الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهو يقول إن مثله مثل شعراء الصوفية يذكر أماكن المحبوبات التى يذكرها أصحاب الغزل العذرى، وهى فى واقع الأمر منازل وأماكن ليس لها معنى عند الصوفية إلا معنى التواجد والشوق للمحبوب، ويقول إنه إنما يذكر سكان العذيب تسترا وتواجدا وليس ذكرهم من شأنه، وإنما هو إعلان لحبه وهيامه بربه، وإنه ليحل هواه فى قلبه حتى ليصبح هو الحب كله، وإنه ليذكره دائما فى خاطره وعلى لسانه، وإنه لحبيب لا أرى غيره فى الوجود إذا نظرت من حولى، ومع أنى لا أراه يرانى، ومن فضله علىّ هيامى به وتولهى، ومن كرمه ما أشتكى منه فى حبه وأعانى. ويشعر فى هيامه كأنما يطير إلى ربه طيرانا، وكأنه براه أو خلقه ربه لحبه، وهو حب صوفى سنى وليس فيه أى أثر للنزعة الفلسفية عند المتصوفة.
5 -
شعراء المدائح النبوية
يشغف المسلمون فى مشارق الأرض ومغاربها بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنذ أرسل وبعث وهو مهوى أفئدتهم، يمدحونه ويتغنون بمحبته ومناقبه ومعجزاته، ويتوسلون به إلى ربهم ويتشفعون مؤمنين بأنه المثل الكامل فى الورع والنسك والعمل بتعاليم رسالته. وإذا كان قد تغنى بمديحه أفراد فى حياته، فإن الأقاليم الإسلامية تغنت به وبسيرته وبشمائله فى كل بلد وكل عصر. والمغرب الأقصى مثله مثل الأقاليم العربية جميعا أكثر من التغنى بمديحه ورسالته منذ عصر المرابطين الذى أخذ فيه الشعر المغربى يزدهر ويتكاثر ويشترك فيه كثيرون، على نحو ما يلقانا فى أرجوزة تشتمل على نحو سبعة آلاف بيت لمحمد بن عيسى بن المناصف القرطبى الأصل المتوفى بمراكش سنة 620. ومن أوائل من نجده شغوفا بالسيرة النبوية الكريمة وبفضائل رسول الله القاضى عياض وكتابه «الشفاء» فى السيرة النبوية العطرة مشهور. وله فى زيارة الرسول صلى الله عليه وسلم (1):
قف بالرّكاب فهذا الرّبع والدار
…
لاحت علينا من الأحباب أنوار
بشراك بشراك قد لاحت قبابهم
…
فانزل فقد نلت ما تهوى وتختار
هذا النبىّ الحجازىّ الذى شهدت
…
له بتقديمه رسل وأخبار
هذا الشفيع الذى ترجى شفاعته
…
للمذنبين إذا ما اسودّت النار
بادر وسلّم على أنوار روضته
…
قبل الممات ولا تشغلك أعذار
يا خيرة الرسل يا أعلى الورى شرفا
…
قد أثقلتنى آثام وأوزار
فكن شفيعى لما قدمت من زلل
…
ومن خطايا فإن الربّ غفّار
وهو يستوقف الرّكب أو القافلة فقد وصلوا إلى دار المصطفى صلى الله عليه وسلم ولاحت أنوار من قبله
(1) الوافى 1/ 56.
