المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌4 -شعراء الرثاء - تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف - جـ ١٠

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدّمة

- ‌1 - [الجزائر]

- ‌2 - [المغرب الأقصى]

- ‌3 - [موريتانيا]

- ‌4 - [السودان]

- ‌القسم الأولالجزائر

- ‌الفصل الأوّلالجغرافية والتاريخ

- ‌1 -الجغرافية

- ‌3 -الفتح والولاة-الأغالبة-الإباضية-تلمسان

- ‌(ب) الأغالبة

- ‌(ج) الإباضيون

- ‌(د) تلمسان

- ‌4 -الدولة العبيدية-الدولة الصنهاجية-بنو حماد

- ‌(أ) الدولة العبيدية

- ‌(ج) بنو حماد

- ‌5 -دولة الموحدين-الدولة الحفصية-بنو عبد الواد

- ‌الفصل الثّانىالمجتمع الجزائرى

- ‌2 -المعيشة

- ‌(أ) الثراء

- ‌(ب) الرّفة

- ‌(ج) الموسيقى

- ‌4 -الدين-المالكية والحنفية-الإباضية-المعتزلة

- ‌(أ) الدين

- ‌(د) المعتزلة

- ‌الفصل الثالثالثقافة

- ‌1 -الحركة العلمية

- ‌(أ) فاتحون ناشرون للإسلام ومعلمون

- ‌(ب) دور العلم:‌‌ الكتاتيب-‌‌المساجد-المدارس-الزوايا-المكتبات

- ‌ الكتاتيب

- ‌المساجد

- ‌المدارس

- ‌الزوايا

- ‌المكتبات

- ‌(ج) نمو الحركة العلمية

- ‌5 -التاريخ

- ‌الفصل الرّابعنشاط الشعر والشعراء

- ‌2 -كثرة الشعراء

- ‌3 -شعراء المديح

- ‌ عبد الكريم النهشلى

- ‌ ابن خميس

- ‌ الشهاب بن الخلوف

- ‌ محمد القوجيلى

- ‌4 -شعراء الفخر والهجاء

- ‌(أ) شعراء الفخر

- ‌(ب) شعراء الهجاء

- ‌ بكر بن حماد التاهرتى

- ‌ سعيد المنداسى

- ‌5 -الشعراء والشعر التعليمى

- ‌ عبد الرحمن الأخضرى

- ‌الفصل الخامسطوائف من الشعراء

- ‌1 -شعراء الغزل

- ‌ ابن على

- ‌2 -شعراء وصف الطبيعة

- ‌ عبد الله بن محمد الجراوى

- ‌3 -شعراء الرثاء

- ‌4 -شعراء الزهد والتصوف

- ‌(أ) شعراء الزهد

- ‌(ب) شعراء التصوف

- ‌ إبراهيم التازى

- ‌5 -شعراء المدائح النبوية

- ‌الفصل السّادسالنثر وكتّابه

- ‌1 -الخطب والوصايا

- ‌2 -الرسائل الديوانية

- ‌3 -الرسائل الشخصية

- ‌4 -المقامات

- ‌5 -كبار الكتاب

- ‌[(ب)] الوهرانى

- ‌القسم الثانىالمغرب الأقصى

- ‌الفصل الأوّلالجغرافية والتاريخ

- ‌1 -الجغرافية

- ‌3 -الفتح والولاة-ثورة الصفرية-بنو مدرار-الأدارسة-بعد الأدارسة والمدراريين

- ‌(ب) ثورة الصفرية

- ‌(د) الأدارسة

- ‌4 -المرابطون-الموحدون-بنومرين

- ‌(أ) المرابطون

- ‌(ب) الموحدون

- ‌5 -السعديون-الطرق الصوفية-العلويون

- ‌(أ) السعديون

- ‌(ج) العلويون

- ‌الفصل الثّانىالمجتمع المغربى

- ‌1 -عناصر السكان

- ‌2 -المعيشة

- ‌3 -الثراء-الرّفة-الموسيقى-المرأة

- ‌(أ) الثراء

- ‌(ب) الرّفة

- ‌(ج) الموسيقى

- ‌(د) المرأة

- ‌4 -المالكية-الصفرية-المعتزلة-الظاهرية

- ‌(أ) المالكية

- ‌(ب) الصفرية

- ‌(ج) المعتزلة

- ‌(د) الظاهرية

- ‌5 -الزهاد-المتصوفة

- ‌(أ) الزهاد

