الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كل مطار فى الأرض وفى السماء، ويقول إنها فاجعة عمت المسلمين وملأت عيونهم بالدموع مدرارا. ونتوقف قليلا لنتحدث عن شاعرى الرثاء:
ابن شعيب الجزنائى
وأبى على اليوسى.
ابن (1) شعيب الجزنّائى
هو أحمد بن محمد بن شعيب الجزنّائى، منشؤه ومرباه فى مدينة تازا، ووفد على مدينة فاس فعرف فضله، والتحق بدواوين أبى سعيد المرينى ثم ابنه أبى الحسن، وكان بين العلماء الذين رافقوه فى فتحه لتونس، وبها توفى سنة 749 هـ/1349 م، وكان مثقفا ثقافة واسعة بعلوم الأوائل، وحذق الطب والفلك والكيمياء والصيدلة، وفيه يقول ابن مرزوق:«أبو العباس أحمد بن شعيب الفقيه المشارك التعاليمى الفاضل الطبيب الأديب النباتى النخبة، أحد فضلاء وقته ونبلاء زمانه، طبقة عالية فى قرض الشعر وإمام فى التعاليم (علوم الأوائل) وواحد فى المعرفة بالأشجار والنبات» . وفى الإحاطة أنه كان يحفظ عشرين ألف بيت للمحدثين وإنه تسرّى جارية رومية اسمها صبح من أجمل الجوارى حسنا فأدبها حتى أحسنت العربية ونظمت الشعر وكان شديد الحبّ لها وتوفيت وكان بعد وفاتها لا يرى إلا فى تأوه دائم، وله أشعار بديعة فى رثائها، ومن قوله فيها:
أعلمت ما صنع الفرا
…
ق غداة جدّ بها الرّفاق
ووقفت منهم حيث لل
…
نظرات والدمع اتساق
سبقت مطاياهم فما
…
أبطا بنفسك فى السباق
أولى بجسمك أن ير
…
قّ ودمع عينك أن يراق
أما الفؤاد فعندهم
…
دعه ودعوى الاشتياق
واها لسالفة الشبا
…
ب مضت بأيّامى الرّقاق
أبقت حرارة لوعة
…
بين الترائب والتّراق
وهو يقول لمخاطبه أعلمت ما صنع فراق «صبح» بى غداة أسرع بى الرفاق، لقد وقفت منهم أفكر فى صاحبتى وأطيل النظر وعيناى تترقرقان بالدموع، وعرفت أنها تركتنى إلى غير أياب فأولى بجسمى أن يضنى صبابة بها وأولى لعينى أن تسيل دموعها سيلا لا ينقطع، أما الفؤاد فعندهم، ودعه، وما أشد حسرتى على أيام الشباب السالفة التى ذهبت بما كنت فيه من متاع ولم تبق لى إلا حرارة لوعة فى صدرى بين الترائب والتراقى لا تبرحنى، ويبكى صبحا فى مرثية أخرى قائلا:
(1) انظر فى ترجمة ابن شعيب الإحاطة للسان الدين بن الخطيب 1/ 272 ونيل الابتهاج للتنبكتى ص 68 والمسند فى ترجمة أبى الحسن المرينى لابن مرزوق ص 375 والوافى 2/ 424 والنبوغ المغربى 1/ 237، 3/ 74، 3/ 277.