عليهم، ويقول لنفسه بشراك فقد لاحت قباب الضريح النبوى ومسجده، وينبغى أن أنزل من فوق بعيرى، فقد نلت ما أهوى وأوثر، فهذا النبى الحجازى الذى تهفو إليه القلوب والذى بشرت به الرسل وأخبار الكتب السماوية، وهو الشفيع للمذنبين من أمته حين تتأجج نار الجحيم وتقول هل من مزيد. ويقول لكل مسلم: بادر وسلم على أنوار روضته التى قال فيها النبى صلى الله عليه وسلم: ما بين قبرى ومنبرى روضة من رياض الجنة، وينبغى أن يزورها ويكتحل بأنوارها قبل مماته، ولا تشغله عن الزيارة القدسية أعذار. ويتجه بالخطاب إلى الرسول: يا خيرة الرسل وصفوتهم وأسمى الورى شرفا أثقلتنى آثام وأوزار كثيرة، فكن شفيعى لما قدمت من عثرات وخطيئات عند ربى، وإنه للغفار العظيم. ومن توسلات القاضى عياض الطريفة قوله متوسلا بالرسول الكريم (1):
إليك مددت الكفّ أستمطر الفضلا
…
وأستكشف البلوى وأستعطف الطّولا
دعوتك مضطرّا فعجّل إجابتى
…
بتفريج كرب طالما واصل الهولا
وأنت ملاذى يا مرادى وسيّدى
…
فسامح مسيئا قد جنى الجدّ والهزلا
نداء من الأعماق يا فالق النّوى
…
ويا سامع النّجوى ويا من هو الأعلى
يتيم من الطاعات عفوك يرتجى
…
قه الفقر والإفلاس والفقد والذّلاّ
بجاه رسول الله فارحم تضرّعى
…
ونفّس همومى كلّها الفرع والأصلا
لجأت إلى باب الكريم لفاقتى
…
فليس لنا مغن سواه ولا مولى
وصلّ على قطب الوجود محمّد
…
صلاة تعمّ الرّسل والصّحب والأهلا
وهو يتوسل ضارعا إلى الرسول الكريم قائلا: إليك مددت كفى أستمطر وأستنزل الفضل طالبا كشف ما نزل بى من البلوى مستعطفا التفضل الكريم، ويقول قد دعوتك مضطرا فأجب دعائى عاجلا بتفريج كرب طالما شقيت به وبلغ بى هولا ما مثله هول، وأنت يا سيدى رسول الله ملاذى وملجئى ومقصدى، فسامحنى: سامح مسيئا طالما تجنّى فى جده وهزله. ويستغيث بربه قائلا: إنه نداء من أعمق الأعماق فى نفسى يا فالق الحب عن النبات والنوى عن النخيل وسامع النجوى الخفية يا ربى الأعلى إننى يتيم من الطاعات، والذنوب تثقل ظهرى، فارحم تضرعى تجاه رسول الله، وفرّج همومى جميعا الفرع منها والأصل وقد لجأت إلى بابك أيها الكريم لفاقتى وإنك وحدك المغنى وليس لنا مولى سواك. ربّى صلّ على قطب الوجود ومداره وسيده صلاة تعم الرسل وصحبه وآله.
(1) الوافى 1/ 57.
ونمضى إلى عصر الموحدين ونلتقى بميمون بن على الصنهاجى الفاسى المشهور باسم ميمون بن خبازة نسبة إلى خاله الشاعر الشهير بابن خبازة، لملازمته إياه وله مدحة نبوية طويلة. وسنترجم له عما قليل. وندخل فى عصر المرينيين ويلقانا فى أوائله مالك بن المرحل ومدائحه النبوية وسنخصه بترجمة، ونلتقى بأبى العباس العزفى المتوفى سنة 633 من أهل سبتة الذى أنشأ فى بلدته-وبالتالى فى المغرب الأقصى-الاحتفال بالمولد النبوى وكان قد سبقه إلى ذلك أبو سعيد كوكبورى صاحب مدينة إربل. وأكبر الظن أن الذى ألهمهما ذلك احتفال المسيحيين بميلاد عيسى فى الحروب الصليبية بالمشرق واحتفال المسيحيين به فى الأندلس. واستنّ أبو العباس العزفىّ أن ينشد الشعراء فيه مدائحهم النبوية وتسمى الميلاديات، وكان لمالك بن المرحل غير ميلادية أنشدها فى احتفال أبى العباس العزفى. وتعنى الدولة المرينية-طوال القرن الثامن-بهذا الاحتفال، إذ يقول الحسن الوزان فى كتابه: وصف إفريقيا: «كان من عادة الحاكم فى أزهى أيام الدولة المرينية أن يحتفل بالمولد النبوى فيدعو إلى قصره العلماء وأهل الأدب فى مدينته: فاس، وكان الشعراء المجلّون يلقون فى هذه المناسبة قصائدهم بحضور الحاكم، وكان المنشدون يقفون فوق مصطبة عالية. وفى نهاية الحفل استنادا إلى حكم أشخاص من ذوى الخبرة كان الملك المرينى يمنح لأكثر الشعراء نبوغا وتفوقا مائة دينار وحصانا وجارية وكسوة، ويعطى كل شاعر من الشعراء الآخرين خمسين دينارا فينصرف الجميع وقد حصل