الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الغزال أجمة أسود، به الشبل ناشئ مع بنت عمه التى تشبه ابنة البقرة الوحشية، وكل منهما يختلس النظر إلى الآخر تعبيرا عن غرام مكتنّ لا يشعر به الحى، وباللحظ وحده يضطرم الهوى، وطرف يغرى به وفؤاد لا يزال طاهرا بريئا. وهى لوحة بديعة لفتيات البادية. ومن قوله متغزلا:
هذا فؤادى أقصدته الأسهم
…
من ذا يرى تلك الجفون ويسلم (1)
يا غرّة حكم الجمال لها على
…
شمس الضحى وأصاب فيما يحكم
يضحى الخلىّ إذا رآها عاشقا
…
والعقل توقظه اللحاظ النّوّم
وكأن قامتها ونغمة لفظها
…
غصن عليه بلبل يترنّم
فقد أصابت فؤاده الأسهم المصوبة من عينى صاحبته، ويقول إن أحدا لا يسلم من تلك السهام إذا نظر إلى جفونها الجميلة، ويقول إنها غرة شديدة البياض حتى ليحكم الجمال لها على شمس الضحى، وهو مصيب فى حكمه، وإن الخلىّ الذى لم يتعود الحب حين يراها يصبح عاشقا للحاظها الفاترة الجميلة، ويشطح به الخيال، فيقول إنه يخيل إليك وقد رأيت قامتها الممشوقة تصدح بالغناء أنك ترى غصنا يتغنى فوقه بلبل جميل-ويقول:
هم نظروا لواحظها فهاموا
…
وتشرب عقل شاربها المدام
يخاف الناس مقلتها سواها
…
أيذعر قلب حامله الحسام
سما طرفى إليها وهو باك
…
وتحت الشمس ينسكب الغمام
وأذكر قدّها فأتوح وجدا
…
على الأغصان تنتدب الحمام
وأعقب بينها فى الصّدر غمّا
…
إذا غربت ذكاء أتى الظلام
وهى قطعة بديعة بتصاويرها الرائعة، فحين نظروا إلى لواحظها سكروا وهاموا كشارب للخمر لم تبق له من عقله شيئا، والناس لفتنة عينيها يخافون من النظر إليها وطبيعى أن لا تخاف لأن الحسام لا يخيف حامله. وقد نظر إليها طرفه باكيا، وكأنها الشمس ينسكب تحتها الغمام، ويقول إنه يذكر قدها الممشوق فينوح كما ينوح الحمام على الأغصان، وإن بينها وبعدها أنشأ فى صدره غما كما ينشأ الظلام حين تغرب الشمس. وهى مقابلات فى غاية الطرافة وتدل على شاعرية خصبة. وقبيل وفاته سنة 604 هـ/1208 م نظم أشعارا زاهدة كثيرة.
2 -
شعراء الوصف
الوصف قديم فى الشعر العربى يصف فيه الشعراء الطبيعة برياضها وأزهارها وحيوانها وصحرائها وزروعها حتى إذا تحضروا وصفوا القصور وأدوات الحضارة وملاهيهم المختلفة،
(1) أقصدته: أصابته.
