الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العقد الحادى عشر الهجرى وظنّ أن الباب العالى فى إسطانبول سيعيّن على الجزائر واليا جديدا، ونرى القوجيلى يذهب إلى إسطانبول على رأس وفد جزائرى سنة 1065 هـ/1655 م ملتمسا من السلطان-وكان حينئذ محمد خان الرابع-موافقته على إصدار فرمان بتولية يوسف باشا، وما إن يضع القوجيلى قدمه فى تلك المدينة حتى يتجه بقصيدة إلى مفتى إسطانبول أبى سعيد، يمدحه بها ويسأله أن يكون شفيع وفدهم لدى الخليفة العثمانى فى قبول ملتمسهم، ومن قوله فيها:
سعدت فدم فى العزّ واستكمل العليا
…
ودم فى اقتناء المعلوات مدى المحيا (1)
وكن ملجأ للوافدين فمن يعن
…
أخا فهو فى عون الذى كوّن الأشيا
شكايتنا مما دهانا بقطرنا
…
توالت علينا أعصر أورثت غيّا (2)
وكم من أمير ظنّ يكشف ضرّه
…
فلم يلف ما قد ظنّ بل قد وهى وهيا (3)
وأولاهم فى العزم والحزم والوفا
…
سمىّ الذى فى السجن قد عبّر الرّؤيا
فكن عوننا عند الخليفة وامضيين
…
بنا بين أيدينا لحضرته العليا
وهو يدعو للمفتى أبى سعيد بدوام العز واقتناء الرفعة والشرف ويرجوه أن يكون ملجأ للوفد الجزائرى وعونا فى إنجاز مهمته عند الخليفة مشيرا إلى الحديث النبوى: «إن الله فى عون العبد ما دام العبد فى عون أخيه» ويقول إن شكايتنا مما نزل بقطرنا الجزائرى مشيرا إلى المنازعات فى السلطة وصراع الانكشارية العثمانية، وكل وال يظن أنه سيتلافى الاضطرابات بها حتى إذا تولاها عجز عن إصلاحها. وقال إن أصلح أمير لحكمها سمىّ الذى أول الرؤيا فى السجن لصاحبيه أى أنه يوسف باشا سمى يوسف الصديق عليه السلام. ويطلب إلى المفتى أن يتقدم وفدهم لدى الخليفة شافعا لهم عنده فى تحقيق ما يأملون. ولا نعرف شيئا عن القوجيلى بعد هذه الوفادة، وقد نجح فى مهمته، وتولى يوسف باشا أمر الجزائر. وعاد إلى موطنه، وظل به حتى وفاته سنة 1080 هـ/1670 م وهو يعد من أنبه شعراء العهد العثمانى.
4 -
شعراء الفخر والهجاء
(أ) شعراء الفخر
الفخر غرض قديم من أغراض الشعر العربى فمنذ الجاهلية يتغنى به الشعراء طوال العصور التالية إلى اليوم مثاليتهم وأخلاقهم الرفيعة من مثل المروءة والكرامة والجود والشجاعة إلى غير ذلك من شيمهم وخصالهم الحميدة، كما يتغنون عصبياتهم ومشاعرهم القومية، ومن طريف
(1) المعلوات جمع معلوة: الرفعة والشرف.
(2)
الغى: الضلال.
(3)
يلفى من ألفى: وجد. وهى: ضعف.