كل منهم على جائزته أو مكافأته» . ويقول الوزان تتمة لذلك إنه كان ينادى فى أيامه أوائل القرن العاشر الهجرى على الشاعر الذى ترى لجنة التحكيم أنه الأفضل شعرا بأنه أمير الشعراء لذلك العام (1). ولا ريب فى أن هذا الصنيع كان يحدث تنافسا حميدا بين شعراء فاس عاصمة المرينيين. ويشير الأستاذ ابن تاويت إلى مدحة نبوية للرحالة العبدرى فى أواخر القرن السابع الهجرى وميلادية لمحمد بن يحيى العزفى أنشدها فى احتفال لأبى سالم المرينى، ويذكر لعبد الرحمن المكودى المتوفى سنة 807 للهجرة مقصورة ويأخذ فى تحليلها. وفن المقصورات قديم بدأه ابن دريد بمقصورة فى مديح أمير سامانى ملأها باللفظ الغريب واختار لها وزن الرجز. ونظم حازم القرطاجنى مقصورة فى مديح أبى زكريا الحفصى. . غير أن المكودى أول مغربى نظم مقصورة من الرجز فى مديح المصطفى وضمنها طائفة من الألفاظ الغريبة، ووصف فى مطالعها الرحلة إلى الحجاز وألّم بذكريات شبابه فى موطنه وضمنها كثيرا من الحكم ومن الحديث عن غزوات الرسول وعن مصير بعض الدول الإسلامية والدول التى أدال الله منها للإسلام مثل دولتى الأكاسرة والقياصرة وعرّج على بعض الدول العربية البائدة القديمة، ومن قوله فى مديح الرسول صلى الله عليه وسلم:
(1) وصف إفريقيا (طبع السعودية) ص 263.
وليس ذخرى غير مدح أحمد
…
سيّد أهل الأرض طرّا والسّما
وأصبح الدين القويم قيّما
…
سما على الأديان طرّا وعلا
وكم له من آية بيّنة
…
ومعجزات مثل إشراق الضحى
ويغلب على المقصورة السرد مما يفقدها فى كثير من جوانبها الجمال الشعرى. وكما مدح الرسول فى العصر المرينى بالمدائح الشعرية مدح بالموشحات، ومن أطرفها موشحة ابن سعيد المكناسى المذكورة فى الحديث عن الموشحات ص 383.
وتعنى الدولة السعدية باحتفالات المولد النبوى وخاصة حاكمها المنصور الذهبى، وتكثر فيها المدائح النبوية المسماة بالميلاديات، وعادة يستطرد الشاعر فيها إلى مديح الحاكم، ويقول المقرى فى كتابه:«روضة الآس» : «ما قيل فى الموالد النبوية التى احتفل لها هذا الخليفة المنصور لا يمكن حصره» ثم يذكر أنه كانت تصنع شموع أعظم من الأسطوانات يطاف بها فى فاس، حتى إذا وصلوا إلى قصر الخليفة أدخلوها فى ساحة كبيرة متخذين لها آلات عظيمة من النحاس المحكم الصنعة فتوضع فوقها وترى صاعدة فى السماء كالمنارة، ويحشر الناس إلى ذلك، ويدعى المنشدون للأشعار وتنثر عليهم الفضة، ويأمر لكل شخص منهم بكسوة وجوائز قد تبلغ الآلاف (1). ويضيف عبد العزيز الفشتالى فى كتابه مناهل الصفا إضافات كثيرة فى هذا الاحتفال الذى كان أشبه بعيد ضخم يمتد طوال الليل، وكان المنصور يبدأ الاحتفال الرسمى به بعد صلاة الفجر وقد اصطفت جذوع الشموع أمام قبة قصره منافسة للنخيل والمآذن فى الضخامة مختلفة الألوان من بيض لؤلؤية وحمر أرجوانية وخضر سندسية، ويغصّ السرادق المنصوب للناس بالشرفاء والقضاة والفقهاء والكتاب والشعراء والقراء وبعد فراغ الواعظ من فضائل الرسول صلى الله عليه وسلم وسرد معجزاته يقدّم أهل الذكر والإنشاد، ثم تتعالى الأصوات بمدائح الرسول المسماة بالمولديات أو الميلاديات نسبة إلى مولده أو ميلاده الشريف، ثم يتبعهم أهل الذكر بالرقيق من كلام الشيخ الصوفى الأندلسى أبى الحسن الششترى، ثم ينشد الشعر. والمتبع فى الإنشاد أن يقف بإزاء الشاعر مسمع ينيبه الشاعر عنه فى إنشاد قصيدته، ويعود الشاعر إلى مكانه. ويذكر الفشتالى الوليمة المهيأة للعيد، ويقول بعد أيامها توزع صلات الشعراء وعليها توقيعات الخليفة المنصور. ويسوق عبد العزيز الفشتالى بعض ما كان ينشد فى هذا العيد لعهد هذا الخليفة (2). وبكتاب روضة الآس للمقرى نحو عشرين ميلادية لشعراء مختلفين أنشدت فى هذا العيد أيام المنصور منها خمس لعبد العزيز الفشتالى شاعره وكاتبه،
(1) روضة الآس ص 13.
