المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌3 -شعراء الرثاء - تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف - جـ ١٠

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدّمة

- ‌1 - [الجزائر]

- ‌2 - [المغرب الأقصى]

- ‌3 - [موريتانيا]

- ‌4 - [السودان]

- ‌القسم الأولالجزائر

- ‌الفصل الأوّلالجغرافية والتاريخ

- ‌1 -الجغرافية

- ‌3 -الفتح والولاة-الأغالبة-الإباضية-تلمسان

- ‌(ب) الأغالبة

- ‌(ج) الإباضيون

- ‌(د) تلمسان

- ‌4 -الدولة العبيدية-الدولة الصنهاجية-بنو حماد

- ‌(أ) الدولة العبيدية

- ‌(ج) بنو حماد

- ‌5 -دولة الموحدين-الدولة الحفصية-بنو عبد الواد

- ‌الفصل الثّانىالمجتمع الجزائرى

- ‌2 -المعيشة

- ‌(أ) الثراء

- ‌(ب) الرّفة

- ‌(ج) الموسيقى

- ‌4 -الدين-المالكية والحنفية-الإباضية-المعتزلة

- ‌(أ) الدين

- ‌(د) المعتزلة

- ‌الفصل الثالثالثقافة

- ‌1 -الحركة العلمية

- ‌(أ) فاتحون ناشرون للإسلام ومعلمون

- ‌(ب) دور العلم:‌‌ الكتاتيب-‌‌المساجد-المدارس-الزوايا-المكتبات

- ‌ الكتاتيب

- ‌المساجد

- ‌المدارس

- ‌الزوايا

- ‌المكتبات

- ‌(ج) نمو الحركة العلمية

- ‌5 -التاريخ

- ‌الفصل الرّابعنشاط الشعر والشعراء

- ‌2 -كثرة الشعراء

- ‌3 -شعراء المديح

- ‌ عبد الكريم النهشلى

- ‌ ابن خميس

- ‌ الشهاب بن الخلوف

- ‌ محمد القوجيلى

- ‌4 -شعراء الفخر والهجاء

- ‌(أ) شعراء الفخر

- ‌(ب) شعراء الهجاء

- ‌ بكر بن حماد التاهرتى

- ‌ سعيد المنداسى

- ‌5 -الشعراء والشعر التعليمى

- ‌ عبد الرحمن الأخضرى

- ‌الفصل الخامسطوائف من الشعراء

- ‌1 -شعراء الغزل

- ‌ ابن على

- ‌2 -شعراء وصف الطبيعة

- ‌ عبد الله بن محمد الجراوى

- ‌3 -شعراء الرثاء

- ‌4 -شعراء الزهد والتصوف

- ‌(أ) شعراء الزهد

- ‌(ب) شعراء التصوف

- ‌ إبراهيم التازى

- ‌5 -شعراء المدائح النبوية

- ‌الفصل السّادسالنثر وكتّابه

- ‌1 -الخطب والوصايا

- ‌2 -الرسائل الديوانية

- ‌3 -الرسائل الشخصية

- ‌4 -المقامات

- ‌5 -كبار الكتاب

- ‌[(ب)] الوهرانى

- ‌القسم الثانىالمغرب الأقصى

- ‌الفصل الأوّلالجغرافية والتاريخ

- ‌1 -الجغرافية

- ‌3 -الفتح والولاة-ثورة الصفرية-بنو مدرار-الأدارسة-بعد الأدارسة والمدراريين

- ‌(ب) ثورة الصفرية

- ‌(د) الأدارسة

- ‌4 -المرابطون-الموحدون-بنومرين

- ‌(أ) المرابطون

- ‌(ب) الموحدون

- ‌5 -السعديون-الطرق الصوفية-العلويون

- ‌(أ) السعديون

- ‌(ج) العلويون

- ‌الفصل الثّانىالمجتمع المغربى

- ‌1 -عناصر السكان

- ‌2 -المعيشة

- ‌3 -الثراء-الرّفة-الموسيقى-المرأة

- ‌(أ) الثراء

- ‌(ب) الرّفة

- ‌(ج) الموسيقى