ولم تقع أعينهم على شئ من أرض أو سماء إلا سجلوه ووصفوه، يصفون الأنهار والبحار والسفن كما يصفون النجوم والشمس والقمر والسحب والأمطار والطير. وكما وصفوا السهول والوديان وصفوا الجبال والكثبان والأشجار والغابات. ونجد الوصف على كل لسان منذ عصر المرابطين، من مثل قول القاضى ابن زنباع فى وصف الربيع (1):
أبدت لنا الأيام زهرة طيبها
…
وتسربلت بنضيرها وقشيبها
واهتزّ عطف الأرض بعد خشوعها
…
وبدت بها النعماء بعد شحوبها
وتطلّعت فى عنفوان شبابها
…
من بعد ما بلغت عتىّ مشيبها
وقفت عليها السّحب وقفة راحم
…
فبكت لها بعيونها وقلوبها
فعجبت للأزهار كيف تضاحكت
…
ببكائها وتباشرت بقطوبها
وتسربلت حللا تجرّ ذيولها
…
من لدمها فيها وشقّ جيوبها (2)
وهو يقول إن الأيام أبدت لنا أروع طيب لديها: طيب الربيع، ولبست أروع حللها وأجدّها، واهتزت جوانب الأرض خصبا بعد جدبها، وتراءت النعماء فتية بعد شحوبها، وتطلعت لمفاتنها فى عنفوان شبابها بعد أن كانت شابت وبلغت من شيخوخة الجدب عتيّا، فقد وقفت عليها السحب راحمة لها عاطفة وبكت لها بكاء حارّا، ويقول إنه عجب للأزهار تضحك وتبتهج لبكائها وعبوسها، وسرعان ما لبست حللا سابغة بما حدث لها من ضرب الأمطار لها وشق مداخلها. ولما جاء الموحدون بالقاضى عياض مغلولا من سبتة إلى مراكش ومر بواد يقال له «داى» سمع قمرية تسجع، فقال (3):
أقمريّة الأدواح بالله طرّبى
…
أخا شجن بالنّوح أو بغناء (4)
فقد أرّقتنى من هديلك رنّة
…
تهيّج من برحى ومن برحائى (5)
لعلك مثلى يا حمام فإننى
…
غريب بداى قد بليت بداء
فكم من فلاة بين داى وسبتة
…
وخرق بعيد الخافقين قواء (6)
يذكرنى سحّ المياه بأرضها
…
دموعا أريقت يوم بنت ورائى
ويعجبنى فى سهلها وحزونها
…
خمائل أشجار ترفّ رواء (7)
لعل الذى كان التفرّق حكمه
…
سيجمع منا الشمل بعد تناء
وهو يقول لقمرية الأشجار طربّى أخاهم وشجن بالنوح أو بالغناء فقد أسهرنى من غنائك رنّة هيجت من شدائدى، لعلك مثلى غريبة تنوحين على قرينك وأولادك، وكم من فلاة بين
(1) قلائد العقيان ص 259.
(2)
لدم: ضرب.
(3)
المنتقى لأحمد بن القاضى 1/ 547.
(4)
الأدواح جمع دوحة: الشجرة العظيمة.
(5)
برحى وبرحائى: شدائدى.
(6)
خرق: مفازة. قواء: مقفر.
(7)
ترف: ناضرة. رواء: منظرها جميل.
داى وسبتة وكم من مفازة متباعدة الجانبين مقفرة، وإن سحّ المياه بأرضها ليذكرنى دموع زوجتى وأولادى ورائى يوم رحلت، وإنّي لتعجبنى خمائل داى الناضرة ذات المنظر الجميل، ولعل الله الذى حكم بالتفرق بينى وبين أهلى يجمع الشمل بعد فراق وبعد بعيد. ويقول أبو الربيع الموحدى فى وصف الربيع (1):
حىّ الربيع بما وشّت أزاهره
…
ونظّمت من أكاليل على الشّجر
ودبّجت فوق متن الروض من حلل
…
ونمّقته بألوان من الزّهر
من نرجس ساحر الألحاظ ذى غنج
…
ومن أقاح نقىّ الثّغر ذى أشر (2)
بما تضوّع روض الزهر غبّ حيّا
…
تأكّد الشكر للنّعما على البشر
لا يحسب الناس أن الروض فاح لهم
…
طوعا ولكنّه يثنى على المطر
وهو يطلب من كل قارئ له أن يحيى الربيع بما وشت ونقشت أزاهره وبما نسقت من تيجان الزهر على الشجر وبما زينت الروض من حلل نمّقتها بألوان من الزهر: من نرجس مدلّ ساحر الألحاظ ومن أقاح ذى حزوز نقى الثغر، وقد وجب الشكر على الناس لهذه النعمة العظيمة مما ينشر روض الزهر عقب الحيا أو المطر من عطر زكى، ولا يظن الناس أن الروض فاح به لهم، وإنما فاح به ثناء وشكرا للمطر. ويقول أبو القاسم الشريف السبتى المشهور بالغرناطى المتوفى سنة 760 فى ناعورة (3) (ساقية):
وذات سير إذا حثّت ركائبها
…
حنّت فراقتك فى مرأى ومستمع
كأنها فلك دارت كواكبه
…
على الرياض بنوء غير منقشع
تماثل السّحب صوبا بل تخالفها
…
إذا استهلّ حيا الهتّانة الهمع (4)
هذى من الماء تعلو كلّ منخفض
…
وتلك تنزل منه كلّ مرتفع
يقول إنها إذا أسرعت دواليبها سمعت صوتا فيه حنان فراقتك فى منظرها وصوتها، وكأنها فلك دارت كواكبه أو دواليبه على الرياض بمطر مستمر لا ينقشع. ويقول إنها تماثل السحب فيما تسقط من مطرها، ويعود، فيقول بل تخالفها إذا انهمرت أمطارها، فالناعورة تسقى كل منخفض بينما السحب تسقى المرتفعات من الجبال والتلال. ويقول فى وصف سفينة تمخر به البحر:
وغريبة الإنشاء سرنا فوقها
…
والبحر يسكن تارة ويموج
عجنا نؤمّ بها معاهد طالما
…
كرمت فعاج الأنس حيث تعوج
وامتدّ من شمس الأصيل أمامنا
…
نور له مرأى هناك بهيج
(1) الوافى 1/ 205.