(2)
انظر مناهل الصفا تحقيق الأستاذ كنون ص 221 وما بعدها.
وأهم ميلادياته نونية، يستهلها باستيقاف ركب متجه إلى الأرض الطيبة: أرض الحجاز، ويتمنى زورة للرسول الكريم تشفى جفونه القريحة بنظرة يغمرها النور النبوى ويحيّى ربوع مكة والمدينة القدسية التى تلت بها الملائكة أفانين ذكر وقرآن، ثم يقول (1):
محمّد خير العالمين بأسرها
…
وسيد أهل الأرض م الإنس والجان
ومن بشّرت ببعثه قبل كونه
…
نواميس كهّان وأخبار رهبان
وإن كتاب الله أعظم آية
…
بها افتضح الميّان وابتأس الشانى (2)
نبىّ الهدى من أطلع الحقّ أنجما
…
محا نورها أسداف إفك وبهتان (3)
لعزّته ذلّ الأكاسرة الألى
…
هم سلبوا تيجانهم آل ساسان
وأحرز للدّين الحنيفىّ بالظّبا
…
تراث الملوك الصّيد من عهد يونان (4)
وهو يقول محمد خير العالمين وسيد أهل الأرض من الإنس والجن، إنه صفوة خلق الله ومن بشرت بأنه مبعوث شرائع الكهان وأخبار الرهبان، فقد كان العالم ينتظره لينقذه مما يعانيه من هوان وظلم وضلال. فأرسله الله رحمة وهداية للعالمين، وللإنس والجن يحمل فى يده وصدره معجزته الكبرى: القرآن الكريم الذى لا تماثله معجزة سابقة ولا لاحقة، وبها افتضح الكذابون المفترون والحاقدون الشانئون. نبى الهدى الهادى الذى أطلع الله به نور الحق ليمحو به كل كذب وبهتان. ولعزته ذل الأكاسرة السّاسانيون وألقوا عن يد وهم صاغرون، وتملّك الدين الحنيف بالظبا والسيوف تراث سادة الملوك القياصرة من عهد يونان والزمن القديم. وللتاستاوتى المتوفى سنة 1127 للهجرة مدحة نبوية فى أربعمائة بيت، يجعل مقدماتها لمديح موطنه وتاريخ الإسلام وبعض دوله، ويخص المديح النبوى بثلاثمائة بيت من ذلك قوله (5):
أيخاطب العبد الذى لعبت به
…
شهواته صدر الصدور الأوحد
نكن تحقّق بالأدلّة عندنا
…
لا شخص أحلم فى الورى من أحمد
أنت المؤمّل فى الشدائد كلها
…
أنت الجواد الغيث للمسترفد
أنت الذى من أمّ بيتك راغبا
…
ولو اقتضى أمرا عظيما يسعد
أنت الذى سعدت بك الأشياء قا
…
طبة ومن يقصد سعيدا يسعد
وهو يعجب-لكثرة ذنوبه-من جراءته على مخاطبة أعظم مخلوق بشرى، ويعود إلى نفسه فيقول إنه تحقق لديه بالأدلة أن رسول الله أحلم من على وجه الأرض، ولذلك قصده وهو يعلم أنه حليم كريم آملا فى ذرة من حلمه وكرمه، ويتجه له بالخطاب قائلا: إنك
(1) شعر عبد العزيز الفشتالى تحقيق نجاة المرينى ص 420 وما بعدها.
(2)
الميّان: الكاذب. الشانئ: المبغض.
(3)
إفك: كذب.
(4)
الصيد: ذوى السلطان.
(5)
الوافى 3/ 772.