- ‌(د) المرأة

- ‌4 -المالكية-الصفرية-المعتزلة-الظاهرية

- ‌(أ) المالكية

- ‌(ب) الصفرية

- ‌(ج) المعتزلة

- ‌(د) الظاهرية

- ‌5 -الزهاد-المتصوفة

- ‌(أ) الزهاد

- ‌(ب) المتصوفة

- ‌الفصل الثالثالثقافة

- ‌1 -الحركة العلمية

- ‌(أ) فاتحون ناشرون للإسلام ومعلمون

- ‌ الكتاتيب

- ‌(ب) دور العلم: الكتاتيب-المساجد-المدارس-الزوايا-المكتبات

- ‌المساجد

- ‌المدارس

- ‌الزوايا

- ‌المكتبات

- ‌(ج) نمو الحركة العلمية

- ‌2 -علوم الأوائل

- ‌3 -علوم اللغة والنحو والعروض والبلاغة

- ‌5 -التاريخ

- ‌الفصل الرّابعنشاط الشعر والشعراء

- ‌1 -تعرب المغرب الأقصى-كثرة الشعراء

- ‌(أ) تعرب المغرب الأقصى

- ‌(ب) كثرة الشعراء

- ‌2 -شعراء الموشحات والأزجال

- ‌(أ) شعراء الموشحات

- ‌ ابن غرلة

- ‌ ابن الصباغ

- ‌ ابن زاكور

- ‌(ب) شعراء الأزجال

- ‌ابن عمير

- ‌3 -شعراء المديح

- ‌ ابن زنباع

- ‌ ابن حبوس

- ‌الجراوى

- ‌ ابن عبد المنان

- ‌الهوزالى

- ‌الدغوغى

- ‌البوعنانى

- ‌4 -شعراء الفخر والهجاء

- ‌(أ) الفخر

- ‌ الشاذلى

- ‌(ب) الهجاء

- ‌5 -الشعراء والشعر التعليمى

- ‌ عبد العزيز الملزوزى

- ‌ابن الونان

- ‌الفصل الخامسطوائف من الشعراء

- ‌1 -شعراء الغزل

- ‌ أبو الربيع الموحدى

- ‌ عمر السلمى

- ‌2 -شعراء الوصف

- ‌3 -شعراء الرثاء

- ‌ ابن شعيب الجزنائى

- ‌4 -شعراء الزهد والتصوف

- ‌(أ) شعراء الزهد

- ‌(ب) شعراء التصوف

- ‌ ابن المحلى

- ‌5 -شعراء المدائح النبوية

- ‌ميمون بن خبازة

- ‌ مالك بن المرحل

- ‌الفصل السادسالنثر وكتّابه

- ‌1 -الخطب والمواعظ

- ‌2 -الرسائل الديوانية

- ‌3 -الرسائل الشخصية

- ‌4 -المقامات والرحلات

- ‌(أ) المقامات

- ‌(ب) الرحلات

- ‌ رحلة ابن رشيد

- ‌ رحلة العياشى

- ‌ رحلة ابن ناصر

- ‌5 -كبار الكتّاب

- ‌(أ) القاضى عياض

- ‌القسم الثالثموريتانيا

- ‌الفصل الأوّلالجغرافية والتاريخ

- ‌1 -الجغرافية

- ‌2 -التاريخ

- ‌الفصل الثّانىالمجتمع والثقافة

- ‌1 -المجتمع

- ‌(أ) صنهاجة وقبائل المعقل العربية

- ‌(ب) الزروع والمراعى

- ‌(ج) التجارة

- ‌(د) حياة يدوية

- ‌2 -الثقافة

- ‌(أ) نشاط دينى تعليمى كبير

- ‌(ب) التعليم والطلاب والشيوخ

- ‌(ج) أمهات الكتب والمتون والشروح المتداولة

- ‌(د) أعلام العلماء فى موريتانيا

- ‌(هـ) القراء والمفسرون والمحدثون والفقهاء

- ‌(و) أعلام النحاة والمتكلمين

- ‌الفصل الثالثنشاط الشعر والشعراء

- ‌1 -تعرّب موريتانيا

- ‌2 -شعراء المديح

- ‌ ابن رازكة

- ‌3 -شعراء الفخر والهجاء

- ‌(أ) شعراء الفخر

- ‌ المختار بن بون

- ‌(ب) شعراء الهجاء

- ‌4 -شعراء الرثاء