- ‌(ب) المتصوفة

- ‌الفصل الثالثالثقافة

- ‌1 -الحركة العلمية

- ‌(أ) فاتحون ناشرون للإسلام ومعلمون

- ‌ الكتاتيب

- ‌(ب) دور العلم: الكتاتيب-المساجد-المدارس-الزوايا-المكتبات

- ‌المساجد

- ‌المدارس

- ‌الزوايا

- ‌المكتبات

- ‌(ج) نمو الحركة العلمية

- ‌2 -علوم الأوائل

- ‌3 -علوم اللغة والنحو والعروض والبلاغة

- ‌5 -التاريخ

- ‌الفصل الرّابعنشاط الشعر والشعراء

- ‌1 -تعرب المغرب الأقصى-كثرة الشعراء

- ‌(أ) تعرب المغرب الأقصى

- ‌(ب) كثرة الشعراء

- ‌2 -شعراء الموشحات والأزجال

- ‌(أ) شعراء الموشحات

- ‌ ابن غرلة

- ‌ ابن الصباغ

- ‌ ابن زاكور

- ‌(ب) شعراء الأزجال

- ‌ابن عمير

- ‌3 -شعراء المديح

- ‌ ابن زنباع

- ‌ ابن حبوس

- ‌الجراوى

- ‌ ابن عبد المنان

- ‌الهوزالى

- ‌الدغوغى

- ‌البوعنانى

- ‌4 -شعراء الفخر والهجاء

- ‌(أ) الفخر

- ‌ الشاذلى

- ‌(ب) الهجاء

- ‌5 -الشعراء والشعر التعليمى

- ‌ عبد العزيز الملزوزى

- ‌ابن الونان

- ‌الفصل الخامسطوائف من الشعراء

- ‌1 -شعراء الغزل

- ‌ أبو الربيع الموحدى

- ‌ عمر السلمى

- ‌2 -شعراء الوصف

- ‌3 -شعراء الرثاء

- ‌ ابن شعيب الجزنائى

- ‌4 -شعراء الزهد والتصوف

- ‌(أ) شعراء الزهد

- ‌(ب) شعراء التصوف

- ‌ ابن المحلى

- ‌5 -شعراء المدائح النبوية

- ‌ميمون بن خبازة

- ‌ مالك بن المرحل

- ‌الفصل السادسالنثر وكتّابه

- ‌1 -الخطب والمواعظ

- ‌2 -الرسائل الديوانية

- ‌3 -الرسائل الشخصية

- ‌4 -المقامات والرحلات

- ‌(أ) المقامات

- ‌(ب) الرحلات

- ‌ رحلة ابن رشيد

- ‌ رحلة العياشى

- ‌ رحلة ابن ناصر

- ‌5 -كبار الكتّاب

- ‌(أ) القاضى عياض

- ‌القسم الثالثموريتانيا

- ‌الفصل الأوّلالجغرافية والتاريخ

- ‌1 -الجغرافية

- ‌2 -التاريخ

- ‌الفصل الثّانىالمجتمع والثقافة

- ‌1 -المجتمع

- ‌(أ) صنهاجة وقبائل المعقل العربية

- ‌(ب) الزروع والمراعى

- ‌(ج) التجارة

- ‌(د) حياة يدوية

- ‌2 -الثقافة

- ‌(أ) نشاط دينى تعليمى كبير

- ‌(ب) التعليم والطلاب والشيوخ

- ‌(ج) أمهات الكتب والمتون والشروح المتداولة

- ‌(د) أعلام العلماء فى موريتانيا

- ‌(هـ) القراء والمفسرون والمحدثون والفقهاء

- ‌(و) أعلام النحاة والمتكلمين

- ‌الفصل الثالثنشاط الشعر والشعراء

- ‌1 -تعرّب موريتانيا

- ‌2 -شعراء المديح

- ‌ ابن رازكة

- ‌3 -شعراء الفخر والهجاء

- ‌(أ) شعراء الفخر

- ‌ المختار بن بون

- ‌(ب) شعراء الهجاء

- ‌4 -شعراء الرثاء

- ‌الفصل الرّابعطوائف من الشعراء

- ‌1 -شعراء الغزل

- ‌ الأحول الحسنى

- ‌ يقوى الفاضلى

- ‌2 -شعراء التصوف

- ‌ المختار الكنتى

- ‌الشيخ سيديّا

- ‌3 -شعراء المدائح النبوية

- ‌ محمد بن محمد العلوى

- ‌4 -الشعراء والشعر التعليمى

- ‌القسم الرابعالسودان

- ‌الفصل الأوّلالجغرافية والتاريخ

- ‌1 -الجغرافية

- ‌2 -التاريخ