يا صاحب القبر الذى أعلامه
…
درست ولكن حبّه لم يدرس
ما اليأس منك على التصبر حاملى
…
أيأستنى فكأننى لم أيأس
لما ذهبت بكل حسن أصبحت
…
نفسى تعانى شجو كلّ الأنفس
يا صبح أيامى ليال كلّها
…
لا تنجلى عن صبحك المتنفّس
وهو يخاطب صاحبته قائلا إن ما حول قبرك من معالم درست وامّحت ولم يدرس حبك ولم ينمح فى قلبى، وإن اليأس منك ومن لقائك لا يحملنى على التصبر، وقد أيأستنى من لقائك وكأننى لم أيأس، ولما ذهبت بكل حسن وجمال أصبحت كأننى أحمل أحزان كل المحبين الذين غادرتهم كل محبوباتهم الحسناوات، ويقول لها إن أيامى كلها بعدك أصبحت كأنها ليل متصل لا يتنفّس ولا يشرق فيه صباح. ويخاطب قبرها منشدا:
يا قبر صبح حلّ في
…
ك لمهجتى أسنى الأمانى
وغدوت بعد عيانها
…
أشهى البقاع إلى العيان
أخشى المنية إنها
…
تقصى مكانك عن مكانى
كم بين مقبور بفا
…
س وقابر بالقيروان
وهو يذكر لقبر صبح إنه حلّ فيه أجمل الأمانى-كانت-لمهجته وروحه، ولقد أصبحت بعد عيانها أشهى البقاع إلى العيان والمشاهدة، وإنّي لأخشى الموت أن يباعد بين مكانك ومكانى، ويقول إنها توفيت بفاس وكان فى القيروان مع أبى الحسن المرينى فى رحلته، ومن رثائه لصاحبته قوله:
يا غائبا فى الضمير ما برحا
…
دانى محلّ الهوى إذا نزحا
لم تضمر الصّبر عنك جارحة
…
ولا فؤادى لسلوة جنحا
مستعبر المزن فيك أدمعه
…
يظلّ يبكيك كلما سفحا
ولا أرى البرق عاد مبتسما
…
بعدك بل زند شوقه قدحا
وما تغنّى الحمام من طرب
…
بل يعلن النّوح كلّما صدحا
وهو يقول لصاحبته إذا غبت ونزحت لا تزالين دانية منى ولا يزال محل هواك قريبا من نفسى، ومعاذ الله أن تضمر الصبر عنك جارحة أو أن يجنح فؤادى إلى سلوان أو عزاء. وإنه ليطلب إلى المزن أن تسبل حتى تفيض أدمعه ويظل يبكيك غيثها، وإنه ليرى البرق فيه كأنه زند شوقه يقدح نارا وشرارا، ويقول إن الحمام لا يتغنى من طرب أو فرح وإنما ينوح كلما صدح نوحا متصلا. وظل مأتم صاحبته صبح قائما وهو ينوح فيه ويندبها حتى أنفاسه الأخيرة.
أبو على (1) اليوسى: الحسن بن مسعود
أهم شعراء الزاوية الدلائية، ولد سنة 1040 هـ/1631 م، ونشأ نشأة متواضعة، وشغف بالعلوم الإسلامية واللغوية، ورحل فى طلبها وتعددت رحلاته إلى مراكش وسوس ودرعة وسجلماسة. وفى نحو العشرين من عمره استقر فى الزاوية الدلائية واختلف إلى حلقات علمائها يتزود منهم، حتى إذا شهدوا له بنبوغه وتفوقه تصدر للتدريس، وظل ناعما فيها بالتدريس إلى سنة 1078 هـ/1668 م، وهى السنة التى استولى فيها السلطان الرشيد العلوى على الزاوية الدلائية بعد هزيمة أهلها أمامه، وقد أخذ كل ما كان فيها من مال وسلاح وكل ما فى الخزائن من الكتب، وأمر شيوخها: اليوسى وغيره بالرحيل إلى فاس، وهدمها ولم يبق منها باقية. وأخذ اليوسى يحاول استعادة مكانته العلمية فى فاس، وأخذ يناله غير قليل من الشهرة، وأقبل على دروسه الطلاب وشاعت مؤلفاته. ونزل مراكش بأخرة من حياته وتصدر فيها للتدريس، وحظى برضا حكام الدولة العلوية وخاصة السلطان إسماعيل. وأدى فريضة الحج وعاد منه ليسلم روحه إلى بارئه سنة 1102 هـ/1691 م. وكان شاعرا بارعا، وله ديوان شعر مطبوع يشهد له-كما يقول الأستاذ ابن تاويت-بمكانة ممتازة فى قرض الشعر الجزل وفى أسلوبه الأخاذ بسحر بيانه الباهر بطول نفسه. ومن أهم قصائده رائية طويلة رثى بها الزاوية الدلائية، وهو يستهلها بقوله:
أكلّف جفن العين أن ينثر الدرّا
…
فيأبى ويعتاض العقيق بها جمرا (2)
وأسأله أن يكتم الوجد ساعة
…
فيفشى وإن اللّوم آونة أغرى
وكانت عيون الحادثات غوافلا
…
زمانا وخطب الدهر كان بنا غرّا (3)
عدت غدوة أيدى الحوادث فاختلت
…
خلاها فعادت بعد نضرتها غبرا (4)
وأبدلن مأنوس الديار وأهلها
…
بوحش وحوّلن الأهيل بها قفرا (5)
فلا جفن إلا وهو مغض على القذى
…
ولا عين إلا من نجيع الشّجا حمرا (6)
وهو يقول إنه كلف عينيه أن تنثر لآلئ الدموع على الزاوية الدلائية فأبتا إلا أن تنثرا دموعا كالعقيق الأحمر بل لكأن العقيق استعاض بها جمرا مشتعلا، ويسألهما أن يكتما الوجد والحزن لحظة أو لحظات فيفشيان همه وغمه، وكأن اللوم يغرى على الإفشاء أكثر فأكثر. وكأن الأحداث كانت غافلة عنها، وكأن خطب الدهر كان غافلا بدوره، وإذ أيدى الحادثات تأتى
(1) انظر فى ترجمة البوسى وشعره: عبقرية اليوسى للدكتور عباس الجرارى والزاوية الدلائية للدكتور محمد حجى ص 97 وكتاب الشعر الدلائى لعبد الجواد السفاط (انظر الفهرس) والنبوغ المغربى 3/ 285 والوافى 3/ 740.