- ‌الفصل الرّابعطوائف من الشعراء

- ‌1 -شعراء الغزل

- ‌ الأحول الحسنى

- ‌ يقوى الفاضلى

- ‌2 -شعراء التصوف

- ‌ المختار الكنتى

- ‌الشيخ سيديّا

- ‌3 -شعراء المدائح النبوية

- ‌ محمد بن محمد العلوى

- ‌4 -الشعراء والشعر التعليمى

- ‌القسم الرابعالسودان

- ‌الفصل الأوّلالجغرافية والتاريخ

- ‌1 -الجغرافية

- ‌2 -التاريخ

- ‌3 -(ج) دولة الفونج

- ‌4 -محمد على والسودان-عهد إسماعيل

- ‌5 -حركة المهدى-خليفته عبد الله التعايشى

- ‌الفصل الثّانىالمجتمع السودانى-الثقافة

- ‌(أ) نزعة صوفية عامة

- ‌(ب) المرأة ومكانتها فى التصوف

- ‌(ج) التصوف والتربية الخلقية والدينية

- ‌(د) طرق صوفية جديدة

- ‌(هـ) دعوة المهدى ومبادئها الستة

- ‌2 -الثقافة

- ‌(أ) كتاتيب-زوايا-مساجد

- ‌(ب) حركة علمية نشيطة فى عهد الفونج

- ‌(ج) سودانيون أزهريون وعلماء مصريون

- ‌(د) التعليم المدنى الحديث وتوقفه

- ‌(هـ) إنشاء معهد دينى وعودة التعليم المدنى الحديث

- ‌الفصل الثالثنشاط الشعر والشعراء

- ‌2 -شعراء المديح

- ‌ الشيخ حسين زهراء

- ‌ الشيخ محمد عمر البناء

- ‌3 -شعراء الفخر والحماسة

- ‌ الشيخ يحيى السلاوى السودانى

- ‌ عثمان هاشم

- ‌4 -شعراء الرثاء

- ‌(أ) رثاء الأفراد

- ‌ الشيخ محمد سعيد العباسى

- ‌(ب) رثاء المدن

- ‌الفصل الرّابعطوائف من الشعراء

- ‌1 -شعراء الغزل العفيف

- ‌2 -شعراء النقد العنيف والشكوى من الزمن

- ‌الشيخ عبد الله البناء

- ‌ صالح عبد القادر

- ‌3 -شعراء التصوف

- ‌4 -شعراء المدائح النبوية

- ‌ الشيخ عمر الأزهرى

- ‌ الشيخ عبد الله عبد الرحمن

الفصل: ‌3 -شعراء الرثاء

فقل روضة السلوان إن شئت فى اسمها

وقل رحم الرحمن من هو ساجع

ولا تعدون عيناك عنها لكونها

بدت بدويّة وأنّى واضع

وكم رمية لغير رام فقرطست

وأخرى لرام أخطأت هل تنازع؟

فأغضوا على ما كان واعفوا وسامحوا

وإن كان خرق فليداركه رافع

وهو يقول لقارئ قصيدته إنه أتاه من وصف الصقر وأحواله وأحكام صيده وفقهه وأحكامه بما لا مزيد عليه فى التحقيق، ودع سواه من الجعاجع التى لا فائدة فيها ولا طائل وراءها، وقد غصت عليها فى بحر فكرى واستخرجتها لك درة تتفجر بكثير من المعارف عن الصيد وفقهه، فمن كان صاحب جدّ وعى منها حكمة، ومن كان صاحب لهو وجد فيها مبتغاه، وسمّها باسمها:«روضة السلوان» وقل رحم الله ناظمها رحمة واسعة، ولا تحقرها لأنها تتناول موضوع الصيد البدوى وأنى ناظمها، وكم رمية قرطست وأصابت الهدف وكم رميات أخرى انحرفت عن الهدف والغرض المقصود، وذلك فضل الله يمنّ به على من يشاء. ويطلب من قارئه فى تواضع أن يغض الطرف عن هفواته ويعفو، وإن كانت فى قصيدته زلة فليتداركها بلطفه.