- ‌3 -(ج) دولة الفونج

- ‌4 -محمد على والسودان-عهد إسماعيل

- ‌5 -حركة المهدى-خليفته عبد الله التعايشى

- ‌الفصل الثّانىالمجتمع السودانى-الثقافة

- ‌(أ) نزعة صوفية عامة

- ‌(ب) المرأة ومكانتها فى التصوف

- ‌(ج) التصوف والتربية الخلقية والدينية

- ‌(د) طرق صوفية جديدة

- ‌(هـ) دعوة المهدى ومبادئها الستة

- ‌2 -الثقافة

- ‌(أ) كتاتيب-زوايا-مساجد

- ‌(ب) حركة علمية نشيطة فى عهد الفونج

- ‌(ج) سودانيون أزهريون وعلماء مصريون

- ‌(د) التعليم المدنى الحديث وتوقفه

- ‌(هـ) إنشاء معهد دينى وعودة التعليم المدنى الحديث

- ‌الفصل الثالثنشاط الشعر والشعراء

- ‌2 -شعراء المديح

- ‌ الشيخ حسين زهراء

- ‌ الشيخ محمد عمر البناء

- ‌3 -شعراء الفخر والحماسة

- ‌ الشيخ يحيى السلاوى السودانى

- ‌ عثمان هاشم

- ‌4 -شعراء الرثاء

- ‌(أ) رثاء الأفراد

- ‌ الشيخ محمد سعيد العباسى

- ‌(ب) رثاء المدن

- ‌الفصل الرّابعطوائف من الشعراء

- ‌1 -شعراء الغزل العفيف

- ‌2 -شعراء النقد العنيف والشكوى من الزمن

- ‌الشيخ عبد الله البناء

- ‌ صالح عبد القادر

- ‌3 -شعراء التصوف

- ‌4 -شعراء المدائح النبوية

- ‌ الشيخ عمر الأزهرى

- ‌ الشيخ عبد الله عبد الرحمن

الفصل: ‌4 -شعراء الرثاء

العلماء. . ولا يوجد عالم بعده إلا وله عليه الفضل الجزيل بما استفاد من مصنفاته، وتلقى من مسنداته».

‌4 -

شعراء الرثاء

للرثاء عند العرب-منذ الجاهلية-ثلاث صور: صورة الندب وبكاء الميت والنواح عليه من ذوى القربى، وصورة التأبين ورسم فضائل الميت لبيان خسارة القبيلة أو المجتمع فيه، وصورة العزاء وبيان أن الموت كأس يتجرعه البشر جميعا، فالكل ميت ولا بقاء لأحد، وكثيرا ما تختلط هذه الصور فى المرثية الواحدة. وفى كل عصر وفى كل قطر تلقانا عشرات المراثى بل أحيانا مئاتها، وهى كثيرة فى موريتانيا، وقد عرض منها المرحوم الشنقيطى والدكتور محمد المختار عشرات، ونعرض بعض أمثلة منها، من ذلك قول ابن رازكه يرثى أعمر آكجيل التروزى (1):

هو الموت عضب لا تخون مضاربه

وحوض زعاف كلّ من عاش شاربه (2)

وما الناس إلا واردوه فسابق

إليه ومسبوق تخبّ نجائبه (3)

يحبّ الفتى إدراك ما هو راغب

ويدركه-لا بدّ-ما هو راهبه

وكم لابس ثوب الحياة فجاءه

على فجأة عاد من الموت سالبه

وما صان حبرا علمه وكتابه

ولا ملكا أعلامه وكتائبه

وهو يبدأ مرثيته بالعزاء، فالموت سيف مصلت على رقبة كل إنسان، لا تخونه مضاربه، وحوض سم قاتل، كلّ من عاش على ظهر الدنيا لا بد شاربه، والناس جميعا واردوه، سابق إليه ومسبوق تعدو به ركائبه. ويتعلق الإنسان فى دنياه بما يرغب فى تحقيقه ويدركه الموت الذى يرهبه، وكم من لابس لثوب الحياة يفجئوه عاد من الموت يسلبه عنه ويخلعه. ولا يصون العالم الجليل منه علمه وكتبه، ولا يصون الملك راياته وكتائبه. ويرثى القاضى أحمد بن يوسف البوحسنى ويقول فيه مؤبنا (4):