(2)
أشر: حزوز. والشعراء يشبهون الثغور بالأقاح.
(3)
انظر فى هذه الأبيات وتاليتها الوافى 2/ 435.
(4)
الهتانة الهمع: السحابة الهاطلة.
فكأن ماء البحر ذائب فضّة
…
قد سال فيه من النّضار خليج
وهو يقول إنها سفينة بديعة الصنع سرنا عليها والبحر تارة يسكن وتارة يموج، وعرجنا نؤمّ أماكن طيبة وعرّج معها الأنس، وامتد أمامنا من شمس الأصيل نور بهيج، وكأن ماء البحر فضة ذائبة امتدت فوقه شمس الأصيل فاستحال خليجا من النضار أو الذهب. ويقول عبد المهيمن الحضرمى المتوفى سنة 749 للهجرة فى وصف السّحر وانبثاق أضواء الفجر (1):
تراءى سحير والنسيم عليل
…
وللنّجم طرف بالصباح كليل
وللفجر نهر خاضه الليل فاعتلت
…
شوى أدهم الظلماء منه حجول (2)
فمزّق ساجى الليل منه شرارة
…
وخرّق ستر الغيم منه نصول
تبسّم ثغر الروض عنه ابتسامة
…
وفاضت عيون للغمام همول (3)
ومالت غصون البان نشوى كأنها
…
يدار عليها من صباه شمول (4)
وغنّت على تلك الغصون حمائم
…
لهن حفيف دونها وهديل (5)
إذا سجعت فى لحنها ثم قرقرت
…
يطيح خفيف دونها وثقيل (6)
وهو يقول إن السحر تراءى ومعه نسيم رقيق وأصاب طرف النجم ببعض الكلال، وكأنما الفجر نهر خاضه الليل فاعتلى أطراف حصان الظلماء بياض فى قوائمه، ومزقت منه شرارة سكون الليل وخرّق ستار الغيم منه ما يشبه نصول الرماح، وتبسم ثغر الروض، وفاض الغمام بسيول من المطر، وانتشت غصون البان وكأنما يدار عليها كئوس من ريح الصبا الجميلة، وأخذ الحمام يغنى على الغصون، ويسمع حفيفه وهو يسقط على الأغصان وترانيمه، ويقول إن الحمائم إذا ترنمت وردّدت صوتها فاق لجماله الخفيف والثقيل مما يلحّنه المغنون. وينشد أحمد بن يحيى الشّفشاوى المتوفى أيام المنصور السعدى سنة 1001 للهجرة فى روض (7):
أما ترى الطير بالأدواح ساجعة
…
أدمت أناملها أوتار عيدان
تحكى مزامير من لان الحديد له
…
تشدو بالاجزال فى رصد وزيدان (8)
تنفى عن الصبّ ما بالقلب من كرب
…
بل تترك الصبّ فى تيه الهوى عانى
والبان يرقص من ترجيعها طربا
…
والزهر يفترّ عن أثغار مرجان
والماء منسكب والظلّ منسحب
…
وللنسيم هبوب ينعش الفانى
وهو يقول إن الطير يترنم فى الأشجار وقد أدمت أناملها الحمراء ما تقف عليه متغنية من
(1) الوافى 2/ 446.
(2)
شوى: أطراف ويريد القوائم. حجول: بياض.
(3)
همول: دافقة.