‌3 -

شعراء الرثاء

الرثاء من أغراض الشعر القديمة، والشاعر فيه إما أن يتفجع على الميت ويبكيه ويتوجع لفقده ويسمى ذلك ندبا، وإما أن يبكى فيه خلاله ومناقبه التى حرم منها المجتمع ويسمى ذلك تأبينا، وإما أن يفضى إلى ذكر الموت وأنه حوض لا بد للحى من وروده، ويسمى ذلك عزاء، وقد يمزج الشاعر بين نوعين من هذه الأنواع وقد يمزج بين الثلاثة. ويلقانا الرثاء مبكرا فى الشعر الجزائرى على لسان بكر بن حماد شاعر تاهرت فى القرن الثالث الهجرى، وكان قد مات له ابن فندبه طويلا بمثل قوله يخاطب نفسه وقد وقف على قبره (1):

قف بالقبور فناد الهامدين بها

من أعظم بليت فيها وأجساد

قوم تقطّعت الأسباب بينهم

من الوصال وصاروا تحت أطواد

كيف البقاء وهذا الموت يطلبنا

هيهات هيهات يا بكر بن حمّاد

بينا ترى المرء فى لهو وفى لعب

حتى تراه على نعش وأعواد

وهو يقول قف بالقبور وناد بأعلى صوتك فلن يرد عليك أحد فقد تقطعت أسباب الوصال بينك وبين من فيها ولا سميع ولا مجيب، ويقول كيف البقاء والموت يطلبنا فى كل لحظة،

(1) الديوان ص 81.

ص: 191

وبينما المرء لاه عنه فى لهو وفى لعب إذا هو محمول على نعش وأعواد وآلة حدباء تقذف به فى مهاوى القبور. ويبكى ابنه طويلا بمثل قوله (1):

بكيت على الأحبّة إذ تولّوا

ولو أنّى هلكت بكوا عليّا

فيا ولدى بقاؤك كان ذخرا

وفقدك قد كوى الأكباد كيّا

كفى حزنا بأنى منك خلو

وأنك ميّت وبقيت حيّا

ولم أك يائسا فيئست لما

رميت التّرب فوقك من يديّا

وهو يبكى أحبته وفلذة كبده بكاء حارا، وقد كان بقاء ابنه ذخرا لا يماثله ذخر له وقد كوى فقده كبده كيّا مؤلما أشد الألم، ويقول إنه يكفيه حزنا أن مات ابنه وأنه عاش بعده يتلظى موجدة وحزنا، ولم يك يعرف اليأس إلا حين فقده، ورمت يداه عليه التراب فأظلمت الدنيا فى عينيه. ولابن الرّبيب يرثى خمسة من القواد فى عهد باديس (386 - 406 هـ) غامروا بأنفسهم فى معركة خاسرة بالزّاب، وفيهم يقول مصورا بأسهم (2):

أبت لهم أن يرتضوا الضّيم أنفس

كرام رأت رميا بها الموت أحزما

فهبّوا وما هابوا الرّدى فتدرّعوا

على خطر قطعا من الليل مظلما (3)

وهوّن وجدى أنهم خمسة مضوا

وقد أقعصوا خمسين قرما مسوّما (4)

وكان عظيما لو نجوا غير أنهم

رأوا حسن ما أبقوا من الذكر أعظما

أبوا أن يفرّوا والقنا فى نحورهم

وأن يرتقوا من خشية الموت سلّما

ولو أنهم فرّوا لفرّوا أعزّة

ولكن رأوا صبرا على الموت أكرما

وهو يقول إن أنفس هؤلاء القواد الخمسة كانت من الشعور بالعزة والكرامة بحيث أبت لهم أن يفروا بها عن الحرب فرموا بها فى أتونها وضرامها غير هائبين وتدرعوا طائفة من الليل ومضوا يتقدمون حتى لم يجدوا متقدّما وحتى تقطعت السيوف فى أيديهم. خمسة أبطال قتلوا خمسين شجاعا معلما من الأعداء، وكانوا يستطيعون النجاة ولكنهم رأوا الضرب فى الأعداء حتى النفس الأخير فإن فى ذلك ذكرا عاطرا باقيا لهم. وتكاثر عليهم الأعداء وأخذتهم الرماح من كل جانب وأبوا أن يفروا خشية الموت، ولو فروا لفروا أعزة بما أذاقوا أعداءهم من كثرة القتل والطعن، غير أنهم رأوا أن يصبروا وأن يموتوا فى ميدان الحرب، لينالوا شرف التضحية بالنفس. ويقول ابن قاضى ميلة فى وصف غريق بالبحر (5):

وما زلت أستسقى له القطر دائبا

وأستودع الريح السلام المجدّدا

(1) الديوان ص 85.