فتانا ومفتينا المصيب وشيخنا

ونبراسنا فيما يهمّ ويسدف (5)

بصير بحلّ المشكلات كأنما

يكاشف عن أسرارها ثم يكشف

تملّك أطراف القضاء وفقهه

وما هو إلا مالك أو مطرّف (6)

(1) الوسيط للشنقيطى ص 15.

(2)

عضب: سيف قاطع. زعاف: سم قاتل.

(3)

تخبّ: تعدو. نجائبه: ركائبه.

(4)

الوسيط ص 18.

(5)

نبراس: مصباح. يسدف: يظلم.

(6)

مالك: الإمام مالك بن أنس. مطرف: قاضى صنعاء المشهور.

ص: 585

وهو يصفه بأنه المفتى المصيب والمصباح الذى يضئ ظلمات المشكلات العلمية، وكأنما يكشف له أسرارها ويكشفها للناس، وقد امتلك فتاوى القضاء وفقهه فى أحكامه حتى لكأنه مالك مفتى المدينة أو مطرف قاضى صنعاء. ويقول محمد اليدالى الذى مرت ترجمته مؤبنا المختار بن الفاضل (1):

لهفى على لوذعىّ ذى ندى وتقى

وهيبة تملأ الأفكار والحدقا (2)

وذى معارف ربّانيّة وهدى

وهمة علت العيّوق والأفقا (3)

علم الحقيقة والشريعة اجتمعا

له فأضحى يربّى من به التحقا

وبحر جود وعلم زاخر وإذا

ما معتفوه أتوه فاض واندفقا (4)

شعاره البرّ والتقوى وديدنه

رضا الإله، خديم الضيف إن طرقا (5)

واليدالى يتحسر على موت ابن الفاضل ويقول إنه حاد الذكاء كريم صالح، تملأ هيبته العيون والأذهان، متصوف له معارف إلهية وهدى وعزيمة تعلو الأفق والنجوم، وقد اجتمع فيه علم الشريعة والحقيقة الصوفية، وبهما كان يربى تلاميذه، وهو بحر زاخر للعلم والجود. وإذا ما أتاه سائلوه فاض عليهم بحر جوده وعلمه وتدفق من كل جانب، شعاره الإحسان والتقوى ودأبه رضا الإله، وإن ألم به ضيف كان خادمه: فرط جود وكرم. ويقول حرم بن عبد الجليل فى رثاء مولود بن أجفغ اليعقوبى (6):

أتنعون مولودا وما انقضّ كوكب

ولا فارق النور الغزالة والبدرا (7)

ولا زلزلت زلزالها الأرض يومه

وما أبدت الأشراط آياتها الكبرى (8)

وما شغل الناس البكا عن أمورهم

كأنّ صروف الدّهر ما أحدثت أمرا (9)

لقد غيّبت من غاب عند مغيبه

فواضل شتّى لا نطيق لها حصرا

وطوبى لقبر أودعوه عظامه

فيا ليت أنّى كان صدرى له قبرا

وحرم يندب صديقه مولودا ويتفجّع عليه ويبلغ من حزنه أنه يعجب كيف لم ينقضّ كوكب ولا فارق النور الشمس والقمر ولا زلزلت الأرض ولا أبدت الساعة أشراطها وعلاماتها الكبرى جزعا على موت مولود، كما يعجب أن الناس لم يشغلهم البكاء على الميت العظيم عن شئونهم، كأن صروف الدهر ونوائبه ما أحدثت شيئا، مع أنها غيبت من لا يستطيع أحد

(1) الشعر والشعراء فى موريتانيا ص 294.

(2)

لوذعى: عالم ذكى. ندى: كرم.

(3)

العيوق: نجم.

(4)

معتفوه: سائلوه وطالبو جوده.

(5)

ديدنه: دأبه وعادته.

