة، فهو يريد أن يخلب الأسماع بحسن بيانه وإحكام التقابل فى نهايات الأسجاع، وليس ذلك فحسب، فهو يعنى بلغته فيختار لها ألفاظا رصينة جزلة تحسّن وقعها فى آذان المستمعين. وهو بجانب عنايته باختيار ألفاظه وانتخابها يوفر فيها ألوانا من الطباق المستحسن مثل:«بيّن لكم الرشد من الغى» وقوله: «فاستقدموا ولا تتأخروا» وقوله: «وأسبغت عليكم النعم ظاهرة وباطنة» . ولا ريب فى أن الرهونى كان خطيبا فذا
(1) النبوغ المغربى 2/ 41.
(2)
حصحص الحق: ظهر.