الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أعملت سيف الفكر نحو عويصها
…
فحنت علىّ خواضع الأعناق (1)
فتبوح لى بسرائر مكتومة
…
حتى عن الأسطار والأوراق
وهو يقول إن واقد الأشواق فى صدره ذهب بصبره، فإن الأحبة على وشك الفراق. ويأخذ فى الفخر بنفسه، فيقول لمن يسابقه وينافسه ويطلب عثرته وخطأه إنه سابق السباق، وإن المسائل إذا استصعبت وتمنّعت مشاكلها على الحذاق فلم يستطيعوا لها حلا أعمل سيف فكره فى عويصها فجاءته خاضعة تبوح له بأسرارها المكتومة عن ظاهر المكتوب فى السطور والأوراق. ونتوقف للحديث عن شاعرين من شعراء الفخر.
المختار (2) بن بون
ولد ونشأ فى منطقة تجكانت الموريتانية، وتتلمذ للمختار بن حبيب وأخذ كل ما عنده، وكان يتعثر فى أول أمره، ثم فتح الله عليه واشتهر بعلمه وخاصة فى العربية وجاءه الطلاب من كل فج، وسمعت به قبيلة إديقب اليعقوبية، وهى من أهم قبائل الزوايا فى مدارسة العلوم، فطلبت إليه أن ينزل بها ليأخذ عنه طلابها علم النحو وعلم الكلام أو التوحيد، وكان لا يجارى فيهما، وأقام عندهم مدة، ثم حدثت بينه وبينهم مناظرات فى بعض العلوم كان يقودها تلميذه محمد المجيدرى ومولود بن أحمد وعادوا إلى استسماحه، مستشهدين بقوله تعالى على لسان إخوة يوسف:{تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنّا لَخاطِئِينَ} فأجابهم بما أجاب به يوسف إخوته، إذ قال {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرّاحِمِينَ} . وعاد إلى موطنه وانثال عليه الطلاب، وكان رفيقا بهم يجود لهم بما يملك، وكثروا فرحل بهم إلى بئر فى أرض تجكانت، فشرعوا يبنون الأخصاص لسكناهم، وكان لا يشتغل نهارا ولا ليلا إلا بتعليمهم. وله فى النحو منظومة تسمى الاحمرار جمع فيها بين ما ذكره ابن مالك فى الألفية وكتابه التسهيل وطبعت فى مصر، وله فى النحو أيضا مقدمة ألّفها-كما مرّ بنا- للمبتدئين، وتكونت له فى النحو مدرسة أهم تلاميذه فيها بلاّ الشقراوى جعلناها خاتمة حديثنا عن علماء العربية بموريتانيا. وله من قصيدة يعتب فيها على قبيلة إديقب اليعقوبية وتلميذه محمد المجيدرى ويفاخر بما أسدى إليه وإلى أبنائها من علم العربية قائلا:
فلا تنكرونى آل يعقوب واذكروا
…
ليالى أجلو ما على الناس أظلما
وحين أحلّى منكم كلّ عاطل
…
بدرّى وأسقى باردى كلّ أهيما (3)
(1) حنت: مالت وعطفت.
(2)
انظر فى ترجمة
المختار بن بون
وشعره كتاب الوسيط ص 277 والشعر والشعراء فى موريتانيا ص 342.
(3)
الأهيم: العطشان عطشا شديدا.
وهو يقول لهم لا تنكرونى بعد ما قدمت لكم من جميل واذكروا حلّى لطلابكم المشكلات التى استصعبت وانبهمت، واذكروا ما زينت به من درر العلم أبناءكم وكيف أسقيتهم منه ما أطفئوا به ظمئهم إلى المعارف، ويقول مفاخرا بقبيلته وقومه:
ونحن ركب من الأشراف منتظم
…
أجلّ ذا الخلق قدرا دون أدنانا
نتلو كتاب إله العرش كلّ مسا
…
وكلّ يوم ومن نلقى توقّانا
ومن تكن همّة الأقدار نصرته
…
لم تقدر الناس أن توهى له شانا
وهمّة دونها هام السماء ومن
…
همّته دونها هام السّما دانا (1)
وهيبة ملئت منها القلوب فلو
…
نظرت شزرا إلى أقصى الورى حانا (2)
ولا ينهنهنى عن حاجة جزع
…
ولا ألين وإن ذو لوثة لانا (3)
وهو يفخر بقومه أو قبيلته فخرا مبالغا فيه إذ يجعل أعظم الناس قدرا دون أدنى شخص فيهم منزلة ومكانة، ويقول إنهم مكبون على كتاب الله يتلونه مساء وكل يوم، وينوه بشجاعتهم وأن القبائل تحذرهم وتتوقاهم، ويذكر أن الأقدار دائما تنصرهم على أعدائهم، ومن تنصره لا يستطيع أحد ولا قبيل أن يضعفا له شأنا وهم مهابون هيبة ملئت منها القلوب مخافة، حتى إنه لو نظر إلى عدو مغضبا هلك خوفا وفزعا، ولا يعتريه إزاء حاجة يريدها جزع، وإنه صلب لا يلين، إنما يلين الضعيف الواهن. توفى سنة 1220 هـ/1806 م وقبل بل قبل ذلك بسنوات.