(6)

الشعر والشعراء فى موريتانيا ص 296.

(7)

الغزالة: الشمس.

(8)

الأشراط: علامات الساعة.

(9)

صروف الدهر: خطوبه ونوائبه.

ص: 586

إحصاء فواضله، وطوبى لقبر أودعوه عظامه، ويتمنى أن لو كان صدره له قبرا، وهو بيت رائع. ويقول محمد العلوى المتوفى سنة 1264 هـ/1848 م-وكان شيخ طريقة وعالما فى الفقه والعربية والبلاغة-راثيا الشيخ محمدا الحافظ العلوى قائلا (1):

سهرت جفونك والمصاب مسهّد

يرثى لليلتك السليم الأرمد (2)

ورثت لك الخنساء، بعد متمّم

ورثى لبيد يوم فارق أربدا

لمصيبة صدمت فؤادى صدمة

كادت بنات الجوف منها تصعد

وجرى الدموع على الخدود كأنها

نظم جرى من سلكه متبدّد

وتصدّعت كبدى لها وكأنما

بجوانحى منها حريق موقد

وإذا بكيت شجى عليه فإنه

تبكى وتندبه جموع حفّد (3)

وبكى عليه ليله ونهاره

والصّوم يبكى والتهجّد يرعد

وبكت بقاع كان يعبد ربّه

فيها فيركع ما يشاء ويسجد

وهو يقول إنه لم يغمض له جفن حين سمع المصاب، وكأنما كل ندب وكل تفجع فى ميت كان فيه، حتى لكأنه لدغ مرات، وكأن تفجع الخنساء على أخيها صخر، وندب متمم لأخيه مالك بن نويرة، وبكاء لبيد لأخيه أربد، كل ذلك كان رثاء حارّا للمصيبة التى نزلت به وصدمته صدمة كادت أمعاؤه منها تصعد، وجرت دموعه على خدوده كأنها سلك، تبددت حبّاته، وتشققت كبده، وكأنما فى جوانحه حريق موقد. ويقول إن الجموع من حوله تبكيه، ويبكى عليه ليله ونهاره، وصومه نهارا وتهجده ليلا، ويستمر يذكر أن كل شئ يبكيه، تبكيه صلاته ووضوءه ومسجده والكتب والأقلام والدواة والمصحف وبقاع الحرمين الطاهرة ويعددها مكانا مكانا، ثم يقول-كما فى البيت الأخير-إنه عبد ربه فيها وركع وسجد له طويلا. والمرثبة بديعة. ولمحمد وبن محمدى العلوى يرثى الشيخ مولود قال منشدا (4):

ما لراجى الخلود نيل الخلود

إنّ ورد المنون حتم الورود

أتطيب الحياة والشيخ أمسى

غيّبته مغيّبات اللّحود

إنّ مالى من اصطبار تولّى

إذ تولّى إنسان عين الوجود

طود علم ينحوه كلّ مريد

من حماه يفرّ كلّ مريد (5)

وإذا سدّ باب علم عويص

كان مفتاح بابه المسدود

علم الأصل والفروع إلى أن

ليس فى العلم يبتغى من مزيد

(1) الشعر والشعراء فى موريتانيا ص 301.

(2)

السليم: الملدوغ. الأرمد: من أصاب عينه الرمد.

(3)

حفد: حاشدة.

(4)

الشعر والشعراء فى موريتانيا ص 311.

(5)

مريد: شيطان.

ص: 587

وهو يقول إن الخلود لا يناله أحد، إذ كلّ وارد على حوض الموت مسلم روحه إلى ربه، ويقول إن الحياة أصبحت لا تطيب وقد مات الشيخ وغيّبته اللحود، وقد تولّى عنى صبرى إذ فارقنى إنسان عين الوجود، وهى مبالغة واضحة. ويذكر أنه طود علم كان يؤمه مريدون كثيرون، ومن حماه وتقاه يفر الشيطان المريد، وإذا سدّ باب علم عويص معقد كان مفتاح بابه المسدود فما يلبث أن يفتح على مصاريعه. وقد علم الأصول والفروع علما لا يلحقه فيه لاحق. وله مرثية أخرى فى محمد الدنبج التندغى. ويقول الشيخ سيديّا الكبير المتوفى سنة 1284 هـ/1868 م فى رثاء الشيخ الصوفى المختار الكنتى وزوجه الصالحة (1):