(2)

الأنموذج لابن رشيق ص 113 وما بعدها

(3)

الردى: الموت. قطعا: طائفة.

(4)

أقعصوا: قتلوا. قرما: شجاعا. مسوّما: معلما

(5)

الأنموذج ص 215.

ص: 192

فكان الذى استسقيت أول خاتل

له والذى استودعت من أعظم العد (1)

فتى فاظ بين الماء والريح روحه

وما زاره أهل ولا زار ملحدا (2)

وهو يقول إن الذى كان يستسقى القطر له ويستودع له الريح السلام حين تمر بدياره كان الماء أول خاتل غادر له إذ أتاه من حيث لا يشعر، وكان الريح من أعظم أعدائه، وقد فاظت روحه بين الماء والريح وصعدت إلى بارئها، وما زاره أهل، ولا زار لحدا، فقد ذهب أدراج أمواج البحر ولم يين له أثر. ونلتقى فى بجاية بمحمد بن على بن حماد فى القرن السابع ومراثيه للدولة الحمادية، وسنخصه بترجمة. وكان السلطان أبو حمو موسى (760 - 791 هـ) شاعرا ومرت له ترجمة فى الفصل الماضى، ومن قوله يرثى أباه (3):

قد كان لى فى الدّنى أب يساعدنى

فصار تحت الثرى فى لحده اكتنفا (4)

مددت فى ظل نعماه يدى زمنا

ونلت من رفده فى دهرى التّحفا

يا فقد يوسف ما أبقيت لى جلدا

يا فقد يوسف إنّ الصبر عنك غفا

ما مثل يوسف مفقود لفاقده

ولا كموسى أخو فقد إذا وصفا

يا قبر يوسف لا تعدوك هامية

من الغمام ولا زال الثرى وجفا (5)

وأبو حمو موسى يبكى أباه ويذكر كثرة ما كان يساعده به فى الدنيا حربا وسلما، ويذكر كم مدلّه يده فيملؤها له نعما وتحفا، وقد أصبح تحت الثرى يكتنفه اللحد من جميع جوانبه، وقد أفقده موت أبيه الصبر والجلد، ويشيد به أبا مثاليا ويدعو لقبره أن تظل السحب وافدة عليه تهمى وتهطل، ولا يزال الثرى أو القبر خافقا. ويقول محمد بن يوسف الثغرى فى تأبينه مواسيا أبا حمو موسى (6):

أسفا لمن فاق الملوك جلالة

وديانة وبكلّ فضل حوبى

أعظم به من زاهد ومجاهد

ومنيل رفد تارة ومنيب

هوت النجوم الزاهرات لفقده

وذوى من الأزهار كل رطيب

وتغيّرت شمس النهار له أسى

وتبدّلت من نورها بشحوب

وبكت سيوف الهند فى أغمادها

بدم، بماء فرندها مخضوب

ولقد بكته جياده بصهيلها

وغدت تحنّ له حنين النّيب (7)

من للوفود إذا أوت لجنابه

يلقاهم بالبشر والترحيب

والثغرى يجعله فوق الملوك جلالة ومهابة وديانة وبكل ضروب الفضل من زهد وجهاد

(1) خاتل: غادر.

(2)

فاظ: مات. ملحدا: لحدا.

(3)

كتاب أبو حمو موسى لعبد الحميد حاجيات ص 336.

(4)

الدنى: جمع دنيا. اكتنفه اللحد: أحاطه من كل جانب.

(5)

وجفا: خافقا.

(6)

انظر الجزء الثانى من بغية الرواد ليحيى بن خلدون.

(7)

النيب: الإبل المعروفة بحنينها إلى أولادها.

