الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثّانى
المجتمع الجزائرى
1 -
عناصر (1) السكان
البربر هم العنصر الأول الذى ملأ بقبائله وشعوبه وبطونه السواحل والسهول والتلال والجبال والهضاب من إقليم الجزائر، مثله فى ذلك مثل بقية أقاليم المغرب، واختلف المؤرخون طويلا فى نسب البربر من الأمم القديمة، فقيل إنهم أخلاط من اليمن فى آسيا، وقيل إنهم من لخم وجذام كانت منازلهم بفلسطين وأخرجهم منها بعض ملوك فارس، فلما وصلوا إلى مصر منعهم ملوكها من المقام بها، فعبروا النيل إلى ديار المغرب وانتشروا فى أرجائها، وقيل إنهم من ولد القبط المصريين، وقيل هم من ولد جالوت ولما قتل رحل بهم إفريقش من ساحل الشام إلى ديار المغرب وأسكنهم إفريقيا، وقيل هم قبائل شتى من حمير اليمنية ومضر العدنانية والقبط والعمالقة والكنعانيين، وقيل إنهم أبناء مازيغ بن كنعان بن حام بن نوح، وكان مازيغ أخا لفلسطين، وبارح أبناؤه الشام إلى ديار المغرب فهم حاميون. ويعلق ابن خلدون على هذه الأقوال فى أنساب البربر وما يماثلها بقوله: إنها «أحاديث خرافة» ، إذ مثل هذه الأمة (البربرية) المشتملة على أمم وعوالم ملأت جانب الأرض لا تكون منتقلة من جانب آخر وقطر محصور، والبربر معروفون فى بلادهم وأقاليمهم متميزون بشعارهم من الأمم منذ الأحقاب المتطاولة قبل الإسلام، فما الذى يحوجنا إلى التعلق بهذه الترهات فى شأن أوليتهم، ولا يحتاج إلى مثله فى كل جيل وأمة من العجم والعرب». ويذكر ابن خلدون أن من النسابين البربر من يزعم فى بعض قبائلهم وشعوبهم أنهم من حمير اليمنية مثل لواته وهوارة وزناتة، ثم يقول: الحق الذى شهدت به الرطانة والعجمة (فى ألسنة البربر) أنهم بمعزل عن العرب». وابن خلدون محق فى قوله إن ذلك كله خرافة وترهات ومزاعم باطلة، ولا حاجة-أى حاجة- للبربر به، إذ هم شعب عريق لا يقل عراقة عن العرب والمصريين والفرس والروم، عاشت
(1) انظر فى تلك العناصر الجزء السادس من تاريخ ابن خلدون ووصف إفريقيا للحسن الوزان والبيان المغرب لابن عذارى والاستقصاء لأخبار دول المغرب الأقصى للسلاوى وتاريخ المغرب الكبير لدبوز والجزء الأول من تاريخ المغرب لرشيد الناضورى وتاريخ المغرب فى القديم والحديث لمبارك الميلى وكتاب الجزائر لأحمد توفيق المدنى وكلمة الجزائر فى دائرة المعارف الإسلامية.
قبائله فى ديار المغرب: جزائر وغير جزائر من عصور سحيقة، وهم لا يمتون إلى الساميين عربا وغير عرب بأى عرق، وأولى أن يعدّوا حاميين إفريقيين، ولعل ذلك ما جعل ابن خلدون يقول عن اقتناع:«والحق الذى لا ينبغى التعويل على غيره فى شأن البربر أنهم من ولد كنعان بن حام بن نوح. . وأن اسم أبيهم مازيغ بن كنعان» ويؤيد رأى ابن خلدون ما ترجحه الدراسات اللغوية المقارنة بين اللغتين البربرية والمصرية القديمة الحامية من أن بينهما تشابها فى النظام الفعلى وفى بعض الصيغ مما يؤكد أن البربر من الحاميين.
وكما أن فى نسب البربر اختلافا فى الآراء كذلك كلمة البربر نفسها، فمن قائل إن البربر هم الذين سموا أنفسهم بهذا الاسم من قديم، ومن قائل إن العرب هم الذين أطلقوا هذا الاسم على سكان البلاد المغربية لعدم فهمهم للغتهم، ومنه قالوا «بربر» الشخص إذا تمتم بالكلام ولم يعرف السامع المراد، ومن قائل إن الكلمة من أصل لاتينى هو بربروس Barbarus وهو من لا يفهم كلامه، وأطلق الرومان الكلمة على شعوب البربر، لأنهم يتكلمون بلغة لا يفهمونها، ولعل هذا القول أكثر الأقوال سدادا، لنزول الرومان فى المغرب من قديم، وعنهم أخذها العرب وأطلقوها على سكان المغرب جميعا.