ما يلقانا فى الجزائر من فخر قول شاعرها ابن أبى الرجال الشيبانى وزير المعز بن باديس مفتخرا بقومه (1):
يا آل شيبان لا غارت نجومكم
…
ولا خبت ناركم من بعد توقيد
أنتم دعائم هذا الملك مذ ركضت
…
قبل الخيول لإبرام وتوكيد
المنعمون إذا ما أزمة أزمت
…
والواهبون عتيقات المزاويد (2)
سيوفكم أفقدت كسرى مرازبه
…
فى يوم ذى قار إذ جاءوا لموعود
وهو يفتخر بقومه من آل شيبان ويدعو أن تظل نجومهم مضيئة فى سماء العروبة وأن تظل نيرانهم متقدة لا تنطفئ أبدا، إذ هم دعائم الملك العربى منذ نشبت الحروب وصهلت فيها خيول الفرسان لفرض المعاهدات وعقد المواثيق، وقد اشتهروا بما ينعمون فى الأزمات ويهبون من العطايا الجزيلة، ويرفع أمام الأعين بطولتهم العظيمة يوم ذى قار الذى نكّلوا فيه بالفرس تنكيلا شديدا: منقبة عظيمة لقبيلته شيبان فى الجاهلية لا ينساها العرب ولا ينساها التاريخ. ونرى الحسن بن الفكون القسنطينى المتوفى بأوائل القرن السابع الهجرى يفتخر ببلدته «بجاية» ومسقط رأسه قائلا (3):
دع العراق وبغدادا وشامهم
…
فالناصريّة ما من مثلها بلد
برّ وبحر ومرج للعيون به
…
مسارح بان عنها الهمّ والنكد
حيث الهوى والهواء الطلق مجتمع
…
حيث الغنى والمنى والعيشة الرّغد
والنّهر كالصّلّ والجنّات مشرفة
…
والنهر والبحر كالمرآة وهو يد
إن تنظر البرّ فالأزهار يانعة
…
أو تنظر البحر فالأمواج تطّرد
يا طالبا وصفها إن كنت ذا نصف
…
قل جنّة الخلد فيها الأهل والولد
وهو يفضل الناصرية أو بجاية على بغداد ودمشق، ويقول إنه ليس مثلها بلد جمعت بين البر والبحر ومشاهد مرج بأشجاره ونباتاته البديعة التى تزيل الهم والنكد حيث مجتمع الحب والهواء الطلق الذى يستروحه المحبون، وحيث الثراء والمنى والعيشة الطيبة، والنهر يجرى كصلّ أو أفعوان، والجنات تحفّه من كل جانب، وكأنما البحر مرآة والنهر يدها الثابتة. إن تنظر إلى البر راعتك أزهاره، وإن نظرت إلى البحر راعتك أمواجه المطردة، وهى-بإنصاف- جنة الخلد، وفيها الأهل وفلذات الكبد من الولد أو الأولاد. ويقول أحمد (4) بن على المليانى المتوفى سنة 715 هـ/1316 م:
(1) المنتخبات لحسن حسنى عبد الوهاب ص 76.
(2)
المزاويد جمع مزود: وعاء الزاد.
(3)
تعريف الخلف 2/ 135.
(4)
تعريف الخلف 2/ 68.
العزّ ما ضربت عليه قبابى
…
والفضل ما اشتملت عليه ثيابى
والزهر ما أهداه غصن يراعتى
…
والمسك ما أبداه نقش كتابى
فالمجد يمنع أن يزاحم موردى
…
والعزم يأبى أن يسام جنابى
وإذا بلوت صنيعة جازيتها
…
بجزيل شكرى أو جزيل ثوابى
وإذا عقدت مودّة أجريتها
…
مجرى طعامى من دمى وشرابى
وهو يفخر فخرا مسرفا، فالعز ما ضربت عليه خيامه، والفضل ما اشتملت عليه ثيابه، والزهر كلماته مما كتبه قلمه، والمسك نقش كتابته، وبلغ من المجد أن لا يزاحمه أحد فى مورده كما بلغ من العزم أن لا يرعى جنابه، فحماه لا يسام ولا يضام، وإذا اختبر صنيعة أو معروفا بادر بالشكر وجزيل الثواب، وإذا عقد مع شخص مودة كانت غذاء لروحه وجرت مجرى الطعام من دمه وشرابه. ويفتخر ابن خميس شاعر تلمسان بعروبته ودينه الحنيف، منشدا:
إنا-بنى قحطان-لم نخلق لغ
…
ير غياث ملهوف ومنعة لاجى
بسيوفنا البيض اليمانية التى
…
طبعت لحزّ غلاصم ووداج (1)
تأبى لنا الإحجام عن أعدائنا
…
يوم اللقاء طهارة الأمشاج (2)
أنصار دين الهاشمىّ وحزبه
…
وحماته فى الجحفل الرّجراج (3)
وحماته بنفوسهم ونفيسهم
…
من غدر مغتال وسورة هاج (4)
منا التبابعة الذين ببابهم
…
كانت تنيخ جباة كلّ خراج (5)
ولأمرهم كانت تدين ممالك ال
…
دّنيا بلا جبر ولا إحراج
أبوابهم مفتوحة لضيوفهم
…
أبدا بلا قفل ولا مزلاج
وهو يفخر بأصوله من بنى قحطان اليمنيين الذين إنما خلقوا لغياث الملهوف وحماية اللاجئ لهم بسيوفهم اليمانية التى صيغت لقطع الرقاب، وإن أنسابهم لتأبى لهم الإحجام عن لقاء أعدائهم وسحقهم، ومعروف أن أنصار الرسول صلى الله عليه وسلم من أهل المدينة كانوا يمنيين أو من أصول يمنية، وهو لذلك يفخر بنصرتهم للرسول وأنهم كانوا حماته حين تنشب الحروب حموه بنفوسهم وبكل ما يملكون من غدر مغتال ومن حدة هاج إذ كان منهم حسان بن ثابت وغيره من شعرائهم الذين كانوا يذودون عن الرسول وصحبه ضد شعراء قريش وأهاجيهم. ويفخر بأن منهم قديما التبابعة ملوك اليمن وأمراؤها فى الجاهلية الذين كان يجبى لهم الخراج من أنحاء دولتهم، وكانت ممالك الدنيا تدين لهم طوعا لا قسرا، وبلغوا من جودهم أن كانت
(1) طبعت: صيغت. الغلاصم جمع غلصمة: الحلق. الوداج: عرق فى العنق إذا قطع انتهت حياة المذبوح.
(2)
الأمشاج جمع مشج: النطفة.
(3)
الجحفل الرجراج: الجيش الذى لا يكاد يسير لكثرته
(4)
سورة: حدّة
(5)
تنيخ: تنزل.
أبوابهم مفتوحة لضيوفهم دائما لا تغلق أبدا. ويعتلى عرش دولة بنى عبد الواد أو الدولة الزيانية أكبر شعراء الفخر فى الجزائر على مر العصور، وأقصد أبا حمو موسى الثانى، وحرى أن أقف قليلا لأترجم له وأعرض أطرافا من فخره.
أبو حمو (1) موسى الثانى
ولد أبو حمو موسى لأبيه يوسف بن عبد الرحمن بن يغمراسن فى أواخر مقامه بغرناطة فى بلاط سلطانها أبى الوليد بن فرج سنة 723 هـ/1323 م وفى تلك السنة استدعى يوسف وإخوته إلى تلمسان سلطانها أبو تاشفين الأول (718 - 737 هـ) ولبّوه وأكرمهم وأعلى مكانتهم بين أمراء الأسرة، وبذلك كان منشأ أبى حمو موسى ومرباه الأول فى تلمسان حتى إذا بلغ الرابعة عشرة من عمره استولى السلطان أبو الحسن المرينى على تلمسان وأرغم أباه وبعض أمراء الأسرة على الاستقرار بفاس، وعلى شيوخها أتم أبو حمو موسى تعلمه، وظل بها مع أبيه إلى بداية إمارة عميه أبى سعيد وأبى ثابت سنة 749 هـ/1349 م حتى إذا فتك بهما السلطان أبو عنان المرينى سنة 753 هـ/1353 م رأينا أبا حمو موسى يقصد تونس وسلطانها أبا إسحاق فأكرمه غاية الإكرام، حتى إذا كانت سنة 758 هـ/1357 م واستولى فيها السلطان المرينى أبو عنان على تونس ارتحل أبو حمو مع السلطان الحفصى إلى إقليم