ص: 193

وكرم وإنابة لله، وكأنما هوت النجوم المتلألئة لفقده وذوت الأزهار الغضّة، وحتى شمس النهار تغيّرت حزنا وتبدلت من نورها بشحوب. وإن سيوف الهند التى طالما شهرها على أعدائه لتبكيه بدم مخضوب بما يلمع على صفحاتها من تموجات الضوء، وإن جيادة لتنتظره مؤملة بصهيلها التى تعبر به عن حنينها له أن يمتطيها للقاء الأعداء. ويتساءل الشاعر من سيلقى الوفود الكثيرة التى كانت تفد على بابه بالبشر والترحيب وقضاء حاجاتها الكثيرة. ويقول الشهاب الخلوف شاعر السلطان عثمان الحفصى يبكى ابنا له مات صغيرا (1):

أصبت عين المها يا موت بالرّمد

وقد أهضت جناح المجد فاتّئد (2)

ناجزت فى صرف آجال قد اقتربت

إذ لا تسلّمها إلا يدا بيد (3)

كم زدت فى نقصك العليا جوى كبد

حرّى فيا ليت لم تنقص ولم تزد

وكم تركت أبا يبكى على ولد

أذقته طعم ثكل الأمّ للولد

بنىّ ليتك لم تخلق لورى بلى

يا ليتنى لم أسم بالصبر عن شهد (4)

سقى الحيا قبرك الزاكى وواصله

سحاب عفو وغفران مدى الأبد (5)

وهو يخاطب الموت محزونا ويقول له اتئد، فقد أصبت عين الأمّ بالرمد لكثرة البكاء على من تفقدهم وحطمت جناح المجد وناجزت فى حدث الموت وأبيت إلا أن تستلم ابنى يدا بيد، وكم نقصت العليا وزدت الكبد حزنا وحرارة، وكم أذقت أبا فقده لابنه فذاق طعم حزن الأم حين تفقد ابنها. ويخاطب ابنه فليته لم يخلق لبلى جسده وعظامه حتى لا يسام أبوه ولا يكلف الصبر على ما نزل به، ويستسقى له السحاب وأن يمنحه الله عفوه وغفرانه.

ويكثر منذ أواخر عصر الدولة الحفصية رثاء التلامذة لشيوخهم الأعلام فى تلمسان وغيرها من مدن الجزائر، وكان من كبار علماء تلمسان فى القرن التاسع الهجرى محمد بن يوسف السنوسى نسبة إلى قبيلة مغربية وهو حسنى من ذرية الحسن بن على بن أبى طالب، وفيه ألف تلميذه الملالى كتابا سماه «المواهب القدسية فى المناقب السنوسية» وكان فقيها، بل كان إماما فى الفقه وفى علم التوحيد وله فيه الكتاب المشهور عقيدة أهل التوحيد وشرح مرارا، ورثاه تلميذه الشاعر محمد بن عبد الرحمن الحوضى حين توفى سنة 895 هـ/1489 م بقصيدة بديعة، وفيها يقول (6):

(1) الديوان ص 250.

(2)

أهضت: حطمت.

(3)

صرف: حدث. آجال: أعمار.

(4)

ورى بلى: اكتتام بلى. أسم: أكلف.

(5)

الحيا: الغيث. الزاكى الطاهر.

(6)

تعريف الخلف برجال السلف ص 404.

ص: 194

ما للمنازل أظلمت أرجاؤها

والأرض رجّت حين خاب رجاؤها

هذا الذى ورث النبىّ فأصبحت

علل الضلال به استفيد دواؤها

ودعا إلى التوحيد دعوة مخلص

وإلى الشريعة فاستنار ضياؤها

يا أوحد العلماء يا علما به

كلّ العلوم بدت لنا أنحاؤها

من للتآليف التى ألّفتها

يبدى بها ما استشكلت قرّاؤها

من للعلوم على اختلاف فنونها

يبدى لها نكتا يروق سناؤها

يا ربّ قدّس روحه وضريحه

ومن الجنان تحفّه نعماؤها

والحوضى يقول إن الديار أظلمت والأرض كأنما زلزلت زلزالا عظيما بموت السنوسى الذى ورث الهدى عن الرسول الكريم فكأنما علل الضلال وجدت عنده أدواءها جميعا. وعملان عظيمان له الدعوة إلى عقيدة التوحيد والشريعة وفقهها المضيئ، بل لقد أضاء للطلاب كثيرا من أنحاء العلوم التى درسها لهم لا فى الفقه والتوحيد فحسب بل أيضا فى المنطق والقراءات والفرائض وغير ذلك مما درسه وألف فيه. ويتكاثر رثاء التلاميذ لشيوخهم فى العهد العثمانى، ونسوق من ذلك رثاء: شاعر مدينة الجزائر سعيد قدورة الذى اشتهر بشرحه لمتن السلم فى المنطق والمتوفى سنة 1066 هـ/1655 م فقد رثى أستاذه محمد بن على المجاجى وكان قد توفى مقتولا وفيه يقول (1):

