الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ديار السودان من علماء العالم الإسلامى ومن السودانيين الذين درسوا فى الأزهر بالقاهرة وفى مكة والمدينة.
وكانت الطريقة المتبعة لتخريج الطالب إذن شيخه له برواية ما سمعه منه، وقد يكتب إجازة له فى نهاية المصنف الذى أذن له بروايته، وقد يفردها، وكانت هذه الإجازة تقوم مقام الشهادة النهائية التى يظفر بها الطالب فى عصرنا. ويسوق ود ضيف الله صورة إجازة منحها الشيخ على الأجهورى شيخ الإسلام بالقاهرة للشيخ عبد الرحمن بن إبراهيم السودانى كتبها بخطه، ويقول فيها بعد حمد الله والصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم:«قرأ علىّ الشاب الفاضل والنحرير الكامل الشيخ عبد الرحمن بن إبراهيم الكبابى نسبا البربرى بلدا عقيدتى التى ألفتها فى أصول الدين والتصوف وشرحها قراءة جيدة نافعة إن شاء الله، وحضر قراءتى فى مختصر العلامة الشيخ خليل فى فقه المالكية فى نحو نصف الكتاب المذكور قراءة بحث وتحقيق دلت على نباهته وفقهه بالكتاب المذكور. وقد استخرت الله وأجزته بما ذكر وبجميع ما يجوز لى روايته بشرطه سائلا منه أن لا ينسانى من الدعاء بسعادة الدارين. . وكتب فى آخر ذى الحجة ختام سنة ثلاثين بعد الألف» . ويلى ذلك إمضاء الشيخ على بن محمد المدعو بزين بن عبد الرحمن الأجهورى المالكى.
وكان ملوك الفونج ونوابهم فى الولايات كالشيخ عجيب فى العبدلاّب وولاة علوة يغدقون على العلماء. ووثّق الملوك العلاقة بينهم وبين علماء الأزهر بما كانوا يرسلون إليهم من هدايا، واشتهر الملك بادى الأول (1019 هـ/1611 م-1024 هـ/1616) بكثرة ما كان يرسله إليهم من هدايا مع سفيره أحمد علوان، وأهدوه بدورهم قصائد مديح متعددة، أنشد منها نعوم شقير فى الجزء الثانى من كتابه «تاريخ السودان القديم والحديث» قصيدة للشيخ عمر المغربى. وكان الشيخ عجيب شديد العناية بالعلماء فى إمارته، وتشجيعا لطلاب مشيخته وطلاب دولة الفونج والسودانيين عامة حبّب إليهم أن يرحلوا فى طلب العلم إلى الأزهر، وبنى لهم فيه رواقا بجانب رواق الشام ورواق المغاربة، وبنى لهم رواقا آخر فى المدينة لينزلوا فيه ويأخذوا العلم عن الشيوخ هناك.
(ج) سودانيون أزهريون وعلماء مصريون
تخرج فى الأزهر لعهد دولة الفونج سودانيون كثيرون، ومن أعلامهم الشيخ محمود العركى فى سنار العاصمة، وكان قد رحل إلى مصر واختلف إلى شيوخ الأزهر وخاصة الشيخ شمس الدين اللقانى إمام المالكية المتوفى بالقاهرة سنة 935 وعمل بعد عودته على نشر المذهب المالكى فى دولة الفونج، ويقول ود ضيف الله إنه اول من نشر علوم الدين فى أنحاء النيل الأبيض إذ لم يجد فيها مدرسة علم ولا قرآن. وكان الرجل يطلق زوجته ويتزوجها غيره فى
نفس اليوم بدون العدّة الشرعية، فأبطل تلك العادة المحرمة، وحمل الناس على حكم الشريعة وأن تنتظر المطلقة قبل زواجها الثانى حتى توفّى عدّتها. وأنشأ الخلاوى لتحفيظ القرآن الكريم وتدريس علوم الدين، وبذلك أشبهت الخلوة عنده مدرسة، وكان له ما بين الخرطوم وأليس الكوة خمس عشرة خلوة أو مدرسة.