(4)
شمول: خمر.
(5)
هديل: صوت الحمام.
(6)
قرقرت: رددت. يطيح: يسقط.
(7)
النبوغ المغربى 3/ 137.
(8)
الرصد والزيدان: من ألحان الغناء.
أوتار العيدان تحكى بغنائها مزامير داود الذى ألان له الله الحديد، وتشدو بأنغام الرصد والزيدان، وتنحّى عن المحب ما بقلبه من كرب الحب بل تجعله كأنه أسير لحبه يردد صبابته فيه، والبان يرقص من ترديد صوتها وترنمها طربا، والزهر يضحك عن ثغور لؤلؤية، والأمطار تنسكب والظل ينسحب، ويهب نسيم منعش. ونمضى إلى بواكير العصر العلوى، ويقول أبو على اليوسى المتوفى سنة 1102 للهجرة فيما بين الزهر والمطر من علاقة قديمة (1):
إن بين الغمام والزّهر الغ
…
ضّ لرحما قديمة وإخاء
بان إلف عن ألفه فتوارى
…
فى الثّرى ذا وذاك حلّ السماء
فإذا ما الغمام زارت جنابا
…
آذنت فيه بالحبيب اللقاء
ذكرت عهده القديم فحنّت
…
عند لقياه فاستهلّت بكاء
فترى الزّهر بارزا من خبايا
…
هـ يحيّى الوفود والأصدقاء
راقصا والصّبا تهنّيه والور
…
ق غوانى القيان تشدو غناء
وهو يقول إن بين الغمام والزهر مودة قديمة وإخاء، وقد بان كل عن صاحبه فالزهر توارى فى الثرى والغيم تعالى فى السماء، فإذا ما الغمام زار ناحية آذنت حبيبها فيه باللقاء ويذكر الغمام عهده القديم فيبكى بمطر منهمر، وترى الزهر بارزا من كل مكان يحيى وفود أصدقائه من الأمطار، وكأنه يرقص وريح الصبا تهنّيه، والحمام قيان الرياض يشدو غناء. ويقول ابن زاكور المتوفى سنة 1120 للهجرة يصف روضا (2):
مدّ للسّلوان أشراك النّظر
…
فى ابتهاج الروض من وجد المطر
وتلقّ الأنس عن آس الرّبى
…
وارو طىّ النّور عن نشر السّحر
وارتشف ثغر أقاح باسما
…
واصطبح بالطلّ من كأس الزّهر
والتثم وجه المنى مستبشرا
…
حيث رام الغصن تقبيل النّهر
وجلا الورد خدودا أشربت
…
خمرة العقيان من فرط الخفر
وحبا الخيرىّ أنفاس الصّبا
…
نفحات أنشرت ميت الفكر
وانبرى النّسرين يهدى ذهبا
…
فى صحاف مترعات من درر
نظّمت فى جيده أنداؤه
…
عقد درّ كلما ماس انتثر
وهو معجب بروض بديع، ويقول: مدّ فيه حبالات النظر لعلك تجلب لنفسك شيئا من ابتهاج الروض بما سقط عليه من المطر، وتلقّ الأنس فيه عن آس الربى البديع، وتمتع بروائح النور أو الزهر التى نشرها فى السحر، وارتشف السرور من ثغر الأقاح الباسم.
(1) النبوغ المغربى 3/ 141.
(2)
النبوغ المغربى 3/ 139.
وليكن صبوحك بالطل تنعم برؤيته فى كئوس الزهر، ولتلثم وتقبّل وجه الأمانى مستبشرا، حيث كل شئ من حولك ينعم بالقبل كما تقبّل الأغصان النهر، وأبدى الورد خدودا مشربة بحمرة الذهب من فرط الحياء والخفر، وآثر زهر الخيرىّ أنفاس الصبا بنفحات تحيى ميت الفكر، وأخذ زهر النسرين يهدى ذهبا فى صحاف مليئة بالدرر، ونظمت الأنداء فى جيد الروض عقد لآلئ كلما تحرك انتثر. وحرى بنا أن نتحدث عن وصاف كبير فى العهد السعدى.