(2)
العقيق: حجر كريم أحمر.
(3)
غرّا: غافلا
(4)
اختلت: قطعت. الخلا: النبات الرطب.
(5)
الأهيل: المأهول بالسكان.
(6)
النجيع: الدم. الشجا: الهم والحزن.
عليها وعلى ما حولها من الكلأ والنبات فإذا هى أرض جرداء بل لقد أصبحت قفرا، وأبدلت بأهلها الناعمين وحوشا، ولا جفن إلا وهو ملئ بالقذى ولا عين إلا وهى من الحزن حمراء كالدم. ويبكى ما كان فيها من رياض وغير رياض منشدا:
رياض إذا أبصرتها ونشقتها
…
فلا تذكرن نجدا ولا تذكرن شحرا (1)
فمن لى بواديها إذا فاح رنده
…
ومن لى بمرعاها إذا أطلع المشرا (2)
ومن لى بروضات يفوق ضياؤها
…
على الشمس حسنا كلما ابتهجت زهرا
وهل نفحة تكفينى المسك فائحا
…
وهل شربة تكفينى الشهد مستمرا (3)
وهل وقفة بين الطّلول التى قضت
…
صروف الليالى فى معالمها نذرا
هنالك إخوان الفؤاد وفتية
…
هم للحشا خمر فما يطلب الخمرا
وننأى عجالا عنهم مثلما نأى
…
أبو صبية عنهم إذا يمّم القبرا
بها هامت الأرواح من قبل خلقنا
…
ومن بعد ما كنا وإذ نبلغ الحشرا
وهى رياض إذا أبصرتها ونعمت بشذاها الذكى لم تعد تذكر ديار نجد الحبيبة ولا ديار الشحر بجوار حضرموت، ومن لى بواديها إذا سطعت رائحة شجر الرند فيه، ومن لى بمراعيها حين تنبت نباتها الأخضر الجميل، ومن لى بروضات بهيجة الزهر بها وإن ضياءها ليفوق ضياء الشمس بهاء وحسنا، وهل نفحة منها كالمسك فائحا وهل شربة فيها كالشهد أستطيع أن أنعم بها؟ . لقد أصبحت طلولا، ويتمنى وقفة بطلولها حيث كان إخوان، حديثهم كأنه الخمر فى لذتها ونشوتها، ولقد بعدنا عنهم سريعا كأب فارق صبيته عجلا قاصدا قبره، ويقول إن أرواحهم بها هامت قبل خلقهم وبعده، وسيظلون يهيمون بها إلى يوم الحشر. ويفضى إلى حشود من الحكم يبدؤها بأن الدهر لا يبقى على أحد، وكم من عظيم كان يعتلى حصنا شامخا هوى به وكم من مليك أصابه بالأرزاء وقهره وأذلّه. وقديما دارت صروفه على دارا ملك الفرس وأذلّ بنى ساسان بعد عزّ لا يماثله عز، وجرّ ذيله على الغساسنة وملوك الحيرة وخلفاء بنى أمية وبنى العباس والمعتمد بن عباد المنفى إلى أغمات بمراكش، فهل يشك أحد فى صولات الدهر؟ . إنه دائما يصول حتى على المحبين إذ يحيل الوصل بينهما هجرا. ويقول:
فلا تركنن للدّهر إن نعيمه
…
ظلال سحاب يمسح السّهل والوعرا
ملول فما باق على عهد خلّة
…
ولا مستديم فيك يسرا ولا عسرا
ولا تأمنن أبناءه إن تحبّبوا
…
إليك فمن يشبه أباه فقد برّا
متى ما ارتجوا رغباء منك تقرّبوا
…
إليك وأبدوا خالص الودّ والبرّا (4)
(1) الشحر: إقليم على المحيط بجانب عمان.