الجريد جنوبى الإقليم التونسى، واضطرت الظروف أبا عنان بالعودة إلى فاس مع جيشه فى السنة التالية، وعاد السلطان الحفصى وأبو حمو موسى إلى تونس، والتف حوله عرب الدواودة وأخذ يستعين بهم فى مطاردة المرينيين، وسارعت إليه قبيلة بنى عامر شيعة أسرته ووطنه وتوجه بهم إلى الزاب ثم ورقلة، ونازل أولاد عريف من قبيلة سويد الهلالية وهزمهم هزيمة ساحقة، وجاءه عقبها نبأ وفاة السلطان أبى عنان المرينى فى أواخر ذى الحجة سنة 759 هـ/1358 م فصمم على أخذ تلمسان، وبايعه جميع من كان معه فى الخامس من محرم سنة 760 هـ/1359 م وجدّ فى السير مع جموعه من العرب وغيرهم، وتسامع به كل من كان فى طريقه إلى تلمسان، وكان أبو عنان ولّى عليها ابنه محمدا وترك معه حامية، فحاصره أبو حمو مدة كانت فيها مناوشات، وتيقن المرينيون أنه لا طاقة لهم بمنازلة أبى حمو، فطلبوا الأمان، وأسلموا تلمسان إليه وبايعه أهلها حين دخلها فى غرة شهر ربيع الأول، ويقول التنسى إنه «ساس أهل مملكته بالسيرة الحسنى وغمر الرعية قسطاس عدله الأسنى، وقسم أوقاته بين حكم يقضيه وحق يمضيه، وعاقّ يرضيه، وسيف لحماية الدين ينضيه، وسبيل إلى رضاء الله تعالى ورسوله يفضيه» . وقد غيّر اسم الدولة، إذ
(1) انظر فى ترجمة أبى حمو موسى الثانى تاريخ ابن خلدون والجزء الثانى من بغية الرواد فى ذكر الملوك من بنى عبد الواد ليحيى بن خلدون وتاريخ بنى زيان ملوك تلمسان لمحمد بن عبد الله التنسى ص 157 وما بعدها وكتاب أبو حمو موسى الزيانى: حياته وآثاره للدكتور عبد الحميد حاجيات.
كان اسمها بنى عبد الواد نسبة إلى قبيلتهم، فرأى أن تسمى باسم الدولة الزيانية نسبة إلى زيان والديغمراسن مؤسس الدولة. وقد أعاد لها عزّها وسلطانها واستردّ لها بلدانها فى الجزائر: وهران والجزائر وتدلس، وكثرت الحروب فى أيامه بينه وبين بعض القبائل العربية والدولة المرينية. وثار عليه ابن عمه أبو زيان بن السلطان أبى سعيد وانصاعت له قبيلة عامر واستولى على مدينتى المدية ومليانة، ونشبت بينه وبين أبى حمو وقائع، واستطاع أبو حمو القضاء على ثورته فى أواخر سنة 769 هـ/1368 م وانتهز السلطان عبد العزيز المرينى فرصة تضعضع جيشه من كثرة الحروب واستولى على تلمسان سنة 772 هـ/1371 م وظل أبو حمو يتنقل فى الصحراء حتى علم بوفاة السلطان المرينى سنة 774 هـ/1373 م فعاد إلى عاصمته تلمسان، وتبدأ منافسات بين ابنه وولى عهده أبى تاشفين وإخوته ويغتال يحيى بن خلدون كاتب أبى حمو ومؤرخه فى مؤامرة دبّرها ولى العهد سنة 780 هـ/1379 م حتى إذا كانت سنة 786 هـ/1385 م أغار السلطان أبو العباس المرينى-واستولى-على تلمسان، غير أن الأحداث فى عاصمته فاس اضطرته إلى العودة إليها سريعا، وعاد أبو حمو إلى تلمسان. وتسوء العلاقات سوءا شديدا بين ولى العهد أبى تاشفين وإخوته، مما جعل أبو حمو يخلع نفسه إرضاء لأبى تاشفين سنة 791 هـ/1389 م ويتجه إلى الحج. وما إن نزل بجاية حتى غيّر رأيه، واتّجه إلى