وما زال البربر بعيدين عن الشعوب القديمة لا يتصلون بها حتى إذا كان القرن العاشر قبل الميلاد-وربما قبله أو بعده بقليل-أخذ الشعب الفينيقى اللبنانى-وكان شعبا يحترف الملاحة-تجوب أسراب منه سواحل البلدان المغربية بحثا عن أماكن صالحة لرسو سفنهم وتبادل السلع مع السكان من البربر، واختاروا قرطاجة فى الإقليم التونسى فنزلوا بها أو قل اختاروا موقعها فأسسوا به أول موطن إفريقى لهم، وأخذوا يبحثون سريعا عن مواطن لهم فى ساحل الجزائر، فاختاروا بونة (عنابة) وجيجل وبجاية وشرشال وإسكيكدة غربيها وأخذوا يختلطون بسكان تلك المدن وينشرون بينهم حضارتهم الفينيقية، ويعلمونهم الزراعة وغراسة الأشجار. ويظنّ أنهم نقلوا إلى الجزائر أشجار الزيتون والنقل والفاكهة، وعلموا الجزائريين أيضا الملاحة والتجارة وكانت قوافلهم تجوب الجنوب وتحمل منه بعض الزنوج، وسمحوا لليهود منذ القرن الثالث قبل الميلاد بالنزول فى مدنهم. وبذلك كانت تعيش فى الجزائر لعهد الفينيقيين عناصر من اليهود والزنوج بالإضافة إليهم وإلى البربر.
وينشب صراع هائل بين قرطاجة وروما وينتهى سنة 146 قبل الميلاد باستيلاء روما على المدن الفينيقية فى الإقليمين الجزائرى والتونسى، ويستوطن هذه المدن كثير من الأسر الرومانية، وتكثر روما من قوافلها إلى الجنوب، وتعود محملة بكثير من الزنوج الذين يستخدمون فى الزراعة والرعى. ومنذ سنة 70 للميلاد يفد على المدن الفينيقية بعض الأسر اليهودية بعد تدمير الإمبراطور تيتوس لمعبد بيت المقدس. وتستولى جموع الوندال الألمان من روما على الإقليمين
الجزائرى والتونسى فى سنة 39 - للميلاد، وتظل بها نحو مائة عام إلى أن يخرجهم منها قائد بيزنطى سنة 534 للميلاد، ويخلفهم البيزنطيون وجنودهم وموظفوهم الإغريقيون. ومعنى ذلك أنه كان يعيش فى الجزائر بالقرن السادس الميلادى سبع سلالات: سلالة أساسية من البربر أصحاب البلاد ثم سلالات من الفينيقيين والزنوج واليهود والرومان والوندال الألمان واليونان.
ويقتحم العرب أسوار الجزائر حاملين مشاعل الدين الحنيف، وتظل تقتحمها جيوش عربية لإكمال الفتح وللقضاء على ما ينشب بها من ثورات طوال القرن الأول الهجرى، وتستجيب الجزائر لدعاة الدين الحنيف ولولاتها العظام فى هذا القرن الذين سوّوا فيه بمنتهى العدل بين الجنود المسلمين الفاتحين وبين من يسلم من البربر فى جميع الحقوق والواجبات: فى الضرائب وفى دخول الجيش والجهاد. ويتولى المغرب مع فواتح القرن الثانى الهجرى ولاة طغاة بغاة أخذوا يحرمون البربر من حقوقهم التى شرعها الإسلام، مما جعل بعض البربر يعتنقون مذهبى الإباضية والصفرية اللذين يريان التسوية المطلقة بين البربر والعرب فى الخراج وغير الخراج وحتى فى الخلافة فلا يصح أن تقصر على قريش وحدها، وهبّت ثورات متعاقبة منذ سنة 122 هـ/739 م يقوم بها أتباع الصفرية أو أتباع الإياضية حتى عهد يزيد بن حاتم المهلبى (154 - 170 هـ). وإنما نذكر ذلك لندل على أن الجيوش العربية ظلت تقدم إلى الجزائر منذ الفتح، وكان كثير من جنودها جميعا يقيمون فى الجزائر وغيرها من الأقاليم المغربية، ولم يكونوا جميعا عربا بل كان بينهم كثيرون من أهل الرافدين والشام ومصر وإيران، ومن كل هذه العناصر استقرت سلالات فى الجزائر وعاشت مع أهلها وامتزجت بهم امتزاجا سريعا بحكم ما يجمع بين الجانبين من الدين واللغة. وأخذ ينزل فى المدن الساحلية بعض المسيحيين واليهود لما رأوا فى الإسلام وأصحابه من المعاملة السمحة.