عبد (1) العزيز الفشتالى
هو أبو فارس عبد العزيز بن محمد الفشتالى، آباؤه من قبيلة فشتالة فى الشمال الغربى لفاس، ولذلك نسب إليها، وقد ولد سنة 956 هـ/1549 م وتوفى سنة 1031 هـ/1622 م، وتتلمذ لأئمة عصره من الفقهاء والنحاة واللغويين، وأقبل على حفظ الشعر والنثر حتى نضجت ملكته الأدبية، مما جعله يلتحق بدواوين الدولة السعدية، وأعجب به المنصور الذهبى، فجعله على رأس دواوينه، وأخلص له أشد الإخلاص، فعاش يقدّم له مدائحه، ويؤرخ لدولته المنصورية السعدية، ووصفه المقرى فى كتابه: روضة الآس بقوله: «وزير القلم الأعلى، الوارد من البلاغة والبراعة المنهل الأحلى، نشأة الدولة المنصورية (دولة المنصور الذهبى) وكاتم أسرارها، ومنزل القوافى من قننها ومستعبد أحرارها، المقدم فى الفضائل والمحاسن» . ويقول أحمد بن القاضى عنه فى كتابه درّة الحجال: «فقيه أديب، ناثر ناظم، علىّ الهمة، متين الحرمة، فصيح القلم، زكى الشّيم، ركن البلاغة والبراعة، وفارس الدواوين واليراعة» . وكما كان رئيسا لدواوين المنصور كان شاعره الرسمى، وكما كان شاعرا كاتبا أو أديبا كان عالما مؤرخا لدولة المنصور وترجم لمعاصريه فى كتابه «مناهل الصفا» وهو أحد المصادر التى نرجع إليها فى العصر. وله ميلاديات نبوية كثيرة سوى الغزليات والمراثى، وله أمداح سياسية كثيرة للمنصور، وبجانب ذلك له أشعار فى وصف قصر المنصور المسمى بالبديع ومبانيه وقببه وما ازدان به من التماثيل والنقوش، مما يدلّ-بوضوح-على مدى الحضارة المترفة التى اتصف بها عصر المنصور الذهبى. وفى الإشادة بقصر البديع يقول عنه فى كتابه:«المناهل» : إنه من الآثار التى لم يخلق مثلها فى البلاد. . وإنه المثل المضروب فى الأرض عظمة وضخامة، وجلالة وفخامة، وتفننا وتأنقا، وفى وصف مبانيه يقول:
(1) انظر فى ترجمة الفشتالى وأشعاره روضة الآس ص 112 ودرة الحجال 2/ 130 والمنتقى (انظر الفهرس) ونشر المثانى 1/ 241 وخلاصة الأثر للمحبى 2/ 425 والنبوغ المغربى 1/ 412، 3/ 128 وما بعدها والوافى 3/ 681 وما بعدها. وراجع ديوانه مع دراسة له بتحقيق السيدة نجاة المرينى.
سلبت تماثلها الحجا لما اغتدت
…
تزهو بحسن طرازها تذهيبا (1)
ولقد تشامخ فى العلوّ سماكها
…
فجرى على الفلك المنير جنيبا (2)
وسما إلى الشّهب الزواهر فاغتدى ال
…
إكليل منها تاجها المعصوبا (3)
أضنى الغزالة حسنه حسدا لذا
…
أبدى عليها للأصيل شحوبا (4)
وانقضّت الزّهر المنيرة إذ رأت
…
زهر الرياض به ينور عجيبا (5)
وهو يقول إن تماثلها (تماثيلها والصور المنقوشة فى القصر) سلبت العقول بما تزهو به من طرزها المذهبة، وقد تمادى فى الارتفاع سماكها حتى غدا القصر كأنه مجنوب تابع للفلك العلوى، وظل فى ارتفاعه حتى استقر بين النجوم، وأصبح كأنه المجموعة النجمية المسماة بالإكليل، بل غدا كأنه تاجها المعصوب. وناهيك بحسنه، فقد أضنى الشمس وبدا شحوبها واضحا فى وقت الأصيل، أما النجوم المنيرة فانقضّت إذ شاهدت أنوار زهر رياضه تضيء ضياء عجيبا. وله مما كتب على بهو فى القصر بمرمر أسود فى مرمر أبيض:
لله بهو عزّ منه نظير
…
لما زها كالروض وهو نضير
رصفت نقوش بناه رصف قلائد
…
قد نضّدتها فى النّحور الحور (6)