محمد (4) بن سيدىّ الايبيرىّ
كان أبوه سيدىّ جوادا جودا عظيما إذ كان غيثا مدرارا، وكان عالما تتلمذ لحرم بن عبد الجليل وبذّ أقرانه، وشغف بالتصوف فشد رحاله إلى الشيخ المختار الكنتى الصوفى ولازمه ستة أشهر، توفى عقبها، فلازم ابنه محمدا حتى برع فى التصوف ومعرفة طريقه. ويقول الشنقيطى عن محمد بن سيدىّ إنه نشأ فى نعمة عظيمة ورعاية من والده جسيمة، ويقول إنه العلامة الأريب اللغوى الأديب، ويتوسع فى ترجمته إلى أكثر من عشرين صفحة، ينشد فيها طرائف شعره، ومما أنشده قصيدة له يسخر فيها ممن يردّدون موضوعات الشعر القديمة وخاصة الوقوف بالأطلال والبكاء بالديار ونعت المرأة والخمر ويعيب عليهم كثرة السرقات الشعرية. ومن قصائده قصيدة يدعو فيها للجهاد ضد أعداء الإسلام المغيرين على السواحل الإفريقية
(1) دان: عزّ.
(2)
شزرا هنا: مغضبا. حان: هلك.
(3)
ينهنهنى: يكفّنى-لوثة: ضعف وحمق.
(4)
انظر فى ترجمة محمد بن سيدىّ الوسيط للشنقيطى ص 243 والشعر والشعراء فى موريتانيا ص 57، 189.
المغربية، وكأنه كان يعدّ شباب قومه لمنازلة فرنسا قبل فرضها الحماية على موريتانيا سنة 1320 هـ/1903 م وفيها يفخر بشجاعة قومه وحمايتهم للإسلام قائلا:
وفتيان يرون الضيّم صابا
…
وطعم الموت خرطوما عقارا (1)
أحبّوا الملّة البيضا فكانوا
…
عليها من مراودها غيارا
بأيديهم مذرّبة طوال
…
ترى الأقران أعمارا قصارا (2)
جموع تهزم الأعداء قهرا
…
فتتركهم جديسا أو وبارا (3)
بنصر الله واثقة يقينا
…
فلا تخشى من الخلق الحذارا
لها إعلاء كلمته مرام
…
فلا غنما تروم ولا افتخارا
وهو يقول إن شباب قومه فتيان أشداء يرون الذل مرا لا يطاق شرابه، أما الموت فى ميدان الحروب فيرونه لذيذا لذة الخمر أو أعظم لذة. وقد أحبوا الدين الحنيف حتى إنهم ليغارون عليه غيرة العاشق على معشوقته، وإنهم لشجعان بواسل بأيديهم سيوف ماضية، ترى الأقران أن أعمارهم قصار بما تقطع من رقابهم، وإنهم لجموع تعوّدوا النصر على أعدائهم حتى ليبيدوهم عن آخرهم فيصبحوا فى عداد الأمم البائدة مثل جديس ووبار، ودائما يثقون فى نصر الله لا يخشون أحدا، وقصدهم إعلاء كلمة الله ودينه القويم دائما، ولا غنما يريدون ولا افتخارا. ويعرض فى قصيدة طويلة مذاكرته لزملاء أدباء يقفون على مذاهب الفقهاء المختلفة ومذهبى الأشعرى وإمام الحرمين الجوينى ومنازع الفرق الصوفية وأقوال الخليل وسيبوبه والكوفيين وغيرهم فى النحو، ويتدارسون شعراء الجاهلية الستة المشهورين: امرأ القيس وزهيرا والنابغة وعلقمة وطرفة وعنترة، والمرقشين الأكبر والأصغر والأعشيين: أعشى قيس وأعشى باهلة والأعميين: بشارا وأبا العلاء، وأبا نواس والمتنبى. وهى وثيقة مهمة بما كان يتدارسه الشباب الموريتانى من العلوم والشعر والشعراء جاهليين وإسلاميين وعباسيين، ثم يقول مفاخرا بشمائله:
ومن يك راغبا فى القرب منى
…
يجدنى دون ماء المقلتين
ومن يؤثر قلاى فليس شئ
…
يواصل بينه أبدا وبينى
ألاحظ من خليطى كلّ زين
…
كما أغضبى له عن كلّ شين
ولا أصغى إلى العوراء حتى
…
يرى أنّى أصمّ المسمعين (4)
وما جهل الجهول بمستفزّى
…
ومالى بالدنيّة من يدين
(1) الضيم: الهوان. الصاب: المر. الخرطوم والعقار: الخمر.
(2)
مذربة: من ذرب السيف والرمح: صار ماضيا.
(3)
جديس ووبار: قبيلتان من العرب البائدة.
(4)
العوراء: الكلمة السيئة. المسمعين مثنى مسمع: الأذن.