وحول منتصف القرن الخامس الهجرى تحدث هجرة قبيلتى بنى هلال وسليم إلى الإقليمين التونسى والجزائرى انتقاما من المعز بن باديس حين وقف الدعوة العبيدية الفاطمية وخلع طاعة الخليفة وانضوى تحت لواء الخليفة العباسى، وكان آباء هاتين القبيلتين قد وضعوا أيديهم فى أيدى القرامطة ضد الدولة الفاطمية، فلما استسلموا لها أنزلتهم فى القفار بين النيل والبحر الأحمر، ورأى وزير خبيث للمستنصر أن يستخدمهم ضد المعز بن باديس ووعدهم بامتلاك دياره، فانقضّوا عليها واكتسحتها سيولهم اكتساحا حول منتصف القرن الخامس، مما اضطره إلى الانسحاب من القيروان إلى المهدية، وتدافعت سيول من هلال وبطونها: أثبج ورياح وعامر ومعقل وعدى، وكذلك من سليم وعشائرها: دياب وزغبة وعوف ومرداس والطرود، وكانوا بدوا رعاة غير متحضرين فمضوا ينهبون ويتلفون الزروع، ورأى صاحب قلعة بنى
حماد أن يترك لهم الريف. وبدون ريب أحدثت هذه الهجرة الأعرابية كثيرا من الاضطراب فى الجزائر، غير أنها أفادتها فائدة كبرى إذ أكملت تعريبها وكانت قد أخذت فى التعرب منذ القرن الأول الهجرى واستيطان كثير من الجنود المسلمين لها، وقد تحولوا ينشرون الإسلام ومبادئ العربية وأخذ ذلك يتسع مع الزمن. غير أن تعرب الجزائريين كان لا يزال محدودا، حتى إذا حدثت هذه الهجرة الأعرابية الكبيرة لمئات الألوف من العرب، إذ لم يلتق بذلك بضعة آلاف من الأعراب بالشعب الجزائرى، بل التقت به مئات الألوف، بل التقى شعبان: الشعب البربرى صاحب الديار والشعب العربى المهاجر، ولم يلبث الشعبان أن اندمجا وأصبحا شعبا واحدا دينه واحد ولغته فى الغالب واحدة، إذ ظل هناك من يحافظون على لغتهم البربرية وخاصة فى أوعار الجبال، ومع ذلك كانوا يستخدمون مع قومهم اللغة التى تكونت فيما بعد، ونقصد العامية المشتقة من العربية. وقد أصبحت الكثرة الكاثرة من الجزائريين عربا فى اللغة والزىّ وعادات المآتم والأفراح، بل لقد أصبحت الجزائر جميعها شعبا عربيا ضخما بفضل هذه الهجرة الأعرابية.
وما نصل إلى سنة 484 هـ/1092 م حتى يستولى النورمان نهائيا على جزيرة صقلية وفى العام التالى يستولون على جزيرة مالطة، وينزح إلى الجزائر وتونس كثير من المسلمين فى الجزيرتين فرارا بدينهم من اضطهاد النورمان، وكانت كثرتهم-إن لم يكن جمهورهم- من أبناء إفريقية التونسية من سلالات الفاتحين للجزيرتين وكان بينهم بعض أبناء الجزيرتين ممن اعتنق آباؤهم الدين الحنيف. ونمضى إلى القرن السابع الهجرى وتسقط بلدان أندلسية كثيرة فى حجر نصارى الإسبان الشماليين، وينزح كثيرون من مسلمى الأندلس إلى الجزائر وبلدانها. وإذا كانت الهجرة الأعرابية أفادت الجزائر اكتمالا فى التعرب فإن الوفود المسلمة التى نزحت إليها من الأندلس أفادتها فى الزراعة والصناعات المختلفة: صناعة النسيج وغيره، وأفادتها فوائد كثيرة فى حياتها العلمية والأدبية، إذ نزح إليها كثير من العلماء وشاركوها فى حياتها العلمية كما شاركها فى حياتها الأدبية كثير من أدباء الأندلس الذين هاجروا إليها واتخذوها دارا ومقاما. واتسع نزوح من بقى بالأندلس من المسلمين منذ سنة 1016 هـ/1609 م حين نفى الإسبان من كان لا يزال بالأندلس من المسلمين إلا من أعلن تنصره أو تظاهر بأنه نصرانى وتضاعفت إفادة الجزائر من هؤلاء النازحين-كإخوانهم السالفين-فى العلوم والآداب والزراعة والصناعات وما حملوا من الأندلس إلى الجزائر من مدنيتهم الأندلسية العظيمة. وقد نزح معهم كثيرون من اليهود فرارا من عسف الإسبان وبطشهم.
وكان الولاة فى العهد العثمانى يحيطون أنفسهم بحاميات عسكرية من الانكشارية، ومعروف أنها كانت تتكون من الترك فى الأناضول ومن أجناس شتى من أنحاء الدولة العثمانية ومن