فكأنها والتّبر سال خلالها
…
وشى وفضّة تربها كافور (7)
شأو القصور قصورها عن وصفه
…
سيّان فيه خورنق وسدير
فإذا أجلت اللحظ فى جنباته
…
يرتدّ وهو بحسنه محسور (8)
صفّت بضفّتها تماثل فضّة
…
ملك النفوس بحسنها تصوير (9)
ما بين آساد يهيج زئيرها
…
وأساود تسلى لهنّ صفير
وهو يقول ما أروعه بهوا يعز نظيره لما يجرى فيه من نضرة وجمال، وقد صفّفت نقوش بنائه تصفيف قلائد سوّتها على النحور فاتنة أو فاتنات، وكأن هذه النقوش والتبر يسيل خلالها وشى بديع ونقوش على فضة شديدة البياض كزهر الكافور. إن البديع ليسمو على كل القصور حتى على قصرى الخورنق والسدير اللذين كانا بقرب الحيرة فى الجاهلية، وحين تجيل البصر فى جوانبه يرتد حسيرا كليلا لروعة ما تشاهد، وقد صفت بضفة هذه النقوش صور فضية تخلب الألباب بجمال تصويرها سوى ما تراه هناك من آساد يخيل إليك أنها حية تزأر وجماعات
(1) تماثلها: تماثيلها المنقوشة فى القصر. الحجا: العقل.
(2)
جنيبا: محاذيا له.
(3)
الشهب: النجوم. المعصوب: المعقود.
(4)
الغزالة: الشمس.
(5)
ينور: يضيء.
(6)
نضدتها: نسقتها.
(7)
التبر: الذهب.
(8)
محسور: كليل ضعيف.
(9)
تماثل: تماثيل ونقوش.
من الطير كأنها تصفر صفيرا متصلا. ويتسع فى وصف قبة القصر، وما تشرف عليه من النهر والأزهار، ويستهل وصفه بقوله على لسانها:
سموت فخر البدر دونى وانحطّا
…
وأصبح قرص الشمس فى أذنى قرطا
وصغت من الإكليل تاجا لمفرقى
…
ونيطت بى الجوزاء فى عنقى سمطا (1)
ولاحت بأطواقى الثريّا كأنها
…
نثير جمان قد تتبّعته لقطا
وعدّيت عن زهر النجوم لأننى
…
جعلت على كيوان رحلى منحطّا (2)
وأجريت من فيض السماحة والنّدى
…
خليجا على نهر المجرّة قد غطّى
والقبة تقول إننى سموت وتعاليت فى السماء، فسقط البدر دونى وأصبح قرص الشمس فى أذنى قرطا، وجعلت من نجوم الإكليل تاجا لمفرق رأسى، وتعلقت نجوم الجوزاء فى جيدى عقدا ثمينا، ولاحت فى الأعالى الثريا ونجومها وكأنها فتات فضة تعقّبته لقطا، وتجاوزت النجوم إلى كيوان (زحل) ووضعت عليه رحلى، وأجريت من السماحة والندى خليجا غطى على نهر المجرة فى السماء وفاقه. ويستمر فى وصف النهر الذى تشرف عليه القبة:
تنضنض ما بين الغروس كأنه
…
وقد رقرقت حصباؤه حيّة رقطا (3)
حواليه من دوح الرياض خرائد
…
وغيد تجرّ من خمائلها مرطا (4)
إذا أرسلت لدن الفروع وفتّحت
…
جنى الزهر لاح فى ذوائبها وخطا (5)
يرنّحها مرّ النسيم إذا سرى
…
كما مال نشوان تشرّب إسفنطا (6)
يشقّ رياضا جادها الجود والندى
…
سواء لديها الغيث أسكب أم أبطا
وسالت بسلسال اللجين حياضه
…
بحارا غدا عرض البسيط لها شطّا (7)
تطلّع منها وسط وسطاه دمية
…
هى الشمس لا تخشى كسوفا ولا غمطا (8)
حكت وحباب الماء فى جنباتها
…
سنا البدر حلّ من نجوم السما وسطا
وهو يقول إن النهر تجرى مياهه بين الغروس كأنه وقد تبدت حصباؤه حيّة رقطاء، وحواليه شجر بض ناعم كالخرائد والغيد الحسناوات اللائى يتأنقن فى ثيابهن، ويخيل إليك إذا تفتح الزهر فى أعالى فروعها اللدنة كأنه وخط شيب يجتمع فيه السواد والبياض، ويميلها النسيم مترنحة إذا مر بها كما مال مخمور شرب خمرة الإسفنط المعتّقة، وإنه ليشق رياضا يهطل
(1) نيطت: علقت. سمطا: عقدا.
