الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ابن (1) حبّوس
هو أبو عبد الله محمد بن حسين بن عبد الله بن حبّوس، ولد بفاس سنة 500 هـ/1107 م وبها منشؤه ومرباه فى الكتاتيب وحلقات العلماء ومجالس الأدباء، حتى أصبح متفننا فى الكلام واللغة والبيان، وتفتحت شاعريته مبكرة فى صباه، ورحل إلى تلمسان وظل بها فترة، وعاد إلى مراكش فى عهد المرابطين وأصبح فى طليعة شعرائهم، وندّت منه ترّهات جعلته يبرح مراكش إلى الأندلس ويظل بها إلى أن علا نجم عبد المؤمن مؤسس دولة الموحدين واستولى على مراكش سنة 541 هـ/1146 م فعاد إليها واستوطنها، ولزم الدروس التى كان يلقيها عبد المؤمن على طلابه وأتباعه، وألقى بين يديه قصيدة أنشدها صاحب نظم الجمان لعلها أولى مدائحه له، وفيها يقول:
بخليفة المهدىّ سيّدنا اغتدى
…
نهج العلوم معبّدا ومذلّلا
وافيت حضرته المقدّس تربها
…
فإذا الذى أبصرت لن يتخيّلا
وسمعت كلّ مذاهب الحق التى
…
ما إن ترى عن مقتضاها معدلا
وبصرت بالطوسىّ يفهق حوله
…
وأبى المعالى مجملا ومفصّلا
فالحق بحضرته السنيّة واستمع
…
للقول واحذر-ويك-أن تتقوّلا
فيها كمال الدين والدنيا معا
…
وسعادة الأرواح فى أن تكملا
وهو يقول إن نهج العلوم أصبح ممهدا ومذللا بفضل عبد المؤمن خليفة المهدى، ويصف حضرته بأن ترابها مقدس، وأن ما رآه بها من علم عبد المؤمن أوسع من أن يحيط به خيال، ويقول إنه سمع منه كل مذاهب الحق من دعوة الموحدين التى لا يجوز العدول عن مذاهبها ومبادئها، وكأنما بصر بالغزالى الطوسى وبيانه الغزير الرائع وبأبى المعالى الجوينى إمام الحرمين وفكره الثاقب، فالحق به وبحضرته ودعوته التى تحقق لك كمال الدين والدنيا معا.
وبذلك لم يكن مادحا لعبد المؤمن فحسب، بل كان أيضا داعية لمبادئ الموحدين ودعوتهم، فهو شاعره، وهو داعيته، وكان عبد المؤمن يشغف بشعره، فلزمه فى حركاته وسكناته، وإن سار كان فى ركابه، على نحو ما نراه معه فى فتحه لبجاية سنة 547 هـ/1152 م وله فى حصار عبد المؤمن لها جيمية يقول فى مطلعها مخاطبا حاكمها الحمادى يحيى بن العزيز:
(1) انظر فى ترجمة
ابن حبوس
وأشعاره الذيل والتكملة لابن عبد الملك المراكشى 8/ 1/293، وزاد المسافر لصفوان ونظم الجمان لابن القطان تحقيق د. محمود مكى (طبع بيروت) ص 174 والمعجب للمراكشى (طبع القاهرة) ص 282 والتكملة لابن الأبار (طبعة كوديرا) رقم 1055 والمطرب لابن دحية ص 199 والمنّ بالإمامة لابن صاحب الصلاة (طبع بيروت) ص 71 والوافى بالأدب العربى فى المغرب الأقصى للأستاذ ابن تاويت 1/ 91 - 115 والنبوغ المغربى للأستاذ كنون 1/ 176، 3/ 23، 196.