مصاب جسيم كاد يصمى مقاتلى

ورزء عظيم قاطع للمفاصل

ومن لفنون العلم نحوا ومنطقا

وفقها وتوحيدا وفتوى لسائل

لمنزله كانت تشدّ رحالنا

فمن راكب يسعى إليه وراجل

أحقّا قتلت الألمعىّ محمّدا

على قول حقّ لا على قول باطل

قتلت امرءا من شأنه العلم والتّقى

فيا خير مقتول ويا شرّ قاتل

ومالك يوم العرض إلا جهنّم

تقاد إليها صاغرا بالسلاسل

عليه من الرحمن أوسع رحمة

وأزكى سلام فى الضّحى والأصائل

وسعيد قدورة يقول إنه مصاب جسيم ورزء عظيم أن يقتل هذا العالم الجليل دون ذنب جناه، ويقول إلى أين يذهب طلاب العلم نحوا ومنطقا وفقها وتفسيرا وتوحيدا، وإلى من يرجعون فى الفتوى. وكانت تشد إليه الرحال من فجاج الأرض بين راكب وراجل، ويعجب أن يقتله شخص وهو لا يصدر إلا عن حق لعلمه وتقاه، وإنه لخير مقتول، أما قاتله فشر قاتل، ويتوعده أن يكون مصيره إلى جهنم يقاد إليها بالسلاسل والأغلال، أما الشيخ المقتول

(1) تعريف الخلف ص 442.

ص: 195

فعليه من ربه أوسع رحمة وأطهر سلام وأعطره. ونتوقف قليلا لنترجم لشاعر بجاية محمد بن على بن حماد.

محمد (1) بن على بن حماد القلعى

من أهل قلعة بنى حماد وفضلائها، قرأ بها وتفقه على علمائها، ثم طلب المزيد فقرأ على علماء بجاية وكان بها أبو مدين شعيب فأخذ عنه كتابه:«المقصد الأسنى فى أسماء الله الحسنى» وشرحه من فاتحته إلى خاتمته، ولزم دروس عبد الحق الإشبيلى وأخذ عنه كتاب الموطأ لمالك وغيره من الكتب، وحضر على جلّة الشيوخ فى بجاية وغيرها، وكان له برنامج يشتمل على مائتين واثنين وعشرين كتابا مسندة إلى مؤلفيها، ويبدو أنه كان ينزع نحو المذهب الظاهرى مذهب دولة الموحدين، ولذلك عيّنوه-فى رأينا-قاضيا بالأندلس فى مدينة الجزيرة الخضراء، ثم نقلوه منها سنة ثلاث عشرة وستمائة إلى سلا فى المغرب على المحيط وظل بها إلى أن توفى سنة 628 هـ/1230 م. وكان شاعرا بارعا، وله قصائد أو مراث مختلفة يرثى بها دولة بنى حماد التى أزالها الموحدون عن موطنه سنة 547 هـ/1152 م، وفى إحداها يقول (2):

أين العروسان لا رسم ولا طلل

فانظر ترى ليس إلا السهل والجبل

وقصر بلاّرة أودى الزمان به

فأين ما شاد منه السادة الأول

وما ورا الكوكب العلوىّ معتصم

وقد عرا الكوكب التغيير والبدل

وقد عفا قصر حماد فليس له

رسم ولا أثر باق ولا طلل

وإنّ فى القصر قصر الملك معتبرا

لمن تغرّره الأيام والدول

وما رسوم المنار الآن ماثلة

لكنها نبذ يجرى بها المثل

حتى المصلّى امّحت آياته وعفت

إلا جدارا وما طلّت به الطّلل (3)