(2)
كيوان: كوكب زحل.
(3)
تنضتض: سال. رقرقت: لمعت. رقطاء: بلونها نقط.
(4)
خمائلها: حللها. مرط: ذيل طويل للثوب.
(5)
ذوائبها: نواصيها. وخطا: شيبا.
(6)
الإسفنط: خمر معتقة.
(7)
اللجين: الفضة. البسيط: المنبسط من الأرض.
(8)
الغمط: الانتقاص.
عليها جود المنصور الذهبى وعطاياه. ولذلك سواء لديها أسرع الغيث الحقيقى فى انسكابه أو أبطأ، وتلك حياضه تسيل بأسراب الفضة بحارا تسقى الزروع، وتزين تلك الحياض دمية جميلة كأنها الشمس لا تخشى كسوفا ولا غمطا (انتقاصا)، ويقول إن هذه الدمية وما يتناثر حولها من حباب الماء كالبدر ومن حوله النجوم وسط السماء. ويعود إلى وصف القبة منشدا:
إذا غازلتها الشمس ألقى شعاعها
…
على جسمها الفضىّ نهرا بها لطّا (1)
توسّمت فيها من صفاء أديمها
…
نقوشا كأن المسك ينقطها نقطا
إذا اتسقت بيض القباب قلادة
…
فإنى لها فى الحسن درّتها الوسطى
تكنّفنى بيض الدّمى فكأنها
…
عذارى نضت عنها القلائد والرّيطا (2)
قدود ولكن زادها الحسن عريها
…
وأجمل فى تنعيمها النحت والخرطا
نمت صعدا تيجانها فتكسّرت
…
قوارير أفلاك السماء بها ضغطا
فيا لك شأوا بالسعادة آهلا
…
بأكنافه رحل العلا والهدى حطّا (3)
وهو يقول إذا انعكست على القبة أشعة الشمس خلت كأن نهرا من الضياء والنور التصق بها مقابلا للنهر الذى يجرى بجوارها، وخيّل إلىّ من صفاء بياضها وما عليه من النقوش كأنما نقطها المسك، ويقول إذا تحولت القباب البيضاء فى أعالى القصور العظيمة قلادة كانت درّتها الوسطى وقبتها الفريدة التى لا تماثلها قبة. ويقول على لسانها إن الدمى البيضاء أحاطت بى عارية، وكأنها عذارى خلعت عنها القلائد والثّياب وكل زينة، قدود ممشوقة وقد زادها العرى حسنا، والنحت والخرط نعومة ورشاقة، وتعالت تيجانها صاعدة فى السماء حتى حطمت قوارير أفلاكها من النجوم والكواكب، وما أعظمها قبّة شامخة آهلة بالسعادة وقد هبط فى أكنافها وجوانبها رحل العلا والهدى، ويمضى منشدا:
وكعبة مجد شادها العزّ فانبرت
…
تطوف بمغناها أمانى الورى شوطا
ومسرح غزلان الصّريم كناسها
…
حنايا قباب لا الكئيب ولا السّقطا (4)
فلكن به ما طاب لا الأثل والخمطا
…
ووسّدن فيه الوشى لا السّدر والأرطى
ثراه من المسك الفتيت مدبّر
…
إذا مازجته السحب عاد بها خلطا
وإن باكرته نسمة سحرا سرى
…
إلى كل أنف عرف عنبره قسطا
أقرّت له الزهراء والخلد وانثنت
…
أواوين كسرى الفرس تغبطه غبطا
وهو يقول يا لك قبة كأنها كعبة رفعها العز فى عنان السماء وإن أمانى الناس لتطوف بها
(1) لطّ بها: التصق.
(2)
الريط: ملاءة.
(3)
الشأو: الهمة العظيمة ويريد بناء القبة الشامخة.
(4)
الصريم: القطيع. كناسها: بيتها. السّقط: منقطع الرمل.