(2)
المشر: النبات الأخضر.
(3)
مستمرا: مريئا سائغا.
(4)
رغباء: أمنية.
وأخفوا ذميما كان فيك وأظهروا
…
جميلا وقالوا ذو محاسن لا تمرى (1)
وإن لم يرجّوا منك خيرا رأيتهم
…
جفاء وإعراضا يولّونك الظّهرا
إذا ما رأوا ذا الوفر لاذوا بذيله
…
وإن لم ينالوا من سحائبه قطرا
وإن بصروا بالمملق اهتزءوا به
…
ومدّوا إليه طرفهم نظرا شزرا (2)
وهو ينصح من يقرؤه أن لا يعوّل على الدهر ويركن إليه. فإن نعيمه كظل سحاب لا يلبث أن يزول ويمحى، وهو ملول الطبع لا يبقى على شيمة، ولا يستديم فيك ما يمنحك من يسر، وحتى العسر أيضا لا يديمه، فكم من معسر فتح عليه أبواب اليسر. ويقول إن أبناءه من الناس لا يؤمنون حتى لو تحبّبوا إليك وأظهروا المودة، فهم جميعا غادرون، ويذكر أنهم إذا رجوا منك جميلا تقربوا إليك وتظاهروا لك بالود والبر الصافى، ونفوا عيوبك وأظهروا محامدك وقالوا إن محاسنك لا تجحد، وإن لم يرجوا منك صنع جميل رأيت منهم جفاء وإعراضا عريضا، أما الغنىّ ذو الوفر فإنهم يلوذون به حتى لو لم يصيبوا منه قطرة من خير، وأما المملق الفقير فإنهم يهزءون به ويعرضون عنه مغاضبين. ويستمر ناصحا قائلا:
وإن الفتى بالنفس لا اللّبس مجده
…
فما شان درّا كون أصدافه كدرا
وإن الغنى ما أورث المرء فى الورى
…
محامد فى الدنيا وعلياء فى الأخرى
وإن تعوز النّعمى فجد ببشاشة
…
فخير القرى أن تبذل الرّحب والبشرا
ومن للهوى ألقى القياد فقد هوى
…
ولو أنه فى المجد قد وطيء النّسرا (3)
ومن يصطنع عرفا إلى غير أهله
…
فليس بلاق من جزاء ولا شكرا
ومن لا يجنّب قوله دنس الخنا
…
فلا يمتعض يوما إذا سمع الهجرا (4)
ومن يدّخر تقوى الإله وذكره
…
على كل حال يحمد السّعى والذّخرا
ومن يغن بالمولى فلن يعدم الغنى
…
إذا لم يجد يوما لجينا ولا نضرا (5)
وهو يقول إن مجد الشخص بنفسه لا بلبسه وزيه، ويضرب مثلا بأن الدر أو اللؤلؤ لا تشينه كدورة أصدافه ويذكر أن الغنى الحقيقى للمرء هو الذى يكسبه المحامد فى الدنيا والعلياء فى الآخرة، وينصح قارئه إن لم يجد ما يبذل لضيوفه من القرى، فخير منه أن يلقى ضيوفه بالبشر والبشاشة والترحيب وحسن اللقاء، كما ينصحه أن لا يلقى قياده للحب ويخضع له فإنه يهوى به مهما بلغ من المجد والسؤدد، ويقول إن من يقدم صنيعا أو جميلا إلى غير أهله فلن يقدموا له جزاء ولا شكورا، ويذكر أن من لا يخلو كلامه من الألفاظ السيئة الذميمة لا يمتعض
(1) لا تمرى: لا تجحد.
(2)
النظر الشزر: النظر بمؤخر العين كناية عن الازدراء والغضب.
(3)
النسر: كوكب. وطئ النسر: كناية عن بلوغ الغاية.
(4)
الهجر: الكلام البذيء الذميم.
(5)
اللجين: الفضة. النضر: يريد الذهب.