تلمسان، واستثار كل من كان فى طريقه وأقبل إليها بجموعه، وعلم ابنه أبو تاشفين، فلحق بفاس واستعان بسلطانها المرينى، وأعانه بجيش كثيف والتقى مع أبيه وجموعه واقتتلوا قتالا شديدا وكبا الفرس بأبى حمو وتوفّى. وهو من خيرة سلاطين الأسرة الزيانية وقد نهض بالعلم فى دولته واشتهر بها كثير من العلماء فى مقدمتهم أبو عبد الله الشريف الذى بنى له مدرسة كبيرة أكثر عليها من الأوقاف ورتب فيها الجرايات للشيوخ والطلاب وكما نهض بالعلم نهض بالأدب، ومن كتّابه وشعرائه محمد بن يوسف الثغرى الذى مرت ترجمته، ومنهم محمد بن على العصامى ومحمد بن صالح شقرون، ومن مآثره احتفاله بالمولد النبوى احتفالا عظيما، كان يبدأ فيه بمدحة نبوية له ثم تتوالى مدائح نبوية أخرى شطرا كبيرا من الليل وكان يدعى إليه الناس من العامة والخاصة، وتقام قبيل الصباح مأدبة ضخمة، وسنعرض لذلك فى حديثنا عن شعراء المدائح النبوية. وكان أديبا بارعا وله كتاب واسطة السلوك فى سياسة الملوك، وسنلم به فى حديثنا عن النثر فى الجزائر. وكان يحسن نظم الشعر، واحتفظ يحيى بن خلدون بكثير منه فى الجزء الثانى من كتابه بغية الرواد فى ذكر الملوك من بنى عبد الواد، وجمع منه كثيرا الدكتور عبد الحميد حاجيات فى كتابه عن أبى حمو موسى، وهو موزع بين فخر ونبويات مع مرثيتين لأبيه. ونراه عقب استقراره فى تلمسان وتمام الملك له ينظم ميمية طويلة يصور فيها حركته من تونس إلى تلمسان لاسترداد ملك آبائه وكيف أخذ يعد جيشا لمنازلة المرينيين من قبيلة عامر واقتحامه للزاب وريغ وورقلة والحمادى
والتقائه بالجنود المرينيين وبطشه بهم وتقدمه إلى وادى يسر ودخوله تلمسان عنوة، وينهى القصيدة منشدا:
نظمنا شتيت الملك بعد افتراقه
…
وكم بات نهبا شمله دون ناظم
شددنا له أزرا وشدنا بناءه
…
بأوثق أركان وأقوى دعائم
فصارت ملوك الأرض تأتى مطيعة
…
إلى بابنا تبغى التماس المكارم
وجاءت لنا من كلّ أوب ووجهة
…
تبايعنا طوعا وفود العمائم
وقمنا بأمر الله فى نصر دينه
…
وفى كفّ ما قد أحدثت من مظالم
وهو يفتخر بأنه أعاد للملك الزيانى المنهوب نظامه وسلطانه، وشدّ أزره وقوته وشاد بناءه وأعلاه أقوى ما يكون الإعلاء بأركان وثيقة ودعائم متينة، مما جعل ملوك الأرض يقصدون بابه معلنين طاعتهم زلفى إليه والتماسا لمكارمه، وإن قبائل العرب ليفدون عليه من كل ناحية وجهة تبايعه طوعا، وإنه ليقوم بنصر دين الله ونشر العدل فى ربوع بلاده والقضاء على ما أحدث المرينيّون من مظالم، ويفتخر فى قصيدة ثانية من وزن المتدارك بسياسته الرشيدة فى الحكم قائلا:
أنزلت الناس منازلهم
…
وتركت الظالم فى وجل
أحمى المظلوم وأنصره
…
وأقيم الحق على عجل
وأنا للحرب كعنترها
…
وأنا فى السلم أخو جذل
وأنا موسى وأبو حمو
…
أصلح للملك ويصلح لى
سيفى إن صلت بقائمه
…
أدنى المرّاق إلى الأجل
وكذا كفّاى إذا انبسطت
…
من كان مقلاّ عاد ملى