وممن تخرج فى الأزهر أولاد جابر الأربعة: إبراهيم وعبد الرحمن وإسماعيل وعبد الرحيم، درسوا على الشيخ المالكى البنوفرى تلميذ عبد الرحمن الأجهورى، وهو بدوره تلميذ شمس الدين اللقانى، وكانوا أيضا من أسباب انتشار المذهب المالكى فى السودان، وخاصة إبراهيم الذى نزل جزيرة ترنج ودرّس فيها مختصر خليل ورسالة ابن أبى زيد القيروانى فى الفقه المالكى، ويقول ود ضيف الله إنه أول من درس مختصر خليل ببلاد الفونج وشدّت إليه الرحال، ومن تلاميذه أربعون صاروا أعلاما، منهم الشيخ الزين ولد صغيرون. وصار كثير من تلامذته شيوخا للإسلام فى بلدان مختلفة، ويقول ود ضيف الله: فقهاء البلاد كلها إلى دار صليح تلامذته وتلامذة تلامذته، ومن تلامذته المشهورين الشيخ أرباب الخشن، وكان الطلبة فى حلقته يبلغون-كما يقول ود ضيف الله-ألف طالب ونيفا من دار مملكة الفونج إلى دار مملكة برنو على نهر النيجر. وممن تتلمذ للبنوفرى فى الأزهر أستاذ إبراهيم بن جابر المار ذكره الشيخ عبد الرحمن حموتو الخطيب ورفيقه الشيخ محمد سرحان، ويذكر ود ضيف الله أنه كان يقول «محمد يصلح للتدريس لكونه يسأل عن تحقيق نصوص المتن، وعبد الرحمن يصلح للفتوى لكونه يسأل عن معانى الشراح ويراجع آراءهم وفتاواهم. وممن تلقى العلم فى الأزهر من أعلام السودانيين الشيخ حمد المجذوب وكان فقيها صوفيا، ومر بنا أنه نشر الطريقة الشاذلية فى مدينة الدامر، وظلت أسرته تقوم بعده على الطريقة الشاذلية ودراسة العلوم الدينية.
ومن العلماء السودانيين الذين تخرّجوا فى الأزهر الشيخ عمار بن عبد الحفيظ، عنى بأن ينهل من حلقات شيوخ العربية الأزهريين، وعاد إلى السودان وأخذ يدرس لطلابه- كما يقول ود ضيف الله-علوم النحو واللغة والمنطق، وتتلمذ عليه سودانيون كثيرون كان لهم دور عظيم فى نشر علوم العربية والبلاغة فى أنحاء السودان، منهم الشيخ عبد الله بن صابون الذى اشتهر ببراعته-كما يقول ود ضيف الله-فى النحو والصرف والمعانى والبيان والبديع وعلم العروض، وكان شاعرا ماهرا، ومثله زميله الشيخ على ولد شاقعى، وكان مثله شاعرا مجيدا.
وكثيرون من علماء مصر البررة رحلوا إلى السودان لتعليم السودانيين شريعة الإسلام وممن ندب نفسه لهذه المهمة-كما يقول ود ضيف الله-محمد بن على بن قدم الكيمانى تلميذ الخطيب الشربينى إمام الشافعية بمصر المتوفى سنة 977 هـ/1570 م استوطن مدينة بربر إلى
أن توفى بها، وقد درس عليه شيوخ كثيرون أخذوا عنه علم الفرائض والفقه الشافعى من مثل الشيخ عبد الله العركى والقاضى دشين الشافعى وإبراهيم بن عبودى الذى اشتهر ببراعته فى تدريسه لعلم الفرائض أو المواريث وفيه ألّف حاشيته المعروفة باسم الفرضية. ولم يكتب لفقه المذهب الشافعى أن يعم فى السودان، إنما الذى عم فيه فقه المذهب المالكى للفقهاء المالكية الذين ذكرناهم ممن تلقوا المذهب عن أئمته فى مصر، ولأن نزلاء السودان من الحجاز والكانم والبرنو وغربيهما ومن الليبيين والتونسيين والمغاربة فى حجهم وتجارتهم كانوا مالكية. فالمذهب المالكى هو الذى شاع وانتشر فقهاؤه بالسودان لعصر دولة الفونج.
ومن كبار فقهاء المالكية المصريين الأزهريين الذين رحلوا إلى السودان فى عصر الفونج الشيخ محمد القناوى تلميذ الزرقانى الإمام المالكى الكبير استوطن مدينة بربر بين ديار الشائقية فى الشمال ثم جزيرة سنار فى الجنوب لأوائل النصف الثانى من القرن العاشر الهجرى، وبنى فيها مسجده ودرّس فيه رسالة ابن أبى زيد الفقيه القيروانى والعقائد (فى التوحيد) وعلم النحو وسائر العلوم، وولى القضاء فنهض به فى عفة ونزاهة» ومن أحفاده الشيخ محمد إكداوى نزيل مدينة شندى جنوبى مدينتى بربر وعطبرة، وفيها درّس فى الفقه المالكى رسالة ابن أبى زيد القيروانى مثل جده، ودرّس النحو وعلم الكلام وعلم الأصول والمنطق، وكان يجتمع فى حلقته طلاب كثيرون. ومن فقهاء مصر المالكية هناك الشيخ حامد اللين وكان يشتغل بتدريس رسالة ابن أبى زيد القيروانى فى الفقه المالكى، كما كان يشتغل بتدريس العقائد وعلم التوحيد، وهو أول من أحضر شرح الزرقانى على مختصر خليل وبالمثل شرح الشبرخيتى المالكى على متن العشماوية.