شدّت إليك على الرّياح سروج
…
أين الفرار بأهلكم ياجوج
ثم اتجه بالخطاب إلى عبد المؤمن فقال:
عصفت بدعوتك الرياح الهوج
…
وسطا بأمرك ذابل ووشيج (1)
وتقدّمتك إلى العدوّ مهابة
…
يشقى بها فى سدّه ماجوج
وهو يشير بياجوج وماجوج إلى ما جاء فى سورة الكهف عن يأجوج ومأجوج وأنهما مفسدون فى الأرض وأن قومهم لجئوا إلى ذى القرنين ليرفع عنهم فسادهم، يقول جلّ شأنه:{قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} وكأن إفسادا كبيرا حلّ ببجاية جعل أهلها يستغيثون بعبد المؤمن ليرفع عنهم هذا الإفساد الذميم، ويسمى الشاعر يحيى بن العزيز تارة باسم يأجوج وتارة باسم مأجوج. ويفتح عبد المؤمن بجابة، ويعود إلى عاصمته مراكش، ويستقبل فى شهر شوال سنة 552 مصحف عثمان الذى أمر بنقله من قرطبة إلى مراكش، ويمتدحه ابن حبّوس بهذه المناسبة منشدا من قصيدة:
سيشكر المصحف اكبابكم
…
عليه إذ أوجده الفقد
مصحف ذى النّورين عثمان ما
…
كان لكم عن صونه بدّ
ما اختار شيئا مؤنسا غيره
…
حين أتى-واقترب-الوعد
أوسعتم الدنيا اطراحا وما
…
كان لكم إلا به وجد
يحنو عليه العطف منكم ولا
…
يغبّه الإشفاق والودّ
ألبستموه حلية لم يكن
…
يسمح للكفّ بها الزّند
وهو يبالغ إذ يقول إن المصحف سيشكر له عنايته به ونقله إلى مراكش لصونه خشية فقده، وهو مصحف عثمان الذى استشهد وهو بين يديه يتلو فيه، وقد اتخذه مؤنسه فى اللحظات الأخيرة من حياته وإنكم لتشغفون به أكبر الشغف. ودفعته مبالغاته فى مديح عبد المؤمن إلى أن يقول إنه يحنو على المصحف بعطفه، ودائما يودّه ويشفق عليه. وله فى المصحف أخرى زاد فيها من مثل هذه المبالغات وأفرط، وأشار ابن حبوس فى البيت الأخير إلى تجديد عبد المؤمن لدفتى المصحف وتحليتهما بالجواهر النفيسة بحيث لم تعد الكف الواحدة تستطيع حمله. وكان النورمان قد استولوا على المهدية وطرابلس واستغاث
(1) ذابل: سيف. وشيج: رمح.
أهلهما بعبد المؤمن فلبّاهم بجيش جرار قلّم به أظفار أمراء الجزائر وإفريقية التونسية الخارجين عليه وفتح المهدية سنة 555 هـ/1160 م وطرد النورمان منها ومن سواحل إفريقية التونسية وطرابلس. ويهنئه ابن حبوس بفتح المهدية مقارنا فى مطلعها بين المهدى العبيدى الذى بناها واختار لها لوقت بنائها برج الأسد وبين عبد المؤمن الذى خلصها من النورمان:
بطالع الأسد اختطّ البناء بها
…
لكنك الأسد الدّامى الأظافير
ويقول ابن عبد الملك فى الذيل والتكملة: «بعد انصراف عبد المؤمن من فتح المهدية سنة 554 هـ/1159 م فارقه ابن حبوس وعاد إلى مسقط رأسه فاس فاستوطنها» ويبدو أنه كان يرحل إليه من فاس مادحا بمثل قوله فى إحدى مدائحه:
أمير المؤمنين لقد أضاء ال
…
زّمان بنور عدلك واستنارا
لكم شرقا البلاد ومغرباها
…
وأمركم مع الفلك استدارا
ومن قد فرّ عنكم من عدوّ
…
فنحوكم إذا يبغى الفرارا
ولو خوّفتم أعلام رضوى
…
لما سكنت ولا وجدت قرارا
والمبالغة واضحة فى الأبيات، فالفلك يجرى طوع أمره، ومن فرّ عنكم لا بد أن يفر إليكم إذ تملئون عليه جميع مسالكه، وحتى لو خوّف عبد المؤمن جبال رضوى الراسخة فى المدينة من قديم ما استقرت ولا وجدت لها قرارا. وصاحب المعجب محق حين يرى عنده هذه المبالغات المفرطة فيشبّهه بابن هاني فى مديح المعز الفاطمى وما يضمّنه من تهويلات وقعقعات. ونراه يرافق عبد المؤمن فى أواخر سنة 555 حين عبر الزقاق من سبتة إلى مرفأ جبل طارق، واحتفل الناس بقدوم عبد المؤمن احتفالا عظيما، ولما أذن للشعراء بالإنشاد بين يديه أنشده شعراء كثيرون أندلسيون ومغاربة وفى مقدمتهم ابن حبوس: ومن قوله فى قصيدته:
بلغ الزمان بهديكم ما أمّلا
…
وتعلّمت أيامه أن تعدلا
وبحسبه أن كان شيئا قابلا
…
وجد الهداية صورة فتشكّلا
ولأنتم الحقّ الذى لا يمترى
…
فيه وليس بجائز أن يجهلا
ولأنتم سرّ الإله وأمركم
…
ملأ العوالم مجملا ومفصّلا
عزلت ولاة الحسّ عن إدراكه
…
فهو المنزّه حسبه أن يعقلا
ولو أننا لم نعرف ناظم هذا الشعر وممدوحه وسمعناه لظننا أنه ابن هاني يمدح المعز الفاطمى لهدايته للزمان وتشكيله له مع العدالة، وإنه للحق الذى لا شك فيه بل سر الإله، وأمره يملأ العالم وإنه ليعز على الحسّ أن يدرك كنهه إنما يدركه العقل. وأنشد له ابن عبد الملك قصيدة فى دعوة الموحدين والزهد والتمسك به، وفيها هاجم الفلسفة والمتفلسفة، وله أشعار بديعة فى الوصايا والأمثال وذم الزمان والاعتبار، وعاش حتى سنة 570 هـ/1174 م.