فهو يسوس رعيته سياسة حميدة ينزل الناس فيها منازلهم دون خفض أو رفع، وهى سياسة تقوم على العدل الذى لا تصلح حياة الرعية بدونه، وإنه ليحمى المظلوم من ظالمه وينصره عليه، ويقيم الحق سريعا لا يخشى فيه ملامة لائم، وإنه شجاع شجاعة عنتر بن شداد فى الحرب، أما فى السلم فإنه صاحب دعة وحياة آمنة رافهة، ويقول أنا أبو حمو موسى أصلح للملك بعدلى وحكمى القويم ويصلح لى، وإنه لبطل فى الحرب يقطع رقاب المارقين والثائرين، أما فى السلم فغيث مدرار وإن كفيه لتنثران الأموال نثرا، حتى ليصبح المقل الفقير مليئا ثريا، ويقول مفاخرا:
وما بسوى العلياء همنا جلالة
…
إذا هام قوم بالحسان النّواعم
بروق السيوف المشرفيّات والقنا
…
أحبّ إلينا من بروق المباسم
وأحسن من قدّ الفتاة وخدّها
…
قدود العوالى أو خدود الصوارم (1)
وأما صهيل السابحات لدى الوغى
…
فأشجى لدينا من غناء الحمائم
إذا نحن جرّدنا الصوارم لم تعد
…
لأغمادها إلا بحزّ الغلاصم (2)
وهو يقول عن نفسه وقومه إذا كان الناس يهيمون بالحسان الجميلات فإننا لا نهيم إلا بالعلياء والمجد والشرف، وإن بروق السيوف المشرفيات والرماح لأحب إلينا من بروق المباسم الفاتنة، وأحسن عندنا من قدّ الفتاة وقوامها وخدها الجميل قدود الرماح وخدود السيوف الصوارم القاطعة، وإن صهيل الخيل فى الحرب لأشجى عندنا من غناء الحمائم الذى طالما تغنى به الشعراء، وترانا فى الحرب إن نحن شهرنا السيوف لم تعد لأغمادها إلا بحزّ الغلاصم والرقاب، ويمضى فى القصيدة قائلا:
ألا أيها الآتى لظلّ جنابنا
…
نزلت برحب فى عراص المكارم (3)
وقوبلت منا بالذى أنت أهله
…
وفاض عليك الجود فيض الغمائم
بهمّتنا العليا سمونا إلى العلا
…
وكم دون إدراك العلا من ملاحم
وهو يبشر من ينزل بجنابهم وفى كنفهم أنه ينزل برحب أو واسع فى عرصات أو ساحات المكارم ويقابل بما يليق به، ويفيض عليه الجود فيض السحاب الهاطل. ويقول إنهم لذوو همم عالية سمت بهم إلى العلا وكم دون إدراكها والحصول عليها من ملاحم وحروب طاحنة، ويقول مفاخرا فى انتصار له على الدولة المرينية:
لقد نهضت بعون الله متّكلا
…
على الإله ومن يرجموه لم يخب
بعسكر لجب ضاق الفضاء به
…
كالبحر أعظم به من عسكر لجب
من كل ليث شجاع فارس بطل
…
حامى الذّمار من الأعجام والعرب (4)
على سوابق خيل ضمّر عرب
…
تزهى بحليتها كالخرّد العرب (5)
بها وطئنا بلادا لا سبيل لها
…
وما أردنا تناولناه من كثب (6)
وهو يقول إنه نهض لحرب المرينيين مستعينا بربه متكلا عليه راجيا النصر منه، ومن يرجوه لا يخيب رجاؤه، وقد نازلهم بعسكر كثير ضاق الفضاء به، وكأنه بحر زاخر بالليوث الشجعان والفرسان الأبطال حماة الذمار من العجم والعرب، يركبون إلى الحرب خيولا ضامرة نجيبة
(1) العوالى: الرماح. الصوارم: السيوف.
(2)
الغلاصم جمع غلصمة: ملتقى اللهاة والمرى. وهى تقطع مع الرقبة.
(3)
عراص جمع عرصة: الساحة.
(4)
الذمار: الحمى وما يحميه الإنسان من الأهل والولد.
(5)
الخرد جمع خريدة: الجميلة. عرب: معجبة بنفسها.
(6)
كثب: قريب.