ومن كبار العلماء المصريين الذين نزلوا السودان واستوطنوا مدينة بربر فيه الشيخ محمد المصرى الذى عنى بدراسة علم التوحيد أو علم الكلام حتى وفاته سنة 1095 هـ/1684 م وكان محمد بن يوسف السنوسى الجزائرى المتوفى سنة 895 هـ/1490 م ألف فى علم التوحيد أو الكلام ثلاثة أعمال: العقيدة الكبرى وشرحها والعقيدة الوسطى وشرحها والعقيدة الصغرى وشرحها، وسيطرت هذه الأعمال فى مباحث علم التوحيد أو الكلام على الباحثين منذ وضعها لا فى الجزائر وحدها بل فى بلاد المغرب ومصر والعالم الإسلامى. وكان الشيخ محمد المصرى يدرس علم التوحيد للشباب السودانى من خلال هذه الأعمال ويفيض فى شرحها، ويقول ود ضيف الله إن له كتبا شأنها أن تكتب بماء الذهب، منها شرح للعقيدة الوسطى للسنوسى، وشرح للعقيدة الصغرى، وكان السنوسى قد اختصر الصغرى وسماها أم البراهين فشرحها. وكان الشاعر أحمد بن عبد الله الجزائرى فى عصر السنوسى ألف فى العقيدة قصيدة فشرحها وشاعت باسم الجزائرية، ونجد محمدا المصرى يشرحها أيضا-كما يقول ود ضيف الله-
ويشرح الأجرومية فى النحو. ولتلميذه الشيخ مكى النحوى الرباطابى شرحان على السنوسية: كبير وصغير.
وما حدث بين الطلاب السودانيين وانتظامهم فى الأزهر للتعليم وانتداب بعض خريجى الأزهر من المصريين أنفسهم لنشر الثقافة الدينية فى ربوع السودان حدث ما يماثله أو يقرب منه بين السودان والحجاز، فقد كان للسودانيين رواق فى المدينة تنفق الدولة على من ينزل فيه للأخذ عن الشيوخ هناك، وممن نزله من السودان الشيخ محمد بن عدلان الذى تتلمذ للشيخ عبد الله المغربى هناك، وعاد إلى أرض الجزيرة فى السودان، ودرّس للناس علم الكلام من خلال كتب السنوسى التى ذكرناها آنفا، ويقول ود ضيف الله إن مدار علم الكلام فى دار الجزيرة أو إقليمها على طلبته وتلامذة طلبته. ويذكر ود ضيف الله عن شيخ سودانى يسمى عمار بن شايقى أنه قرأ فى مكة علوم العربية. ويلم ود ضيف الله بأسماء علماء اليمن الذين نزلوا فى السودان واستوطنوه مثل الفقيهين حمد ولد زروق والشيخ جبارة. ويذكر ود ضيف الله طائفة من علماء المغرب الذين نزلوا فى السودان غير أنه لا يتوقف إزاءهم طويلا لنعرف ما الذى كانوا يدرّسونه للطلاب فيما عدا التلمسانى، إذ يقول إنه درّس لطلابه علم الكلام وعلوم القرآن وتجويده وترتيله. ونظن ظنا أن التلمسانى كان أحد من أشاعوا قراءة ورش المصرى فى دارفور وكردفان، إذ كانت مصر قد هجرتها من قديم وتمسكت بها البلاد المغربية والأندلس، وشاعت فيما بعد بالسودان الغربى وبرنو والكانم، فشيوعها فى السودان إنما هو عن طريق من نزلها من المغاربة أمثال التلمسانى.
وحرى بنا أن نذكر مؤرخين سودانيين مهمين هما ود ضيف الله أو محمد بن ضيف الله الجعلى المتوفى سنة 1224 هـ/1810 م صاحب كتاب الطبقات فى خصوص الأولياء والصالحين والعلماء والشعراء فى السودان وهو كتاب نفيس ترجم فيه-كما ذكرنا-لنحو مائتين وخمسين صوفيا وعالما وشاعرا فى عصر دولة الفونج بسنار، ولأهميته طبع أكثر من مرة، وعليه اعتمدت فى دراسة الحياة الصوفية والعلمية أيام الفونج وبالمثل الحياة الاجتماعية وخاصة عن المرأة. ويلى هذا المؤرخ وكتابه فى الأهمية كتاب الشيخ أحمد كاتب الشونة-والمراد بالشونة مخزن الغلال- وهو فى تاريخ السلطنة السنارية والإدارة المصرية ويبدو وأنه كان موظفا فى تلك الإدارة، فأرّخ لدولة الفونج فى سنار وللإدارة المصرية فى الخرطوم والسودان.
ولعل فى كل ما قدمت ما يدل على أن دولة الفونج أحدثت فى السودان نهضة علمية حقيقية كان عمادها القرآن الكريم وترتيله وقراءته وتفسيره والحديث النبوى والفقه وما يتصل به من علم الأصول والعربية بعلومها المختلفة. غير أن الدولة ضعفت فى عهدها الأخير مما أتاح لمحمد على ضم السودان إلى مصر، واستحالت الخرطوم إلى مدينة كبيرة، وأصبحت عاصمة