كرجعك الطّرف كانت كلّ آبدة

مما تراه كذاك العمر والأجل

وهو يقول أين القصران العروسان المبهجان، لم يعد حتى رسم ولا طلل ولم يعد إلا الفضاء، وقد امّحى قصر بلارة المجيد وما شاده فيه ملوكه الأول، وامحى قصر الكوكب العلوى وقصر حماد إذ لم يبق منه رسم ولا أثر ولا طلل، وإن فى ذلك لعبرة أى عبرة لمن يغتر بالأيام والدول، وأين قصر المنار؟ إنه لم يبق منه إلا آثار يتمثل بها الناس، وحتى المصلى الذى كان يلحق بالقصور لم يبق منه إلا جدار وبقايا أطلال إذ سرعان ما زايلته النعمة سريعا وزايلت كل آبدة

(1) انظر فى ترجمة محمد بن على بن حماد عنوان الدراية ص 218 وتعريف الخلف ص 487 وتاريخ الجزائر فى القديم والحديث للميلى ص 634 وتاريخ الأدب الجزائري للأستاذ محمد الطمار ص 123.

(2)

الميلى ص 634 والطمار ص 123.

(3)

الطّلل: جمع طلل.

ص: 196

وغريبة مما كان فى القصور من عجائب ونقوش، فكل ذلك ذهب كرجعك الطرف إلى غير مآب كما تذهب الأعمار والآجال، ويقول (1)

ألا ليت شعرى هل أبيتنّ ليلة

بوادى الهوى ما بين تلك الجداول

وهل أسمعن تلك الطيور عشيّة

تجاوب فى تلك الغصون البلابل

وهل أردن عين السلام على الصّدى

فأبرد من حرّ الضلوع النواهل (2)

وانظر طيقان «المنار» مطلّة

على الوجنات الزاهرات الخمائل (3)

كأن القباب المشرفات بأفقه

نجوم تبدّت فى سعود المنازل

فإن ثنت الأيّام عنها أعنّتى

وأنزلننى فى غير تلك المنازل

فصبر جميل غير أنّ صبابتى

ستبقى بقاء الطالعات الأوافل

وابن حماد يتمنى فى غربته الطويلة ببلاد المغرب والأندلس لو بات ليلة بوادى بجاية: وادى الهوى والحبّ بين جداولها يتسمع إلى الطيور وهى تجاوب البلابل فى المساء، ويتمنى أن يرد على عين السلام ليبرد صداه ويشفى ظمأه الطويل وحر ضلوعه، وينظر طيقان المنار وهى مطلة على الخمائل المزهرة فوق الأرض الصخرية حول بجاية، ويتصور كأن قباب هذا القصر التى كانت تشرف على ما حوله نجوم مسعدة. ويمتلئ شوقا وحنانا لبلدته بجاية فيقول إن ثنت الأيام أعنتى عنها إلى سلا وغير سلا من مدن المغرب والأندلس فسأفزع إلى الصبر الجميل ولكن صبابتى ببلدى وموطنى ستظل جاثمة فى فؤادى ما حييت، وستظل باقية بقاء النجوم الطالعات الأوافل، ويقول فى عين السلام (4):

على عين السلام سلام صبّ

غذاه ماؤها العذب النّمير

تأوّد أيكها وجرت صباها

وشمّ لها كما فتق العبير

وأبرد ما يكون الجوّ فيها

وأندى حين يحتدم الهجير

وقد قام المنار على ذراها

كما قام العروس أو الأمير

بناء يزدرى إيوان كسرى

لديه والخورنق والسّدير

وهو يرسل بالتحية إلى عين السلام التى طالما نهل من مائها العذب الصافى الزاكى، وإن أيكها أو شجرها ليتثنى بفعل الرياح ويهب صباها عليلا حاملا منها شذى عطرا، وحين تشتد حرارة الهاجرة وراء بجاية فى الصحراء تصبح بجاية أبرد وأندى ما تكون، وإن قصر المنار ليقف فى أعاليها وكأنه عروس ينتظر الزفاف أو أمير ينتظر الموكب الحافل، وإنه

(1) المرجعين السالفين.

(2)

الصدى: العطش.

(3)

الوجنات: مرتفعات الأرض.

(4)

انظر فى الأبيات التالية الميلى ص 634 والطمار ص 123.

ص: 197