جادت سحائب رأفة الرحمن

بهوامل التكريم والرّضوان (2)

وبوصف محض الودّ والزّلفى على

جدثين حلّ حشاهما الشيخان (3)

لاحا وأحلاك الجهالة فحمة

وملابس البدع الجداد مثان (4)

والدّين منهدم القواعد مركس

بأخامص الطغيان والعصيان (5)

فغدا منار الدين بعد تهدم

ثبت الأساس مشيّد الأركان

وهو يدعو للشيخ وزوجته بأن تهمى عليهما سحائب رأفة الرحمن بمنهر التكريم والرضوان وبمحض الود والزلفى على قبريهما، ويقول إنهما ظهرا ودياجى الجهالة فحمة، وملابس البدع المحدثة لا تحصى، والدين منهدم القواعد وعاليه مركس بباطن أقدام الطغيان والعصيان، فأصبح بفضلهما منار الدين راسخ الأساس رفيع الأركان. ويقول محمد بن حنبل الحسنى فى رثاء الشيخ سيديّا الكبير (6) المذكور آنفا:

أرى الملّة البيضاء جلّ مصابها

ففاضت مآقيها وطال انتحابها (7)

وقاست بفقد الشيخ وجد مصابه

بواحدها لما تولّى شبابها

وأظلم وجه الأرض حتى كأنما

تردّت مدادا غوطها وحدابها (8)

وزلزل أقطار البلاد فأصبحت

شواهقها مهتزّة وهضابها

وزعزع آطام الهدى وحصونه

وقوّض فسطاط العلا وقبابها (9)

وهو يقول إن وفاة الشيخ سيديّا مصاب كبير لشريعة الدين الحنيف، وكأنما قاست حزن سيدة فقدت واحدها أو ولدها الواحد ويقول إن وجه الأرض أظلم وارتدت رياضها

(1) الشعر والشعراء فى موريتانيا ص 316.

(2)

هوامل: مسائل.

(3)

جدثين: قبرين.

(4)

مثان: تتكرر وتتردد.

(5)

مركس: مضروب. أخامص جمع أخمص: باطن القدم.

(6)

الشعر والشعراء فى موريتانيا ص 323.

(7)

الملة البيضاء: الدين الحنيف وشريعته.

(8)

غوطها: رياضها. حدابها: كثبانها.

(9)

الفسطاط: الخيمة الكبيرة.

ص: 588

وكثبانها مدادا أسود شديدا، وزلزلت أنحاء البلاد واهتزت جبالها وهضابها وزعزعت منازل الهدى وحصونه وهدّمت خيام العلا وقبابها. وهى مبالغات شديدة فى الرثاء تعبيرا عن مدى الحزن الذى أصاب الشاعر والناس بوفاة هذا الشيخ الصوفى. ونتوقف قليلا إزاء أحد شعراء الرثاء.

باب (1) بن أحمد بيب العلوى

كان أبوه عالما فاضلا ناسكا مشارا إليه-كما يقول الشنقيطى-فى بلده وجيله، ملحوظا بعين التعظيم فى معشره وقبيله. ويقول عن باب إنه العالم الأوحد الذى أغار ذكره وأنجد. ومرّ بنا أنه أكمل كتاب الديباج فى تراجم فقهاء المالكية من القرن الثامن الهجرى حتى القرن الثانى عشر. ولما كفّ عمه-وكان قاضيا-أنابه عنه فى قراءة الحديث للطلاب والناس حتى وفاته، واشتد الخلاف بينه وبين ابن خاله حرم الذى مرت ترجمته فى مسألة من مسائل الوقف، وانضم إلى كل منهما طائفة من العلماء والشعراء، وكان فقيها محدثا ناسكا. ويقول الشنقيطى عنه: قلما مات أحد ممن يشار إليه فى قبيلته إلا رثاه، توفى سنة 1276 هـ/1860 م. ومن قوله فى رثاء عبد الله بن حرمة بن الصبار العلوى:

كان عبد الإله برّا تقيّا

نزه النفس طاهر الأثواب

صحب الصالحين وهو صغير

لم ينل منه عنوان الشباب

كان برّا بأمّه وأبيه

ورفيقا بجاره ذى الجناب (2)

وهو فى لزبة الزمان ربيع

ذو جفان كأنهنّ جوابى (3)

كلّ يوم تراه يدرس علما

وهو بالليل قائم المحراب

يقول باب إن عبد الله كان صالحا تقيا نزيها عن الصغائر طاهر الأثواب، صحب الصالحين ناشئا فى شبابه، وكان بارا بأمه وأبيه ورفيقا بجاره البعيد فضلا عن القريب. وفى أيام الشدة والجدب يصبح ربيعا للناس وتكتظ مائدته لهم بقصاع كالحياض مترعة بالطعام، وفى كل يوم يدرس للطلاب والناس علما وفى الليل يخلص لربه مصليا فى المحراب. ويقول فى رثاء محمد بن أحمد الحسنى:

(1) انظر فى ترجمة باب وشعره الوسيط ص 34 والشعر والشعراء فى موريتانيا ص 306 وما بعدها.

(2)

ذى الجناب: يريد البعيد.

(3)

لزبة: شدة. الجفان جمع جفنة: القصعة. الجوابى جمع جابية: الحوض.

ص: 589

فعل الجليل جميل فارض ما فعلا

رمى بقلبك شجوا أو رمى جذلا (1)

واذكر مصيبة خير الخلق تسل بها

إذا عليك مصاب معضل نزلا (2)

به تيتّم-إذ أودى-بنو حسن

يتم ابن يومين والعافون والنّزلا (3)

لو ساعدتنى القوافى ما تركت لمن

يرثى مقالا ولا يشفى لى الغللا (4)

وباب يدعو للرضا بقضاء الله وكل ما ينزله بالإنسان من حزن أو فرح، ويقول إن مصيبة الأمة فى خير الخلق رسولها الكريم يجعل كل فرد فيها يتعزّى بها عن كل ما ينزل به من مصاب فادح أو كما يقول شديد عسر. وقد أصاب باليتم من يعولهم من بنى حسن والسائلين والضيفان. ولو ساعدته القوافى ما ترك لراث أو نادب مقالا، ومهما قال فلن يستطيع شفاء ما يكنه من حرارة الحزن عليه. ويقول فى رثاء زوجته مريم بنت محمد مولود:

همّ تأوّبه من بعد ما هجعا

قد بات منه يراعى النجم مكتنعا (5)

أضحى الفؤاد به من لوعة خبلا

والعين تسكب من تذرافها دفعا

يبكى على مريم يوما وحقّ له

أن لا يزال عليها باكيا وجعا

يا ليلة بتّها جنب المليحة لم

أهنأ وقد نام عنى القوم مضطجعا

حتى دعاها إلى المولى المهيمن ما

يدعو الملوك ويدعو الأعصم الصّدعا (6)

يا ربّ مريم قد وافتك وافدة

فاجعل لها جنّة الفردوس مرتبعا

ومريم زوجة باب هصر الموت غصن شبابها فى سن الواحدة والعشرين وقد تركت ولديها فاطمة وأحمد وقلبه مشغوف بهما، وهو يقول إن همّا ظل يعاوده بعد هجوعه قليلا، وظل سهران يراعى النجوم فى غروبها وكأنما أصابه لشدة لوعته خبل، وعينه تذرف الدمع مدرارا، ويبكى على مريم بكاء حارّا ويتوجع وما كان عليه أشد من ليلتها الأخيرة وهو بجوار محبوبته يتجرع الحزن وقد نام الناس جميعا، ودعاها إلى ربها الموت الذى يدعو الملوك والوعول والوحوش الفتيّة، ويدعو لزوجته ربه أن يدخلها فراديس الجنان. ويستمر فى القصيدة ويدعو الله أن يلطف بولديها وأن تصلى عليها الملائكة وحاملو العرش والأنبياء والمسلمون فى صلاة الجمعة وحجاج بيت الله الحرام، ويسترجع مستسلما للقضاء. والمرثية مؤثرة بالغة التأثير.

(1) شجوا: حزنا. جذلا: مسرة.

(2)

معضل: شديد أو لا يمكن البرء منه.

(3)

العافون: السائلون.

(4)

الغلل جمع غلة: حرارة العطش وتستعار لنار الوجد والحزن.

(5)

مكتنعا: مائلا إلى الغروب.

(6)

الأعصم الصدع: الوعل الفتىّ القوى.

ص: 590